قضايا وآراء » فلسطين 2016: الخرافة والواقع

سام بحور

هل يمكننا أن نتصور فلسطين محررة من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي والاحتلال العسكري والهيمنة الاقتصادية وهدم المنازل والاعتقالات التعسفية، ومن التهديد بالمنع من دخولها أو التعرض للمضايقة عند العودة إليها؟ قد يكون بالامكان بطريقة ما تصور ذلك، الا أن التحدي القائم يكمن في كيفية الانتقال من الواقع الراهن إلى تحقيق هذه الرؤية.
فالواقع الراهن يتجسد في اقتصاد مُجبَر هيكلياً على الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي والمساعدات الدولية والانضواء تحتهما. هذا الاقتصاد نفسه غير قادرٍ على استغلال موارده كالغاز الطبيعي في البحر قبالة قطاع غزة، والطيف الكهرومغناطيسي، والمحاجر. في حين يخضع موظفو المؤسسات المانحة للسوق الفلسطينية القائمة بالأساس على المعونة العاجزة عن بناء نظم رعاية صحية فاعلة أو تحديث النظام التعليمي، كي لا تُضطر المدارس للعمل بنظام الفترتين، أو التخطيط للقطاعات الاقتصادية التنافسية التي بوسعها أن تنافس في الأسواق العالمية. اما المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية، فهي الاخرى غارقةٌ في عالم طلبات مقترحات المشاريع، والأطر المنطقية، والتقارير المرحلية، وتقارير المراجعة، وتقارير الرصد والتقييم. وتلك المنظمات بمعظمها لا يعرف عالمًا آخر، وموظفوها يعملون من أجل تسديد قروضهم العقارية، ناهيك عن قروض سياراتهم، ومدارس أبنائهم، وهواتفهم المحمولة، وأجهزتهم المنزلية.
هذا الواقع الاليم ما هو الا نتيجة للمشاكل المتراكمة بعد 68 عامًا من التهجير القسري و49 عامًا من الاحتلال العسكري و23 عامًا من فشل معاهدات &laqascii117o;أوسلو" للسلام. خلال تلك السنوات، دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ العام 1948 على منح إسرائيل المعونة الاقتصادية والعسكرية والمساعدة السياسية من دون شروطٍ تُذكَر، برغم من بعض المعارضة داخل أروقة تلك الادارة. على سبيل المثال، عارض وارن أوستن، ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن، في 19 آذار 1948 خطة التقسيم داعيًا إلى &laqascii117o;وصاية مؤقتة على فلسطين... للحفاظ على السِلم ومنح يهود فلسطين وعربِها، الذين يجب أن يعيشوا معًا، فرصةً أخرى للتوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة المستقبلية لهذا البلد". بل إن الوفد الأميركي بأسره كان مستعدًا للاستقالة بعدما اعترف البيت الأبيض، الذي باع نفسه فعليًا للحركة الصهيونية، بإسرائيل بحكم الأمر الواقع في 14 أيار 1948، وذلك بعد دقائق على إعلان إسرائيل استقلالَها. لكن وللاسف، مَن يكتب التاريخ في الغالب ليس المعارضون. ومنذ ذلك اليوم الأسود في العام 1948، اصطفت الولايات المتحدة مع الجانب الخطأ في التاريخ. ولكن من الأهمية بمكان أن نتذكر أنه بوسع هؤلاء المعارضين تغيير مجرى التاريخ الذي بالعادة يفرضه الأقوياء.
الخطوة الأولى في تحقيق رؤية المستقبل لا بد أن تُفنِّد الخرافات والاعتقادات القائمة، المتعلقة بالسلام والعدالة والتنمية في فلسطين. فالاعتقاد بأن العالم يستطيع تجاهل فئة كبيرة من الشعب الفلسطيني، التي تعيش في الشتات والتي لا ترزح تحت الاحتلال العسكري، والتظاهر بإحراز تقدم في المفاوضات بين الجانب الفلسطيني والاسرائيلي، هو اعتقاد خاطئ. فسواء كان الفلسطينيون في القدس، أو الجليل، أو لبنان، أو الدول العربية الاخرى، او اوروبا، او الولايات المتحدة الأميركية، لن يتلاشوا، ولن يقبل قسم كبير منهم بوضعهم او مكانتهم كلاجئين ومنفيين، أو مواطنين من الدرجة الثانية في إسرائيل، أو مشردين داخليًا في إسرائيل والأراضي المحتلة، أو محاصرين في ظل حكمٍ عسكري، أو مُجبَرين على العيش في الشتات.
أما الاعتقاد بأن مقاربة المشكلة السياسية ممكنة عن طريق إغداق المال، فإن التجربة أثبتت عدم صحته. ففي المراحل الأولى للصراع، كانت المسألة تتعلق ببضع مئات الآلاف من الدولارات، ثم ارتفعت الى بضعة ملايين، ثم عشرات الملايين. والآن أصبحت الملايين مليارات بعدما تسببت انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان على مدار عقود بأضرارٍ هيكلية في المجتمع الفلسطيني، وذلك باعتراف البنك الدولي نفسه في الآونة الأخيرة. فلو تمت محاسبة إسرائيل وفقًا للقوانين والقواعد الدولية، لاستطاعَ الفلسطينيون كسب قوتِهم بأيديهم بما في ذلك داخل السجن الكبير، غزة، المُكرَهةِ على العيش تحت وطأة كارثةٍ إنسانية قسرية. ومع ذلك، لا تزال المعونة تُضَخّ، ولكن من دون ان تحقق النتائج المرجوة.
اما الاعتقاد بان الفلسطينيين في نهاية المطاف سيتوصلون الى تسوية سياسية او سلمية لنيل حقوقهم وان نموذج الدولتين الفاشل يمكن أن ينجح، فهو ايضاً اعتقاد خاطئ. فإسرائيل تظهر رفض هذا النموذج وتُحدِثُ يومياً الوقائع على الأرض لتحرصَ على ألا يرى هذا النموذج النور أبدًا. وفي الجانب الآخر، لا يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي وهم يشاهدون حقوقهم تتلاشى شيئًا فشيئًا بسبب التطهير العرقي.
كما ان الاعتقاد بأن الفلسطينيين يستمدون تعريفهم حصرًا من نضالهم غير صحيح على الإطلاق. فبرغم التشتيت القسري الذي يواجه الشعب الفلسطيني، الا انه يبقى واحدًا بثقافةٍ مزدهرة وإنجازات علمية وإبداعات في مجال الأعمال أينما كان وحلّ.
ولمواجهة مثل هذه الخرافات والاعتقادات، يجب العمل على جبهات عديدة. حيث ينشط حالياً عدد كبير من الفلسطينيين على الصعيد السياسي في داخل فلسطين وحول العالم، ويعملون على التشكيك بالشرعية الشعبية لقيادتهم التي انتهت صلاحيتها وانهارت برامجها السياسية منذ أمدٍ بعيد. كما يبحث هؤلاء الفلسطينيون عن طُرقٍ للتنظيم بطريقة مختلفة ويسعون لتحدي قيادتهم.
وفي الوقت نفسه، يواصل هؤلاء الفلسطينيون وأنصارهم مقاومةَ الاحتلال والتمييز بتصميم عبر تطوير أدوات أكثر فاعلية لتحدي الاحتلال والتمييز. وفي هذا الصدد، وضعت الحركة الشعبية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وسائل فعالة للضغط على الدولة العبرية بهدف إنهاء احتلالها. لكن لا يزال هناك الكثير الذي ينبغي عمله.
وتبرز الحاجة الى توسيع دائرة التصدي لهذه الانتهاكات الحقوقية في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، كالانتقال من سحب الجامعات والكنائس استثماراتها من إسرائيل إلى إخراج السندات الحكومية الإسرائيلية من المحافظ الاستثمارية المملوكة لخزائن البلديات والولايات الأميركية. في حين جاءت الخطوات الأوروبية الحذرة المتمثلة في وضع علامات على منتجات المستوطنات كخطوة في الاتجاه الصحيح، الا ان تعليق اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل حتى انهاء الاحتلال يعتبر خطوة أكثر استراتيجية. وثمة حاجةٌ مماثلة للتوقف عن النظر إلى السياسة والاقتصاد من منظورين منفصلين. فالعاكفون على التخطيط للمستقبل الفلسطيني كثيرون، كإسرائيل، والبنك الدولي، و&laqascii117o;اللجنة الرباعية"، ومؤسسة راند&ldqascii117o; RAND Corporation&rdqascii117o; وغيرهم، وكل طرف منهم لديه خطة محددة للفلسطينيين.
