قضايا وآراء » يوم أُعلنت الحرب على حزب الله وولاية الفقيه

عبد الله زغيب

تسير عجلة الملفات البينيّة الشائكة في منطقة الخليج في تيار معاكس، بل و مشاكس للاتجاه العام، في غالبية مناطق الخلاف البارد والحامي في المنطقة. حيث تبدو دول مجلس التعاون على شاكلة متناقضة ومتضاربة مع الذات والمحيط، كما لم تكن من قبل. إذ إن الغالبية ارتضت السير في سياق الالتقاء الإيراني ـ الغربي بعد التفاهم النووي وما تلاه من التقاء جزئي أميركي ـ روسي، فتح الباب أمام عجلة الحلحلة السلميّة للحروب الأهليّة في سوريا واليمن، إضافة إلى دعم الخيار العسكري لإنهاء سيطرة تنظيم الدولة على مساحات شاسعة من العراق. هكذا، أصبحت المواقف الخليجيّة الجريئة لقادة من الصف الأول وكذلك لكيانات سياسية «نظامية»، تشكل مؤشراً عميقاً على طبيعة الخلفية والرأي والتفسير المعتمد من قبل هذه «النخب» في أدائها السياسي، إنما في ظل قيود أميركية غير مسبوقة، لكبح جماح الاتجاهات الصاعدة والراغبة بتبني خيارات «مغامرة»، في مقابل التيارات «العتيقة» الأكثر هدوءاً على طاولة صنع القرار الخليجي.
جاء البيان الصادر عن البرلمان البحريني والمطالب بإعلان الحرب على «حزب الله» وولاية الفقيه، تعبيراً خالصاً عن الواقع «الارتجالي» في الخطابة السياسية الخليجية، وكذلك عن جزء أساسي من الأداء السياسي والديبلوماسي لهذه البلدان. فالحالة العامة بين أقطار التعاون تشي بنسوب غير مسبوق من دمج الخط السياسي والتحريري المتحكم بوسائل إعلام الرياض والدوحة وغيرها، مع مرتكزات سياسية في نشاط الدول هذه في المنطقتين الخليجية والعربية بشكل عام. وقد أثمر الدمج هذا خطابة «هجينة» تضيع خطوطها بين الممكن والمــــتاح في السياسة، وبين المرغوب والمنشود في الصحافة الموجهة. هكذا بدت مراكز صناعة القرار الخليجي، أو بعضها بالـــحد الأدنى، أقرب ما تكون الى إدارة تنظيمات راديكاليّة «مارقة»، وأبعد من نموذجها المسوّق أميركيا، والذي يصنفها دوماً، كمراكز «العقلانيّة» في الخليج ومحيطه.
«الرحيل» الأميركي ومستقبل الخليج
تفترق الرياض وغالبية عواصم الخليج عن واشنطن في عمليّة تقدير مخاطر الأحداث الجارية في المنطقة، على مستقبل الدول العربية الغنيّة. والمقصود هنا مستقبلها على المستويات «الوجودية» و «الكيانية». وهذه في المدى البعيد، تبدو من خارج الاهتمامات الداهمة للإدارة الأميركية، طالما أن نشاطها في المنطقة بات يقوم على نوع من تمرير الأزمات، في ظل نظرية «الرحيل» نحو الهادئ، أو تراجع أهمية الشرق الأوسط في المنظور الأميركي، أو أي دافع آخر لواشنطن نحو إقفال بعض الاستثمارات الأمنية والعسكرية والسياسية غير الناجحة، الممتدة منذ انطلاق «الربيع» العربي العام 2011. يحصل هذا في ظل «تقبّل» نسبي غربي لطبيعة الأداء الإيراني وكذلك أداء حلفاء طهران طوال الفترة الماضية. الذي لم يتخطَّ في اليمن وسوريا والعراق خطوطاً حمراء، كانت كفيلة بتحويل «الحوثيين» أو «الحشد الشعبي» أو «حزب الله» أو حتى الجيش السوري، إلى أعداء ومباشرين لأي مشروع أميركي قائم أو محتمل في المنطقة. وقد كان هذا سيفرض مواجهة مباشرة، تختلف في حيثياتها ونتائجها عن الحروب بالوكالة القائمة حالياً. ومن صور «التعقّل» هذا، إبقاء العراقيين والسوريين ومن خلفهم الإيرانيين، خطوط تواصل «أمنيّة» قائمة بشكل مباشر ودائم مع الأميركيين، وهو التواصل الذي تحول مع الوقت إلى انخراط شبه منسق ومتكامل في الحرب على تنظيم «الدولة الإسلاميّة».
«الحسبة» الأميركية والحسابات الخليجية
في مقابل «الحسبة» الأميركية، فإن للدول العربية الخليجية حساباتها ومخاوفها، التي لا يمكن أن تبقى متلاصقة أو متلاقيّة مع الأجندة الأميركية بكامل فصولها، وهذا لا يعني إمكانية حصول انسلاخ هيكليّ في العلاقة بين الأميركيين ودول «مجلس التعاون». فلا الأميركي قادر على التخلي عن «رعاية» أكبر بقعة نفطيّة في العالم، وتحيط بها إيران ومصر وتركيا، ولا الأقطار المنتجة للنفط قادرة على التمتع بمزايا «الإبن المدلل» في تشابكها الإقليمي، من دون «الأب» الغربي الأقدر على رد «الضـــيم» متى لاحت مقدماته. علماً أن الارتباط العضوي مع واشنــطن وقبلها لندن، بات عميقاً وغير قابل للانسلاخ على الأقل في المدى المنظور. وقد ظهرت ملامح هذه المسألة في تهديد الرياض ببيع أصول لها في أميــركا، رداً على مقترح قانون في الكونغرس، يجــــيز مساءلتها حول اعتداءات 11 أيلول 2001، ما استدعى تحذيراً أميركياً من أن خطـــوة كهذه قد تـــتهدد الاقتـــصاد الأميركي وكذلك الدولي.
تدرك السعودية وحلفاؤها الخليجيون أن «المخاطر» المشتركة المنبثقة عن الخصومة غير المحسوبة مع الضفة الخليجية الأخرى، باتت تتهددها كيانياً. حيث أن دخول الرياض ودول «مجلس التعاون» في حرب ثقيلة ومباشرة، للمرة الأولى منذ الحرب الأهلية اليمنية إبان الثورة على الإمامة المتوكليّة العام 1962، لا يعكس قوة أو قدرة منقطعة النظير، تستخدمها الرياض في فرض أجندتها. بل يعني ذلك أن استثمار «الأدوات» أو الحلفاء المحليين، لم يعد كافياً لإنتاج حالة سياسية وأمنية ترضي منظومة الأمن الخليجية. فالانخراط المباشر في الحرب، تسبب إلى حد بعيد في تفتت قدرة الردع السعودية، مضافاً إليها انكسار «هيبتها» في المنطقة، بعد خسارتها أراضيَ واسعة لصالح الجيش اليمني والحوثيين، والغرق في أخذ ورد لأكثر من عام، لم تتمكن فيه الرياض من تجاوز خط الحدود القديمة بين الدولة الجنوبية واليمن الشمالي. علماً أن المهمة تلك كان يفترض أن تعيد «مفتاح» صنعاء لـ «الشرعيّة» المنبثقة عن المبادرة الخليجية، بعد انقلاب الحوثيين على سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي في أيلول 2014.

