إبرهيم فرغلي
خلال فترة وجيزة شهدت المحاكم المصرية حكمين قضائيين أثارا ضجة وجدلا كبيرا في القاهرة، بتهمة واحدة هي ازدراء الأديان، حيث حكم بالسجن لمدة عام واحد على إسلام بحيري، ثم بالسجن ثلاث سنوات على الكاتبة فاطمة ناعوت، وتغريمها أيصا مبلغ 20 ألف جنيه (نحو 2500 دولار).
يعود الجدل الذي تتسبب به هذه الأحكام إلى اعتبارات عدة، أولها أن ازدراء الأديان مفهوم واسع نسبيا، وخصوصا حين نرى، على سبيل المثل، أنه اتهام سبق لبعض المحاكم المصرية أن وجهته إلى كل من المفكر نصر حامد أبو زيد، والكاتبة نوال السعداوي، وكذلك الشاعر الراحل حلمي سالم، وعدد كبير آخر من كتاب وفنانين في ظروف وسياقات مختلفة، بينهم مثلا الفنان الشعبي حكيم، بسبب فيديو أغنية مصور.
يعود الاعتبار الثاني إلى أن الدستور ينص على حرية العقيدة، وحرية التفكير والتعبير في مادتين متتاليتين هما المادة 64 التي تنص على أن 'حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السموية، حق ينظمه القانون'، والمادة 65 التي تنص على أن 'حرية الفكر والرأي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر'، ما يجعل الكثير ممن يتلقون أخبار هذه المحاكمات يتشككون في الدوافع الحقيقية، ومدى كونها دوافع سياسية، تحركها جهات مستفيدة منها، في توقيت دقيق يتعرض فيه الأزهر في مصر لانتقادات حادة حول مسؤوليته عن انتشار خطابات الكراهية والتحريض على مدى العقد الأخير، وساهمت في كوارث عدة ممثلة في الفتن بين الأقباط والمسلمين تارة، أو بين السنّة والشيعة خصوصا خلال فترة وجود 'الاخوان': في الحكم. وهذا ما سلط عليه الضوء بعض المختصين والإعلاميين، من خلال الإشارة إلى مقتطفات بعينها بين مناهج الأزهر التي تدرس الآن مواد تحرض على كراهية الملل الأخرى، إما في غياب التدقيق والمراجعة من الجهات الإشرافية على المناهج التعليمية للأزهر، وإما ربما بعلم من يعلمون.
لقد كان خروج الجموع في مصر في 30 حزيران 2013 تأكيدا لرفض شعبي مطلق ليس فقط لـ'الاخوان'، بل ولمنطق دس السم في العسل، ولكل مشروع سياسي يستخدم الدين في مجتمع متدين على طريقته، ولم يعرف عنه التطرف. وربما لا يبدو أن جهات عدة في مصر اليوم تستوعب العبرة من ذلك الخروج الذي أنار ليل القاهرة بحشود غير مسبوقة. ولا أظن بشكل شخصي أن تزايد حملات التكفير ووسم الكتّاب أو كل صاحب رأي نقدي بالخروج على الملة يمكن أن تستمر مطولا، وخصوصا في دولة طالبت فيها القيادة السياسية، ربما للمرة الأولى في التاريخ المعاصر، قيادات الأزهر بتحمل مسؤولياتها في تجديد الخطاب الديني، في توقيت لم يعد يحتمل أي تأخير.
أعتقد أن المثقفين اليوم مطالبون بوقفة جادة لحمل الحكومة المصرية على فحص مواد القوانين التي تقيّد حرية التعبير، وبينها المادة 98 من قانون العقوبات التي تعود إلى السبعينات حين وضعت في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات تخوفا من هجوم المتشددين الإسلاميين على المسيحيين على المنابر وفي خطب المساجد.
تنص هذه المادة على أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز الـ5 سنوات أو بغرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز الـ1000 جنيه؛ كل من استغل الدين في الترويج بالقول أو الكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار منطوقة بقصد الفتنة أو تحقير أو ازدراء الأديان السموية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي، فيما تنص المادة 161 على أن يعاقب بتلك العقوبات كل تعدٍّ يقع بإحدى الطرق المبينة بالمادة 171 على أحد الأديان التي تؤدي شعائرها علناً.
وها هي المادة نفسها اليوم لا تزال تستخدم على أيدي أشخاص لا صفة لهم، بعد ثورة شعبية يفترض أنها قامت أولا باسم الحرية. فما هي الصفة التي تؤهل محامياً رفع دعوى قضائية على فاطمة ناعوت للقيام بذلك؟ وما هي الفئة التي يمثلها في الحقيقة؟ هل يمثل عموم المسلمين؟ هل يمثل الإسلام؟ من الذي منحه حق الحديث باسم المسلمين واتهام فاطمة بازدراء الأديان؟ ثم هل عقوبة السجن تعني عدم اقتناع ناعوت بما قالته أو كتبته واتهمت بناء عليه بازدراء الأديان؟
إن هذه الحوادث البالغة الخطورة ستولد أسئلة عديدة وإشكالات أكبر مما يتخيله من يلعبون بالنار اليوم.
في النهاية، هذا ليس دفاعا عما تقوله ناعوت أو أي شخص آخر، فليس مضمون ما يقال أو يكتب هنا أو هناك هو الموضوع، بل القضية هي الدفاع عن حق ناعوت في أن تقول ما ترى أو تعتقد طالما تملك الأسانيد، وعلى من يعارض ذلك أن يقدم الحجة والرأي البديل. الدفاع هنا عن حق حرية التعبير، وحرية النقاش، والتفكير، والرد على الرأي بمثله، أيا كان. فعقوبة صاحب الرأي لا يمكنها أن تمنع الناس من التفكير، أو التوقف عن الجدل، أو عن الرجوع إلى مصادر التراث، وقراءة المسكوت عنه في نصوص التراث التي تتنافر مع المدوّنات الرسمية التي يعتبرها أهل السنّة موثوقاً بها، حتى لو كانت منقولة عن بشر آخرين وليس لها صفة القداسة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل أصحاب عقيدة أو طائفة.
الإصلاح الديني يحتاج إرادة قانونية جديدة جنبا إلى جهد الأزهر المأمول ووزارة التعليم، ولا يمكن أي طرف أن ينتهج إصلاحا من دون إصلاح المنظومة كاملة.
المصدر: صحيفة النهار