لكن حان الوقت لكي ينبري الفلسطينيون حول العالم والمتضامنون معهم للملف الاقتصادي. فالاستثمار الاقتصادي بوجهه الصحيح هو شكلٌ من أشكال المقاومة اللاعنفية ـ وليس &laqascii117o;الاستثمار الإيجابي" الذي تروِّج له إسرائيل ومؤيدوها من أجل تعكير المياه ومواجهة حركة المقاطعة، بل ذاك الذي يُمكِّن الفلسطينيين من البقاء في أرضهم والعمل من أجل الحرية والعدالة والمساواة.
كلُّ فرصة عمل تُستَحدَث في فلسطين اليوم لا ينبغي أن تكون لأجلِ &laqascii117o;النمو" بل لأجل الصمود، أي لا بد لها من أن تُبقي العائلات في أرضها وتُشرِكها على نحو بنَّاء. فجوهر هذا الصراع يتمثل في الشعب كما في الأرض. فالأرض ضمَّتها إسرائيل واحتلتها واستوطنتها واستنزفتها وحاصرتها وجزأتها، وهي حكايةٌ لا تنفك تُروى. لكن الصعوبة أكبر في وصف فقدان الأمل، والبطالة، والفقر، وسوء التغذية، والكثير من المصاعب الأخرى التي يعانيها المهجَّرون والمجرَّدون من أملاكهم.
ولهذا السبب يجب على الناشطين الفلسطينيين وحركة التضامن الدولية أن ينكبوا على تطوير الاقتصاد الفلسطيني من خلال الاستثمار في الأعمال التجارية في فلسطين، الصغيرة منها والكبيرة، ودعمها وربطها بالأعمال التجارية حول العالم. ويجب القيام بالشيء ذاته مع نظام الرعاية الصحية والنظام التعليمي.
عندما ينظر الجيل الأصغر سنًا إلى عقودٍ خلت من النضال الفلسطيني لنيل الحرية والعدالة، فإنه لا يرى سوى بضعة محاور عريضة تتمثل في الكفاح المسلح الذي فشل في انتزاع الحقوق الفلسطينية من قوةٍ عسكريةٍ مسلحة من الطراز العالمي؛ والقانون الدولي الذي يُردِّد قرارات الأمم المتحدة؛ والانتفاضة الأولى التي بددتها القيادة الفلسطينية والقوى العالمية؛ والمفاوضات الثنائية التي انطلقت عند مئة ألف مستوطن وانتهت عند زُهاء ستمئة ألف وتجزئة ما تبقى من أرض فلسطين.
الكثيرُ من الشباب الفلسطيني ينظر إلى الواقع ويقول: ربما نحن ضِعاف ولا نقوى على إقامة دولة؛ وكل ما نحتاجه فعلًا هو حقوقنا. ولعلهم قريبًا جدًا سينظرون إلى إسرائيل ويقولون: لقد انتصرتِ، وستأخذين كل شيء: الضفة الغربية والقدس وغور الأردن والمستوطنات والمياه والطيف الكهرومغناطيسي والمجال الجوي. ولكن ستأخذيننا نحن كذلك، وكل ما نريده هو المساواة أو لا شيء، كما قال الراحل إدوارد سعيد بكل بلاغة. وبغض النظر عن الترتيبات السياسية في نهاية المطاف، فإن مَن يظن أن الفلسطينيين، كلّ الفلسطينيين، سوف يقبلون بأقل من الحرية والمساواة في وطنهم، عليه أن يقرأ تاريخ العالم من جديد.

 تستند هذه المقالة الى تعقيب نشر في موقع شبكة السياسات الفلسطينية تحت عنوان&laqascii117o;فلسطين من الرؤية الى الواقع

المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد