قضايا وآراء » السياسة في الزمن القياسي

علي فضل الله

لم يعد جامعو المعلومات السياسية ومحللوها قادرين على اللحاق بتسارع الأحداث السياسية في السنوات الأخيرة، وبات الجديّون منهم ينتظرون مرور وقت معتبر قبل النطق باستشرافهم لمستقبل غامض ومتبدّل في كل يوم. ما بال السياسة تتسارع بهذا الشكل؟ أم أن هذا هو قدر زمن التحولات في عصر الإعلام السريع ومشاركة الأفراد في صناعة التأثير العام؟ بهذا المعنى، قد يكون هذا الزمن محورياً في إطلاق عقود مظلمة، أو بداية عصر ذهبي للبشرية، بالاستعارة من نوستراداموس، حيث رباعياته تبدو مناسبة لجنون المرحلة.
ليس العالم بخير، وإن كانت منطقتنا في غرب آسيا وشمال أفريقيا دائمة الاشتعال في زمن &laqascii117o;ربيع" لم يزهر إلا أشواكاً وإجراماً. فهل راقبتم خطابات مرشّحي الرئاسة الأميركية الشعبوية والمحافظة، ولاسيما خطاب ترامب الذي دفع بابا الفاتيكان لانتقاده في بادرة لافتة؟ لماذا يتنافسون في إطلاق الوعود باستعادة أميركا لعظمتها؟ فهل تقديرات بول كينيدي وأرقام العجز وتراجع &laqascii117o;الحلم" سرت في أوصال الأمة الأميركية وضربت جانباً من ثقتها بالمستقبل؟ ماذا عن تململ الولايات الجنوبية السبع، وأزمة استعادة الكلام عن كونفدرالية دفنها أبراهام لينكولن بمعية السود المحررين، وقرب حدود المكسيك المشتعلة بصمت؟ وماذا عن اليسار الأميركي، خصوصاً تجاربه المرتبكة في جنوب القارة، والسعي الحثيث للحاق بروما الضائعة؟

أزمات أوروبا
أما في أوروبا، فقد توقّع لاتحادها تقرير &laqascii117o;ستراتفور" الاستخباري الانقسام إلى أربع أجزاء خلال السنوات العشر المقبلة. فبريطانيا مقبلة على استفتاء حول بقائها في الاتحاد الأوروبي، وهي بذاتها بالكاد نجت، قبل عام، من انقسام كاد يجعلها مملكة غير متحدة. أما في غرب أوروبا، فتزيد قوة تيارات شعبوية من اليسار (كإسبانيا)، واليمين (كإلمانيا)، في ظل قلق متعدّد الأوجه في الاقتصاد والأمن والثقافة والديموقراطية وطموحات الشباب التي تمّ احتواء اندفاعاتهم من قبل النخب البيروقراطية الحاكمة. من ناحيتها، فإن الدول الاسكندنافية تبتعد تدريجياً عن هموم الجنوب الأوروبي، وتسعى لحماية دورها الوسيط المترَع بالخدمات المكلفة مالياً. وتبقى دول أوروبا الشرقية المأزومة في هويتها وموقعها المركزي في كل النظريات الجيو ـ السياسية منذ القرن التاسع عشر.