بمعزل عن الصورة «الهزليّة» التي بدا عليها طلب البرلمان البحريني إعلان الحرب على «عقيدة» وتنظيم، وما عكسه من تدن وتراجع في الأدبيات السياسية، إلا أن أخذها على محمل الجد قد يقود الى تفسيرات عديدة، قد تتراوح بين محاولة المنامة الجري أمام الرياض، أو استخدامها سقفاً في الخطابة السياسية يمنحها رصيداً خليجيّاً إضافياً، أو كرافعة إضافيّة وشرعنة دوليّة لمواجهتها الحراك السلمي المطلبي بالحديد والنار طوال السنوات الخمس الماضية. لكنه لا يخرج عن سياق إحــــساس الدول الخليجية بضرورة فرض أمر واقع مغاير لما هو قيد الإنشاء حالياً، إما من خلال تقليم أظافر الخصوم الإقليميين، أو فرض «سلام» طويل وآمن ومضمون، يعيد لها الفـــاقد من وزنها الاستراتيجي، ويرفع عنها التهديدات الحدودية بل والداخليّة المشتركة. كل ذلك مرده إلى إحساس دول «مجلس التعاون»، باقتراب اللحظة التي قد تجد فيها نفسها وحــــيدة في مواجهة الخصوم، وهي عمليّة آثرت الريـــاض على التمرن العـــمليّ عليها من خلال عملية «عاصفة الحزم»، بعد التدخل في البحــــرين من خلال «درع الجزيرة»، بيـــن الحوثيين من انخــراط غير مباشر في جبهات العراق وسوريا وليبيا.
أربكت دول الخليج أميركا قبل أن تربك «أعداءها» المنخرطين في الحرب السورية والعراقية واليمنية. فقد اعتاد الأميركي في العلاقة مع الرياض ومنظومتها على شيء من اليسر في تمرير الخيارات التي تميل لمصلحة واشنطن، خاصة تلك التي تنهك ميزانيات الدول النفطية، كرعاية حرب الخــليج الأولى وما تلاها من نسخ كاملة وجزئية، وقبل ذلك الحرب الإيرانية العراقية، وبنسبة أقل، حرب الاستنزاف التي شُنت على الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وكل هذه خيارات لم تتسبب على الإطلاق بإضعاف دول «مجلس التعاون». بل على العكس، فقد ساهمت حرب أفغانستان في إثبات سيطرة منقطعة النظير تمتلكها الرياض على عدد من الجماعات «الجهاديّة»، بالحد الأدنى على المستويات الماليّة والدينيّة، ما يعني بقاءها في واجهة اللاعبين الأوائل، أو اللاعبين بالوكالة في ملعب استثمار التنظيمات السلفيّة الجهادية. بالتوازي، فإن إنهاك إيران «الثورة الخمينيّة» وعراق «صــــدام حســـين»، شكل رافعة استراتيجية تاريخية للسعودية وحلفائها، وجعل منها «قوة عظمى» بالقياس الإقليمي.
 
المصدر: صحيفة السفير 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد