لميس أندوني
دعوة الرئيس الأميركي باراك أوباما الى الانسحاب من الشرق الأوسط والتركيز على جنوب آسيا، اثارت تكهنات، هي موجودة أصلاً، تفيد بأن إسرائيل فقدت أهميتها الاستراتيجية، بل وأصبحت عبئاً على واشنطن.
هناك مؤشرات تعزز هذا الاستنتاج، أهمها خلاف اوباما مع اللوبي الصهيوني واليمين الأميركي حول ثلاثة مواقف مهمة: أول هذه المواقف هو إعلان الإدارة الأميركية في أوائل عهدها أن تجميد المستوطنات شرط لاستئناف ونجاح المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وإن كان حصل تراجع عن ذلك نتيجة ضغوط من اللوبي الصهيوني ومن داخل الإدارة نفسها. لكن من اعتمد هذا الموقف من واشنطن متهم لهذه اللحظة بأنه شجع الفلسطينيين على عدم قبول أي من المقترحات لإحياء عملية السلام وفقا للرؤية الإسرائيلية.
أما حقيقة أن التعنت جاء من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فلم تشفع لأوباما. فقد ارتكب الأخير &laqascii117o;خطيئة" طرح الفكرة بشكل رسمي. إذ إن اللوبي الصهيوني، وبعكس المسؤولين العرب والفلسطينيين، تهمه المفردات التي تشكل الرأي العام، لأن الهدف هو شرعنة المستوطنات واستثنائها من المساومات التفاوضية.
اللحظة الخلافية الثانية، مع نتنياهو ومناصريه من داخل وخارج اللوبي الصهيوني الرسمي، كانت لحظة رفض اوباما إعطاء الضوء الأخضر لتدخل عسكري أميركي في آب العام 2013 لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، ليس حباً بالشعب السوري، بل لأن هناك اعتقادا حقيقيا داخل النظام الأميركي، وليس اللوبي الصهوني فحسب، يفيد بأن القرار كان &laqascii117o;خطأ استراتيجياً" قد يُفقِد واشنطن سيطرتها ونفوذها في المنطقة.
لذلك يواجه اوباما انتقادات حادة من شخصيات صهيونية مؤثرة ويمينية أميركية، مفاده أن &laqascii117o;تردده" خلق فراغا في الشرق الأوسط، وهذا ما عرضه لاتهامات بتقويض تاريخي للنفوذ الأميركي، وفتح ثغرة كبيرة، دخلت من خلالها روسيا وبقوة غير مسبوقة منذ إنتهاء الحرب الباردة، الى المنطقة.
النقطة الخلافية الثانية، وقد تكون الأهم، هي عدم رضوخ اوباما للضغوط من داخل وخارج الإدارة الأميركية المناهضة للاتفاق النووي مع إيران، بل اعتباره الاتفاق مع طهران من أهم انجازاته ومن تركته التاريخية.
هنا تجدر الاشارة إلى ان نقاط الاختلاف، وإن أدت الى انقلاب اهم مستشاري اوباما، وابرزهم دينيس روس ضده، الصهيوني الأهم الذي يتبوأ مناصباً مؤثراً في كل الادارات الأميركية منذ بداية الثمانينيات، لا تشكل بمجموعهاً تخلياً أميركياً عن إسرائيل، ولا عن اعتبارها الحليف الاستراتيجي الأهم والأقرب في المنطقة.
لكن مواقف اوباما، وعلى وجــــه الخصوص اصراره على الاتفاق النـــووي مع إيران إنما تدل على أن المؤسسة الأميركية قادرة على وضع حد فاصل بين المصلحة الاستراتيجية الأميركية والمصالح الإسرائيلية، خاصــة حين تكون الحكومة في تل أبيب تضع طموحاتها فوق الاعتبارات الأميركية.
في نظر اوباما ومن يؤيده في المؤسسة الأميركية، فإن الاتفاق مع طهران وإلغاء العقوبات الاقتصادية ضد إيران لا يشــــكل تهديدا لإسرائيل، بل يقلل الخطر عليها في المدى القريب والبعــــيد، بناء على استنتاج مفاده أن كلتا الخطوتين ســـوف تسهم في تقوية &laqascii117o;الاتجاه المعتدل" الذي يمثــــله الرئيس حسن روحاني ورؤوس الأموال المستفـــيدة من الانفتاح الاقتــــصادي، والــــجاهزة لتغيير سياسي في طهران يخرجها من معادلة العداء لإسرائيل.
