وصفي الأمين
مع دخول الأزمة السورية مرحلة جديدة محملة بقواعد اشتباك مختلفة، تزداد أهداف أطرافها، البعيدة، التباساً، وسط غموض يلف مرحلة ما بعد أوباما، يقابله سعي روسي حثيث نحو الحل السياسي. فبرغم الهدنة المعلنة، يدرك الجميع أن أي استثمار سياسي في هذه المرحلة محكوم بالكامل بالتطورات الميدانية، وأنه من المبكر الحديث عن اتجاه الوضع نحو الانفراج. إذ يصعب الجزم بوجود رغبة أميركية فعلية في التوصل إلى حل سياسي، إضافة إلى الشكوك في صلابة التفاهمات مع روسيا. كل ما في الأمر أن أياً من الطرفين لا يرغب في تحمل مسؤولية استمرار المعارك.
التدخل الروسي رفع منسوب القلق الغربي، وزاد الانقسام في صفوف الأوروبيين إزاء الحل في سوريا. أوروبا تفشل في صياغة استراتيجية جديدة، بسبب عجزها عن فهم الخطوات الروسية المتلاحقة. هل هي لحماية النفوذ والأمن القومي الروسي، أم لحماية الرئيس السوري ونظامه؟ هل هي لمحاربة «داعش»، أم لحجز مقعد الشريك للأميركي، في بحث ترتيبات وخيارات المرحلة المقبلة؟ أم أنها للحد من اندفاعة الحلف الأميركي في الإقليم والعالم؟ وهل تحتاج روسيا كل هذه الصواريخ البالستية والمضادة للطائرات، لمواجهة الجماعات الإرهابية، أم تتحسب لتطور المواجهة إلى صدام مباشر مع حلف «الناتو»؟ فتراجع نظام القطب الواحد، وعودة الصراع على الأسواق والثروات ومناطق النفوذ، بالتوازي مع التصعيد في سوريا والمنطقة، وسط توفر فائض القوة، واقتراب بعض القوى، أحياناً، من ارتكاب أخطاء ميدانية قد تجر إلى مواجهات شاملة وغير محسوبة، إضافة إلى الغموض والالتباس السائدين، كل ذلك، قد يخرج الأزمة عن السيطرة.
على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، يعمل الأميركيون على توهين مفاوضات جنيف، وتحويلها إلى جلسات دردشة وتضييع للوقت، لا تغير شيئاً في المشهد السياسي. واشنطن التي تستثمر سياسياً استثماراً كبيراً في جنيف، لا تطرح حلاً للأزمة، بل تعمل على احتوائها. وهي لا تسعى للقضاء على الجماعات الإرهابية، بل لإبقاء الصراع قائماً، ولكن تحت السيطرة، إلى حين التوصل إلى حل يخدم المصالح الأميركية. فالحل الروسي المطروح يشترط البدء بالقضاء على الإرهاب، فيما سياسة واشنطن، بأولوياتها، المتناقضة أحيانا، لن تقبل بالقضاء على «داعش» من دون إسقاط الرئيس الأسد. إذاً، المسألة الأساس تتعلق بمدى استعداد واشنطن للتعاون مع موسكو لفرض الحل، وهو ما يقتضي استعدادها للجم حلفائها.
الهدف الأميركي هو تقسيم سوريا إلى أقاليم شبيهة بتلك التي أصبحت أمراً واقعاً في العراق. وهي تستخدم «جنيف» وغيرها لإنشاء سلطة مركزية تدير تلك الأقاليم، مع منح الأخيرة قدرة الضغط على دمشق بالمشاركة الفعالة في صناعة القرار. واشنطن تسعى لإنشاء منطقة سنية موالية لها، تمتد من أعزاز السورية إلى الموصل والأنبار في العراق، تضم الكرد في البلدين، مع منحهم كيانية تحفظ خصوصيتهم القومية. وقد جاءت عملية تحرير سنجار، ثم تقدم الكرد والجيش والعشائر السنية باتجاه الموصل، في إطار المنافسة الأميركية للروس بمواجهة «داعش»، ولكن بشكل محسوب، يضعف التنظيم ولا ينهيه، ويساهم في تعويم حلفاء واشنطن من الكرد والعشائر السنية، ولا يمنح خصومها («الحشد الشعبي») أي نصر أو قدرة على الاستثمار السياسي. وفي سوريا تسعى لمنع الجيش وحلفائه من التوجه إلى الرقة، وتركها للكرد والعشائر، والاكتفاء بالوصول إلى دير الزور.
توحي واشنطن بأن البديل لهذه التسوية صراع أميركي ـ روسي في المنطقة، مرشح للتمدد إلى مناطق أخرى. ولا مصلحة للطرفين في ذلك، إذ إنه لن يفضي إلى هزيمة الإرهاب، وخصوصاً «داعش». لكن موسكو تعلم أن لهزيمة «داعش» شرطا أميركيا أساسيا، هو أن ترثه جماعات يمكن استثمارها أيضاً، لكن مع إمكانية تعويمها وتسويقها كجماعات معتدلة. ولا يبدو أن أمام روسيا غير القادرة على الذهاب بعيداً في هذا الصراع المكلف، سوى «تفهم» المصلحة الأميركية. من هنا لا يمكن النظر إلى دور روسيا في سوريا باعتباره استعراضاً للقوة، أو حنيناً لدور الاتحاد السوفياتي، بل هو دفاع عن أمنها، ومحاولة لاستعادة ما تعتبره حقاً لها، تريد واشنطن سلبه منها. واستعادته ضرورية لإحباط محاولة حصارها وإخراجها من مناطق النفوذ المتبقية لها في المنطقة والعالم. وهي برغم سعيها لحل سياسي في سوريا، تعلم أن المفاوضات الجارية لن تفضي إلى ذلك الحل.
«الهدنة» أرست قواعد جديدة للاشتباك، عززت موقف روسيا الميداني وعلى طاولة المفاوضات، لكنها ليست بحجم انقلاب استراتيجي. فموسكو أدركت أنه يتعين عليها التهدئة، قبل الانغماس في سلسلة أزمات، أقلها التحول إلى قوة تقاتل بالوكالة في سوريا. هي تعرف أن الإرهاب صناعة أميركية تحتاجها واشنطن لخدمة سياساتها. بينما تعتبره روسيا خطراً داهماً، عانت من ويلاته في الشيشان وقرغيزستان وغيرهما، وتريد محاربته، وترى أن على الجماعات «المعتدلة» القتال في جبهة واحدة تضم النظام السوري، ضد «داعش»، وكل جماعات الإرهاب، كشرط لوقف الغارات وعمليات الجيش السوري ضدها. كما تريد إظهار التحالف الأميركي عقبة تمنع أي حرب جدية على الإرهاب. فيما تعمل واشنطن على تشكيل جبهة من الجماعات المسلحة ضد «داعش» لحماية ما تبقى لها من حلفاء ووكلاء ميدانيين، ومنع الجيش السوري وحلفائه من الاحتفاظ بزمام المبادرة، تمهيدا لتغيير النظام.
الأميركيون ليسوا في عجلة من أمرهم للوصول إلى حل سياسي، ويلتزمون سياسة الانتظار إلى حين وصول الرئيس الجديد إلى البيت الأبيض. والأكيد أن ظاهر المواقف الأميركية، هو تقليدياً، عكس باطنها، وديبلوماسيتها لا تعكس دائماً الحركة الفعلية للمخابرات المركزية، بل هما قد تتناقضان أحيانا. وروسيا ومحور المقاومة يعرفان أن واشنطن ستتحمل عبء وتبعات أي تراجع روسي عن التفاهمات في سوريا. وبالتالي، ليس أمامهما سوى سلوك طريق آخر غير جنيف وفيينا، وتشكيل تكتل إقليمي، يكون أحد تجليات تكتل عالمي خارج السيطرة الأميركية، للحد من الأعباء الاستراتيجية، ومن محاولات واشنطن احتواء إيران وروسيا، وخفض وتيرة تصعيد الناتو الذي لم يهدأ يوماً، بدءاً من الداخل الروسي وجواره، مروراً بليبيا وسوريا، وليس انتهاءً بالاستثمار في الجماعات الإرهابية.
المصدر: صحيفة السفير