روسيا والصين والأسئلة المعلّقة
روسيا، أمة بنقاط قوة وضعف عدة، يستجمع رئيسها الرخامي كافة إمكاناتها لتثبيت موطأ قدم للعقود المقبلة، إلى حد تشجيع كنيسته على الانفتاح على الفاتيكان بعد ألف عام من الافتراق. وقد تمكّن فلاديمير بوتين من شدّ العصب القومي لشعبه برغم قصور اقتصاده عن تغطية سياساته. وللمفارقة، في عصر القوة الناعمة التي احتكرها الغرب طويلاً، أن 77 في المئة من الروس يُعدّون أنفسهم سعداء، برغم تهويل الإعلام الغربي، وطبقة رجال الأعمال المحيطة ببوتين، بمخاطر الانهيار الاقتصادي الوشيك. اندفع بوتين في جورجيا وكرواتيا وسوريا، ولم يهز قارب علاقاته الوثيقة بإسرائيل والصين، وحافظ على علاقات تقاطع مصالح مع إيران، وشعرة معاوية مع الغرب وحلفائها العرب. إلى أين تتجه روسيا؟ هذا سؤال مهم، لكن الإجابة عليه ليست متيسّرة. فتقرير &laqascii117o;ستراتفور" توقع لها التراجع بسبب العقوبات الغربية وانهيار الروبل وتزايد النفقات. يسعى بوتين للتعبير عن توق لاستعادة مجد روسيا، بعد &laqascii117o;فرساي" انهيارها قبل ربع قرن.
أما الصين، فمع كثرة المتحدثين عن ذاك المارد الذي استيقظ، فقلة هم فعلاً قادرون على فهمها ووصفها واستشراف مستقبلها. فهناك عناصر قلّما يتم الالتفات إليها، ولاسيما أحوال الشباب الصيني والنازح بكثرة من الأرياف إلى المدن، وذي التفضيلات المختلفة تماماً عن جيل آبائه الكادحين. ولا يمكن الركون إلى التقارير الغربية في فهم الصين، لغلبة التحيز على &laqascii117o;موضوعيتها" الموضعية، وفق تعبير الأســـتاذ الهندي أمارتيا سين. طبعاً، الـــــعرب بعيدون تماماً عن المواكبة الجادة لكل هذه السيولة المتفاقمة في شرق آسيا.

الشرق الأوسط: المنطقة الرمادية
أما في منطقتنا، فقد فاق تسارع الأحداث قدرة وكالة الأمن القومي الأميركي على تعقب الاتصالات المفيدة. باتت هذه المنطقة رمادية في أذهان المحللين الجديين للسياسة الاقليمية. فإيران تنمو وسط تحديات هائلة ربما وكانت ألفتها منذ 37 عاماً، ويستعين قادتها بالسنن التاريخية في القرآن والحديث لبث الهدوء في التخطيط، وتعزيز الصبر الاستراتيجي. لم تتعرض ثورة، في التاريخ الحديث، لهذا الكم من العداء الذي لا يخبو، وما زالت تناطح الصعاب وتدفع أثماناً &laqascii117o;لا تُصدَّق" من أجل أهداف فيها من المبدئية الكثير، كما وصف الباحث الإسرائيلي موشيه فيرد. هل سيبقى الإيرانيون مستعدّين للتضحية من طرف واحد، وفي ظل حجود أغلب حلفائهم؟
وفي تركيا، تسللت الشعبوية الأردوغانية لتنهي فصلاً من الانضباطية الأتاتوركية المنتقمة من نظام الخلافة غير الرؤوف. فصرنا نجد &laqascii117o;بلوكاً" شعبياً صلباً خلف السلطان الذي يشنّ حروباً شرسة ضد الكرد والصحافة وكل الدول المحيطة. ليس من المرجح أن الرئيس، الذي رفع 1845 دعوى قضائية ضد خصومه الإعلاميين والسياسيين، مرتاح لما يجري داخل بلاده، بعيداً عن الإعلام، وقرب حــدوده، حيث تسلّط الأضواء الإعلامية. فتسارع الأحداث مقلق، فانتقلت آسيا الصغرى من &laqascii117o;صفر مشكلات" إلى &laqascii117o;لعبة صفرية".
أما في مصر، فالتجاذب الشديد بين الحاجات الداهمة والعراقة التاريخية وعبقرية المكان ينهك المجتمع قِبال أفق يبدو مسدوداً. ومَن يسمح للخطاب الأخير لعبد الفتاح السيسي يلحظ من انفعاله عدم ارتياح تكيتيكي، فضلاً عن الاستراتيجي. فلم يعُد &laqascii117o;الأمر فيها لمن غلب"، بل لمجموعة من الضباط ورجال الأعمال ومتزعّمي جماعات تزداد تطرفاً، خصوصاً في سيناء وعلى الحدود الليبية غير المضبوطة. ونجد في دول المغرب العربي انزياحاً لمشاكل الشرق التفتيتية في ظل مقاومة تونسية وجزائرية ومغربية. أما في السودان، فقد رمى عمر البشير كل أوراقه دفعة واحدة على طاولة المساومات، في تعبير متجدّد عن &laqascii117o;سوء أداء" المفاوض العربي.
في العراق، أصبح الفساد السياسي والمالي عقبة كأداء في وجه جهود مكافحة الإرهاب والتآمر الخارجي. كان الأجدى بورثة نظام البعث القاسي طلب الخير &laqascii117o;في بطون شبعت ثم جاعت"، وتوليتها مقاليد السلطة، في بلد يحمل مخزوناً معرفياً وقيمياً كبيراً، أضف إلى موارده المالية المبعثرة. بمقدور العراقيين حلّ مشاكلهم بأنفسهم، لكن الضغط الخارجي والترهّل السلطوي يُشيعان أجواء من التشاؤم في إمكانية إصلاح الأمور، والأيام تتسارع.
أما في المملكة النجدية المذهّبة، فهي قلقة من كل شيء، يقول جوناثان بولاك. تندفع إلى الأمام من دون التفات إلى الأضرار الجانبية التي قد تكون مهلكة. أصبحت المملكة تثير قلق رعاتها الأميركيين الذي يستنفرون طاقاتهم اليوم لضبط صراعاتها الداخلية والخارجية. وبات البريطانيون، مؤسسو الانتروبولوجيا الاستعمارية، أكثر اهتماماً بمصير حكام شبه الجزيرة بطلب أميركي. وكل يوم، تطالعنا مقالات عدة في كبريات الصحف الغربية التي تطرح أسئلة وجودية حول استمرار الحكم السلالي في الرياض. ويحصل هذا في وقت يزداد الاستنزاف في اليمن الذي لطالما ابتلعت قبائله الريفية جحافل الغزاة. فمن يأخذ ثأره في اليمن، ولو بعد أربعين عاماً، يكون مستعجِلاً.
في بلاد الشام، وبرغم تزايد الفرص الاستراتيجية التي يمكن أن تفيد إسرائيل في ظل تكالب العرب على بعضهم، فإن قلقها الوجودي يزداد فعلاً. برغم كل شيء، فإن نظام الخدمات الداخلي الإسرائيلي، المحمي جيداً من أجهزة عسكرية وأمنية، يبدو أنه مؤقت. تغيّرت الأسئلة في تل أبيب: فمنذ 30 عاماً، كانت إسرائيل أسطورة كَوَت الوعي العربي بقدرتها، أما اليوم، فهي محل تندّر آخر عربي برغم قوتها. هذا تغيير استراتيجي مهم، فقد أثبت الإسرائيلي أنه فاشل في ما يتعلق بالدعاية لنفسه، رغم غزارة الفرص.
وفي سوريا، ثبت أن نظام بشار الأسد باقٍ، ما لم تحدث مفاجأة غير متوقعة. فيها تتطاحن العظام سعياً إلى حجز مكان في تسويات العالم. وبدا في سوريا أنه برغم كبر المشاريع المتنازعة فيها، فإن الإرادة القتالية لجندي واحد على الجبهة تغيّر معادلة. لذا، زاد إسهام الأفراد في صنع الأحداث، الأمر الذي جعل فهم ما يحدث أكثر صعوبة. لكن يبقى أن الجبهة الجنوبية تبقى الأخطر في تغيير موازين القوى السوري، برغم مفصلية معركة حلب المرتقبة. وهناك الأردن، الذي أعلنت الولايات المتحدة رفع دعمها له إلى مستويات قياسية، حيث يتم البحث في دور أكثر أهمية له على حدوده الشمالية.
في لبنان، لا رصيد استراتيجي فيه، سياسياً، إلا لقوة المقاومة التي تحذرها إسرائيل. ولذلك، يترقب الجميع مسار الأحداث الغريب في المنطقة في سنة هي فعلاً سنة كبيسة. لم تعُد متيسرة قراءة السياسة الراهنة بمجهودات فردية، ولا ربما بعمل مجموعات. يحتاج التحليل السياسي اليوم إلى تأمل متواصل لفهم ما وصفه البابا فرنسيس بأنه &laqascii117o;حرب عالمية ثالثة على دفعات. لذلك، فإذا أمكن تطبيق الداروينية الاجتماعية على واقع السياسة الدولية اليوم، فإن صراعات البقاء لن تختم إلا بالبقاء للأصلح، وليس الأقوى.
 
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد