جميل مطر
كادت الحملة الانتخابية الأميركية تصل إلى مرحلتيها النهائيتين، مرحلة اختيار كل حزب لمرشحه لمنصب الرئاسة، وإعلان نتيجة الاختيار، ومرحلة اختيار الشعب الأميركي رئيساً له من بين اثنين رشّحهما الحزبان. لا أظن أننا مازلنا في حاجة إلى تخمين اسمَي المرشحين، وإن كنا مازلنا غير واثقين تماماً من اسم المرشح الذي سوف يفوز في تشرين الثاني المقبل بمنصب رئيس الولايات المتحدة، أيكون هيلاري كلينتون أم دونالد ترامب؟
نستطيع الآن، على كل حال، أن نحصد دروس معركة انتخابية لعلها من بين الأشد إثارة، ونتائجها قد تثبت الأيام أنها الأعمق مغزى في قائمة طويلة من الحملات الانتخابية التي جرت خلال القرن الأخير. قد تأتي تحليلاتنا لمسيرة الحملة ونتائجها غير مكتملة الدقة، فالمعلومات مازالت تتدفق عن خطط ومبادرات كانت تُخفى علينا. ولكن لدينا الآن من المعلومات المتاحة ما يكفي لإصدار أحكام سوف تبقى قابلة للنقاش عن أشخاص المرشحين، وربّما أيضاً، وهو الأهم بالنسبة لنا كمتخصصين مهتمّين بأميركا وسياساتها الخارجية، ما يكفي لتكوين رؤية عن الدور الذي سوف تمارسه أميركا في عالم المستقبل.
خرجنا من الحملة الانتخابية، وبعضنا، أقصد بعض العرب، تأكدت ظنونه ومخاوفه من الرئيس باراك أوباما، وبعضنا ما يزال يعتقد أن أوباما لعب دور المنقذ الذي حال دون أن تكون نهاية انحسار القوة الأميركية سقوطاً مدوّياً. البعض الأول فاجأه أوباما نفسه حين كشف في ذروة الحملة الانتخابية لغولدبرغ في مقابلة شهيرة حقيقة مشاعره تجاه الزعماء العرب بشكل عام. ذهبت الآراء حول هذا التصريح مذاهب شتى، منها أنها كانت على الأقل مكاشفة صريحة عن خلاصة تجارب مهمة على امتداد ثماني سنوات، بينما راح آخرون يبررون هذه الصراحة بأنها كانت تعمّداً في نفي ما التصق به منذ سنوات ترشحه بأنه ينتمي إلى أصول إسلامية، وربما لم يجد خلال هذه السنوات من تعامله مع القادة العرب ما يجعله يفخر بهذا النسب الذي التصق به عن حق أو لغرض سياسي.
الأمر الآخر الذي حرص أوباما خلال الأسابيع الأخيرة على الإفصاح عنه للرأي العام، جاء على شكل وصية إلى أوروبا. راح أوباما يدعو البريطانيين بالصراحة الممكنة إلى عدم الانسحاب من أوروبا. في الوقت نفسه راح يقول للألمان إنه فخور وسعيد بالدور الذي قامت به ميركل في تحمل مسؤولية قيادة أوروبا في مرحلة تخلّي أميركا عن بعض مهام القيادة الدولية ومسؤوليتها. كان اعترافه بدور ألمانيا، ونجاحه تحت قيادة ميركل، دافعاً لأن تقرر أكثر من صحيفة ألمانية رفع شعار «ميركل حارسة أوروبا». لم يكن أوباما متحيزاً لألمانيا حين شجعها على القيام بهذا الدور بقدر ما كان واثقاً من أن كلاً من بريطانيا وفرنسا لديهما من المشكلات الداخلية ما يحول دون قيامهما بهذا الدور بكفاءة عالية، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار «المسألة الروسية». هذه المسألة لم تكن بقادرة على تحمل مسؤوليتها أي من فرنسا وبريطانيا، بينما كانت ألمانيا الوحيدة القادرة والتي يطمئن إلى حكمة قيادتها. وبالفعل قادت ألمانيا العمل الغربي تجاه روسيا منذ استفحال أزمة أوكرانيا من دون أن تطلب من واشنطن مسؤوليات أو أعباء إضافية، كذلك قادت ميركل الجهود الأوروبية للخروج من الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في العام 2008، ونجحت بأقل خسائر ممكنة للعملة الأوروبية والاقتصاد الألماني.
الشخص الثالث في مسيرة الحملة الانتخابية الذي يستحق الكثير من الانتباه برغم فشله في الفوز على هيلاري كلينتون هو بيرني ساندرز. قال باراك أوباما خلال الحملة الانتخابية إنه تمنى لو أنه حقق بعض ما دعا إليه ساندرز في حملته الانتخابية. أظن أن تصريحاً كهذا من رئيس كادت ولايته تصل إلى نهايتها ولم تصل إلى منتهاها، اعتراف صريح بأهمية حلم كان ساندرز يدعو لتحقيقه. كان يدعو مثلاً إلى «تحجيم» دور حي المال والأعمال في نيويورك في صنع السياسة الأميركية، ولعلها الدعوة التي أيقن الكثيرون أنها ستكون سبب فشل ساندرز في النهاية. وهي أيضاً الدعوة التي ما كان أوباما يستطيع تحقيقها، لأنه مثل غيره من رؤساء أميركا خاضع لنفوذ قوى المال. أوباما، مثل رؤساء معدودين، كان يتمنى أن يحكم أميركا وقد ضعف نفوذ هذه القوة الجبارة. وأظن أن الدعوة سوف تستمر مطروحة على الساحة الأميركية بشكل متصاعد حتى بعد انتهاء هذه الانتخابات. إذا فازت كلينتون فسيكون فوزها بفضل هذه القوة الهائلة، وإذا فشل دونالد ترامب فستكون أحد أسباب فشله أنه رفض أن يحصل على أي تمويل يُذكَر من مصارف وشركات «وول ستريت»، وقرّر الاعتماد على ماله الخاص.
الشخص الرابع هو المرشح دونالد ترامب. كانت هذه الانتخابات، وبفضل هذا الرجل، إلى حدّ غير قليل، يشاركه الفضل المرشح ساندرز، وجهت الضربة الأشد إيلاماً التي يتلقاها النظام الحزبي الأميركي. ترامب كشف عن حقيقة ضعف ومساوئ الطبقة السياسية الأميركية وليس فقط الحزبين الرئيسيين («الجمهوري» و «الديموقراطي»). كشف هذه الحقيقة أو هذا الضعف حين أطلق حملة «شعبوية» لا تستند إلى تنظيم حزبي أو حتى إلى رضى الطبقة السياسية. لم يكن ترامب الأول الذي استخدم «الشعبوية» طريقاً إلى الحكم، سبقه إليه المرشح جورج ماكغفرن العام 1972، وجورج والاس العام 1968 وبات بيوكانان، وسبقه التيار المكارثي الذي نشر الكراهية ضد المثقفين عامة، وأطلق المارد المخرّب للاستقرار السياسي في شكل نظرية المؤامرة.
المسألة الأخرى، وهي التي تخصّنا أيضاً، في شخصية دونالد ترامب، هي أنه غير مدرب على السير في دهاليز السياسة الخارجية. تاريخه كله يعتمد على إدارته لأكثر من خمسمئة شركة عملاقة، يملك منها مئتين تحمل اسمه. أقصى علاقة له بالسياسة الخارجية هي تلك التي ربطته بملكات جمال العالم، هو بالتأكيد، كما جاء في إحدى الصحف، يجيد الحديث والتفاوض مع ملكات جمال أذربيجان والسويد والأرجنتين، وبالتأكيد أيضاً لن يجيد الحديث بالطلاقة نفسها مع الرؤساء والمسؤولين في هذه الدول. أهم ما سمعناه يصدر عنه في المراحل الأخيرة من الحملة الانتخابية هو قوله إنه اختار شعار «أميركا أولاً» هدفاً لرئاسته. هذا هو الشعار الذي يُخفي أكثر مما يعلن. يخفي الجهل بالسياسة الخارجية أو الشعور بالعجز، سواء عجز الدولة عن تحمل مسؤوليات ومهام دولية، أو عجز الرئيس عن إدارة هذا الفرع من مهامه، أو الرغبة في التقوقع لعدم توفر الثقة في الإمكانات ومصادر القوة.
بمعنى آخر، إن كان حقاً ما ينوي ترامب السير فيه، هو مواصلة الانسحاب المتدرج الذي سار فيه أوباما من قبله، فقد تجسّد بالفعل ولايته، الفصل الأخير في «عصر الحماية الأميركية».
المصدر: صحيفة السفير