لكن نتنياهو، لا يقبل بأقل من القضاء على البرنامج النووي الإيراني، تؤيده في ذلك بعض المنظمات اليهودية في أميركا، خاصة المرتبطة بصناعة الأسلحة، وعلى وجه الخصوص المؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي التي تضم في عضويتها عددا كبيرا من قيادات الجيش الأميركي المتقاعدين، والمختصة بدعم ترسانة الأسلحة الإسرائيلية وتوسيع التجارة بها.
لذلك لم يكن من المستغرب ان يختار اوباما صحافيين من اهم مؤيدي إسرائيل هما توماس فريدمان من نيوويرك تايمز وجيفري غولدبرغ من الاتلانتيك، والـــــثاني إسرائيلي ـ أميركي خدم في الجيش الصهيوني، ومعروف بكتاباته المضادة للانتـــفاضات الفلسطينية والمقاومة ضد إســرائيل، لترويج الاتفاق مع إيران ومحاولة الدفاع عن نفسه في وجه الاتهامات، وفي الوقت نفسه تخفيف حدة الحملة عليه في اوساط اليمين الأميركي.
اختيار اوباما الصحافي غولدبرغ في سلسلة بوح، وإن كانت مدروسة، ليس مصادفة، فهو لم يكن ليختار كُتَّابا بارعين غير غولدبرغ أمثال كريس هيدجيز او جون لي اندرسون، لكنــــه أراد أن يبعث برسالة تطمينية لإسرائيل، لكن في الوقت نفسه تــــحذيرية، مفادها أن ليس كــــل ما يضعه قادة إسرائيل من اهداف استراتيجية تصــــبح وبشكل تلقائي جزءا من الاستراتيجية الأميركية.
هذه بحد ذاتها رسالة مهمة لأنها تتناقض مع اللوبي الصهيوني ومؤيديه، الذي يهمه التأكيد على أن مفهوم الأمن القومي الإسرائيلي، بمتطلباته المتغيرة، هو جزء لا يتجزأ من مفهوم الأمن القومي الأميركي. لكن الرسالة تلك، على أهميتها، لا ترقى إلى تخلي أميركا عن حليفها الاستراتيجي، وعدم الحفاظ على تفوقه العسكري على العالم العربي والدول المحيطة.
تَهافُتُ مرشحي الرئاسة الأميركية على المشاركة ومحاولةُ كسب تأييد المشاركين في المؤتمر السنوي لـ الإيباك، اي اللوبي الصهيوني الرسمي، اثبتا المكانة الكبيرة لإسرائيل في السياسة الأميركية. إذ، وكــــالمعتاد، تصرف المرشحون من كلا الحزبين الجمهوري و الديموقراطي كما لو كانوا في بازار لبيع أنفسهم، وفي سباق محموم للتأكيد على أنهم الأحرص على إسرائيل وراحتها وأمنها.
حتى الديموقراطي بيرني ساندرز، المرشح الأكثر تحدياً للمؤسسة الرسمية الأميركية، لم يجرؤ على إعلان مقاطعته، بل حاول التهرب بحجة &laqascii117o;تعارض في المواعيد، واقترح مشاركة عبر الفيديو، وهو ما رفضته رئاسة الإيباك، وذلك في تعبير عن استياء قيادات الإيباك من خطابه الوسطي حيال اسرائيل والفلسطينيين، وعدم اقتناعها بدعوى انشــــغاله بارتــــباطات مسبقة، خاصة انه اليهودي الوحيد في سباق الرئاسة الأميركية.
لكن ذلك لا يعني ان المنظمات اليهودية لم تتلق رسالة اوباما، إذ أعلنت رفضا مدوياً لها حين قابل المشاركون في المؤتمر هجوم المرشح الجمهوري دونالد ترامب الكاسح ضد أوباما بالتصفيق، وهو ما أحرج رئاسة المؤتمر، ودفعها إلى نشر اعتذار عن ردة فعل المشتركين.
الخوف ان يُساء تفسير رسالة اوباما الى إسرائيل من قبل الحكام والمثقفين، وأن تُعتبر بداية تحول اميركي نحو العرب او أي من قضاياهم وخاصة القضية الفلسطينية، إذ ما زالت أميركا تؤمن أن اي حل او تسوية، او حتى إدارة للنزاع، لا يمس بشرعية إسرائيل أي بشرعية ابقاء سيطرتها لو تحت مسمى حل الدولتين؛ ولن يتغير ذلك إذا لم يتغير الوضع العربي، سواء كان في ضوء استمرار التمزق تحت شعار الطائفية، او الخنوع لكسب السيد الأميركي.
المصدر: صحيفة السفير