عبد الله زغيب
قبل أكثر من اثنين وعشرين قرناً، وفي قلب روما عاصمة الجمهورية الرومانية السابقة للإمبراطورية، بدأ الجهاز الدعائي بنشر ما اتفق على كونه المنتج الأول القريب من فكرة الصحيفة، سُمّي المنشور هذا بـ الأكتا ديورنا ما يوازي بالعربية السجلات العامة اليومية. وقتها جاء القرار بإنتاج هذه المنشورات، انطلاقاً من قناعة لدى مجلس الشيوخ بأن المنابر لم تعُد كافية لصناعة الرأي العام أو قولبته وفقاً لمقتضيات المرحلة، من مصالح وطنية أو سياسية أو حتى سلطوية فردية، فكان للكلمة المدوّنة وقعها &laqascii117o;السحري" الخاص على عموم المواطنين، خاصة عقب الطفرة القوية لتعلم القراءة بين الطبقة الوسطى، وهكذا، ومنذ ذلك الوقت، ترسخت القناعة لدى نخب الامبراطوريات والكيانات والدول حتى بدايات القرن العشرين، بأن الكلمة تفوق الصوت البشري المباشر، في وقعها وأثرها، وسهولة تناقلها بين الفئات المجتمعية المستهدفة.
مع انطلاقة الحروب النابليونية بداية القرن التاسع عشر، شهد مصطلح الـ &laqascii117o;بوليتين" أو النشرة بأقرب المعاني العربية، انتشاراً منقطع النظير، وكان وقتها عبارة عن مجموعة مكتوبة من أخبار الجبهات، مخصصة للجماهير في الداخل الفرنسي، في سبيل الحصول على أكبر قدر من الدعم وكذلك التطوّع في صفوف القوات المسلحة. وبقيت التسمية هذه حتى يومنا هذا، وباتت تعني نشرة الأخبار بشكل مباشر. وعلى هذه الشاكلة جاءت أهمية التدوين الخبري المباشر، بمعزل عن فكرة الكتابة وتنوّعها السابقة لمسألة الصناعة الخبرية &laqascii117o;الترويجية"، فهي كانت جزءاً أساسياً وما زالت في الجهد الحربي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، الخاص بأي بلد منخرط في صراع او معركة، وكذلك على مستوى الساحات المحلية الباردة او الحامية.
في صناعة الرأي العام وقولبته
اليوم بات الإعلام واجهة تعكس الحدث، وجهازاً يصنعه، او على الأقل يساهم بصناعته في الخلفية، ولم يعُد من مكان للنقاش حول أهميته أو أولويته، أو حتى مرتبته في تسلسل العناصر المكوّنة للدولة القوية أو الجهة أو الكيان أو حتى الشركة، فالإعلام بات موازياً والى حد بعيد، للأقسام القانونية داخل المؤسسات الصناعية والتجارية والمالية العملاقة، إذ إن حيّزاً أساسياً من النشاط الاقتصادي، يعتمد أساساً على العوامل النفسية، ناهيك عن كون الإعلام بوابة أساسية لصناعة وتمرير الإعلان المربح.
على عكس النموذجين الروماني والنابليوني، وفي متتالية زمنية - تكنولوجية، تراكمت فيها العلوم المعرفية ومنتجاتها، من الموجات الإذاعية القصيرة الى الطويلة وصولاً الى زمن الألياف البصرية ومروراً بثورة الأقمار الصناعية. لم يعد الأمر مجرد تدوين ورقي مقتضب وموجه بشكل بسيط وحماسي. القصة شهدت طفرة مصاحبة للثورة المعلوماتية الحديثة، وعلى ذاتها وتيرة تنوّعها، بات للإعلام الخبري نماذج تخطت الحالة الورقية بكثير، وكسرت احتكارها الإعلامي الممتد لعشرات القرون. وهكذا باتت &laqascii117o;الترسانة" الخبرية مليئة بشتى الوسائل السمعية والبصرية، ومعها انطلقت مرحلة جديدة من طبيعة العمل السياسي بكل مخرجاته من صراعات وحروب وصدامات، حيث أضحى الجهاز الإعلامي المتكامل، حاجة أساسية لا تقل في أهميتها المباشرة، عن الحاجة لوجود أجهزة عسكرية وأمنية لبناء منظومات خاصة بالأمن القومي، لا سيّما أن العمل الإعلامي أثبت وبشكل منقطع النظير، قدرة هائلة على تحقيق اختراقات مجتمعية تتنوّع بين السياسي والفكري والايديولوجي، وصولاً إلى عملية صناعة الرأي العام وقولبته وتوجيهه.
الإعلام.. نصف المجهود الحربي
شكلت مرحلة انطلاقة الربيع العربي وما تلاه من خيرات وويلات على &laqascii117o;الأمة"، أحد أكثر النماذج المباشرة لمدى أهمية الجهاز الإعلامي القوي، في صناعة الضيم وردّه، لكنها كانت مرحلة فاصلة، في تأكيد الأثر المادي على طبيعة وصدى الأجهزة الخبرية على تنوعها، وقد بدت &laqascii117o;الرفاهية" العربية خلال الأعوام التالية للثورة التونسية في كانون الأول 2010، الأكثر قدرة على المناورة في ظل الصراع المفتوح، وهكذا شكل &laqascii117o;الإعلام الغني" المدعوم بملايين البراميل من النفط العربي الخفيف، مفخرة الترسانة &laqascii117o;الحربية" للمشروع الآتي من منطقة الخليج. فهو وإلى حد بعيد، شكّل نصف &laqascii117o;المجهود الحربي" الخاص بهذه الدول في الجبهات التي انخرطت فيها بحروب &laqascii117o;الوكالة" أو حروب الأطراف الثانية والثالثة، فيما جاء الدعم والتسليح، على الأقل في المرحلة الثانية، أقل أهمية، مقارنة بالعمل الإعلامي المكثف، لصناعة بنية تحتية مجتمعية، أو بيئة حاضنة للمشاريع التمردية أو الانفصاليّة، وصولاً إلى الإرهابية.
في سنوات حروب الربيع، ضاق الحيّز الرمادي النشط سابقاً في العمل الإعلامي، وبات شعار مَن لم يكن معنا فهو علينا، الأكثر استخداماً في التعاطي المباشر بين الأجهزة الحكومية ووسائل الإعلام والعكس صحيح. وفي ظل الفوضى هذه، أطلق الجميع جردة حساب شاملة، طالما أن الحرب أصبحت في حيّزها الحامي، متجاوزة سنوات البرودة الطويلة بما حملت من تمرير لتناقضات لم يعُد بالإمكان تحمّلها، وهكذا شهدت الأقمار الصناعية العربية والشبكة العنكبوتية والأجهزة الذكية وكذلك الصحافة الورقية، موجة غير مسبوقة من التكاثر الإعلامي، خاصة مع ظاهرة &laqascii117o;الصحافة المختصة"، بما فيها من قنوات ومواقع وصحف موجهة لبلدان أو لمجتمعات معينة.
الإعلام الفقير والإعلام المرفّه
التكاثر هذا كان وما زال، حكراً على أصحاب المال، انطلاقاً من جملة لا تستخدم هنا للمرة الأولى، لكن التذكير بها مستحسَنٌ دوماً، وهي أن الإعلام والفقر لا يلتقيان، ومن هذه الحتمية، بدت الدول العربية النفطية وما زالت، الأكثر قدرة على خلق أدوات إعلامية مصاحبة لمجهوداتها السياسية والديبلوماسية والحربية، وقد نجحت إلى حد بعيد في احتواء مئات الحالات المناكفة او المعارضة على المستوى الصحافي والسياسي، وإعادة دمجها في الجهاز الإعلامي &laqascii117o;الكريم والكبير"، القادر على فرض نمطه وأسلوبه بمعزل عن امتلاكه الحق في إدارة الأجواء من ناحية العمل التلفزيوني الفضائي، بما أن الأقمار الصناعية تدار من دول &laqascii117o;مجلس التعاون" بشكل مباشر وكذلك النايلسات المصري، اضافة الى حصولهم على قبة &laqascii117o;معلوماتية" من الولايات المتحدة الأميركية في نشاطهم الخاص بالشبكة العنكبوتية.
في مقابل التكاثر الإعلامي النوعي والكمّي في معسكر &laqascii117o;أهل النفط"، بدا الجانب الآخر أكثر ميلاً لصناعة ردات الفعل، والتركيز على المجهود الحربي والسياسي المباشر. بيد أن &laqascii117o;الجانب" الآخر هذا، لا يقل &laqascii117o;نفطاً" عن دول الضفة الغربية للخليج، لكنه كان أكثر ميلاً، للتحفظ في تعاطيه بالصناعة الخبرية، فآثر الالتزام بأجهزته الحكومية المباشرة مع بعض الإضافات ذات التوجّهات السياسية الواضحة، غير القادرة على ارتكاب أفعال الاستقطاب والتحشيد وصناعة الرأي العام، فكانت ضحية للحكم المسبّق بشكل دائم في عملها، طالما أنها لم تتمكن من إنتاج صبغة &laqascii117o;مهنية" كافية، لتحقيق مرور سلس الى قطاعات جديدة، ولا حتى الخروج من رتابة الإعلام العتيق الموجّه.
الكلمة قبل اللّقمة
أظهرت الفترة الأخيرة، فارقاً هائلاً في إدراك أهمية الصناعة الإعلامية بكافة جوانبها، فبينما ضرب انهيار أسعار النفط العالمية، غالبية ميزانيات الدول صاحبة الاقتصادات &laqascii117o;الريعية"، وكذلك الاقتصاد الإيراني الأكثر تنوعاً من جيرانه، بدت الدول العربية أكثر ميلاً نحو خلق منطقة عازلة، تمنع الفقر من الوصول إلى جهازها الإعلامي المرفّه، فبدت ملامح التراجع والعجز في الميزانيات المحلية لدول &laqascii117o;مجلس التعاون" على قطاعات حيوية، حتى وإن طالت المواطن ولقمة عيشه، كأسعار الخدمات والأغذية، فيما بدا الجهاز الإعلامي الناشط في الفلك الإيراني ـ العراقي - السوري، أول ضحايا الأزمة النفطية، إذ من الواضح أن الرؤية الخاصة بالنخب السياسية الحاكمة لهذه البلدان، تعتبر أن الإعلام وقت الشدة المالية، مجرد ترف يمكن تجاوزه، طالما أن المعركة بحساب الأرض، تميل لكفة المعسكر هذا.
وبما أن المنتصر هو مَن يكتب التاريخ، فالواضح أن حاضرنا سيختلف بشكل جذري بعد اكتمال عملية تحويله مادة تاريخية، خاصة أن الأقرب للـ &laqascii117o;النصر" في المعترك الحالي، على استعداد لبيع قلمه وإقفال مطبعته وتمزيق مخزونه الورقي، في سبيل &laqascii117o;احتواء" الهدر المالي، والتقليل من المصاريف، فيما يمعن الآخرون، الأكثر حذاقة في فهم العصر وطبيعته، بإعادة إنتاج سرديات &laqascii117o;حدثية" تماهي الى حد بعيد خطابتهم السياسية طوال السنوات الماضية، وبشكل يختلف جذرياً عن سلّة الحقائق التي أثبتها الميدان، وعجز عن حصرها ثم حصادها من دفع الدم في سبيل قضيّته أو مشروعه أو مصلحته.
المصدر: صحيفة السفير