محمد العبد الله
ثمانية وستون عاماً انقضت من عمر نكبة عام 1948. هي تظهير لنكبات سابقة: اتفاق سايكس _ بيكو، ووعد بلفور. وقد تجسّدت النكبة الأحدث بإقامة كيان عنصري، استيطاني واحتلالي فوق الأرض العربية الفلسطينية، نتيجة غزو استعماري امتدّ على مدى عقود خلت.
أما نجاح الهجمة اليهودية _ الصهيونية، فجاء نتيجة توفر عوامل عدّة. أصبح من الضروري التوقّف عندها في ذكرى الخامس عشر من أيّار.
- إن المصالح المتبادلة بين الإمبريالية البريطانية ورأس المال اليهودي، المؤدلج بالفكرة الصهيونية، أسّست للهجرة اليهودية الى فلسطين، والتي وفّر لها عسكر المندوب السامي البريطاني مظلّة الحماية والدعم.
- الأنظمة العربية الرجعية والإقطاعية، الخاضعة للهيمنة الإمبريالية، «ملوك ورؤساء بدرجة عبيد وخدم»، ساعدوا التحالف البريطاني _ اليهودي في تحقيق حلم هرتزل وجابوتنسكي وآخرين. وقد عبّرت برقية القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، والتي وجهها الى جامعة الدول العربية – العاجزة والمتواطئة والمشاركة بالجريمة – عن المرارة والخذلان من حالٍ عربي رسمي، شارك في الجريمة.
- رغم المبادرات والبطولات التي قدمها أبناء وبنات الشعب العربي الفلسطيني، ومشاركة المئات من المناضلين العرب المتطوعين في تشكيلات المقاومة المسلّحة للمشروع البريطاني _ اليهودي الصهيوني، إلا أن حصاد تلك المواجهات الدموية، مع عصابات الصهاينة «المتفوقة عدداً وعدة وتنظيماً»، والجيش البريطاني، كان دون تحقيق الصمود والانتصار، نتيجة عوامل ذاتية: ضعف الخبرة السياسية والتنظيمية، ودور القيادات الإقطاعية في المواجهات «النفس القصير والرهان على مصالح تلك القوى الاجتماعية المهادنة»، وعوامل موضوعية «دور النظم العربية».
- سقوط الحملات الدعائية والإعلامية التي حاولت الإساءة للشعب الفلسطيني «باعوا وطنهم» أمام سجل الوثائق والأسماء، والتي كشفت أن حفنة من أصحاب النفوس الضعيفة داخل المجتمع الفلسطيني _ وهي موجودة في كل الشعوب التي تعرضت بلادها للاحتلال_ باعت بعض ممتلكاتها. لكنّ القسم الأكبر الذي تم بيعه لليهود المستعمرين، كان على يد عدة عائلات عربية كانت تمتلك أراضي في فلسطين.
- إذا كان يوم الخامس عشر من أيار/ مايو 1948 قد جسّد موعد «شرعنة» الإعلان عن إقامة الكيان الصهيوني على أشلاء ودماء الشعب العربي الفلسطيني، بعد أكثر من 110 مذابح، نفذتها عصابات الغزاة المستعمرين بحق أصحاب الأرض الأصليين، فقد شكّل ذلك انقلاباً واضحاً في الحياة السياسية والفكرية، وحتى في المنظومة القيمية لدى الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
استيعاب صدمة التهجير
لم تمض سوى سنوات قليلة على اقتلاع وتبديد الشعب الفلسطيني خارج وطنه، حتى استعاد هذا اللاجئ توازنه من خلال البحث عن أقصر الطرق وأنجعها للعودة الى أرضه وممتلكاته. فقد ساهم في تأسيس وبلورة أطر تنظيمية، قومية عربية، وقومية سورية اجتماعية، وشيوعية، لوضع الخطط وبناء الهياكل التنظيمية للعودة الى فلسطين. لكن الانعطافة الأبرز، كانت في بدايات التحرّك لقيام أطر تنظيمية قطرية فلسطينية، أبرزها «جبهة التحرير الفلسطينية وحركة فتح»، مع بدء الفرز الداخلي لتشكيلات فلسطينية، أوائل ستينيات القرن الماضي «داخل حركة القوميين العرب»، وبالتنسيق مع مصر الناصرية، للتحضير لعمليات استطلاع عسكرية واستخباراتية لمواقع العدو داخل الوطن المحتل. وقد حمل منتصف العقد السادس، من القرن الماضي، تاريخ بدء المقاومة الفلسطينية المسلّحة... «الثورة المعاصرة». لكن شهر حزيران/ يونيو 1967، حمل للشعب العربي الفلسطيني وللأمة العربية، نكبة جديدة. فقد استطاع جيش المحتل الغازي أن يستكمل احتلال كل الأرض الفلسطينية: الضفة الغربية، وقطاع غزة، وهضبة الجولان السورية، رغم استبسال الجيشين المصري والسوري والفلسطينيين وقوات عربية رمزية في مواجهة العدوان الصهيوني. لكن النّظام الملكي الأردني قرر سحب قواته من الضفة الغربية، والتي كان يديرها، قبل ساعات من بدء الهجوم عليها. مما شكّل ثغرة كبيرة في جدار المواجهة.
في ظل هذا المخاض الفلسطيني، جاء إعلان القمة العربية، والتي انعقدت عام 1964، تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية. شكّل ذلك علامةً بارزةً في تبنّي النظام الرسمي العربي لقيام إطار فلسطيني. كيان موحد لحركة اللاجئين، حيث تسعى الأنظمة لضبط حركتهم واحتوائهم. لكن وصول مندوبي الفصائل الفدائية لغالبية مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني، عام 1969، أتاح لـ»حركة فتح» وياسر عرفات الهيمنة الكاملة على المنظمة وتعديل الميثاق، من ميثاق قومي إلى ميثاق وطني فلسطيني... لتكتمل «فلسطنة القضية». وفي خطوات عربية رسمية لاحقة، دفعت قيادة المنظمة للترحيب بها واعتبارها «نصراً»!
جاءت العمليات الفدائية الأولى لتقرع جرس الصحوة الوطنية والثورية. ليس في التجمعات الفلسطينية داخل الوطن المحتل وخارجه، بل داخل الأقطار العربية. وإذا كانت معركة الكرامة في 21 آذار/ مارس 1968 على أرض الأغوار قد أوقفت اندفاعة جيش الغزاة المحتلين، لاستئصال وإبادة الفدائيين الفلسطينيين، فهي قد سجّلت صموداً أسطورياً للمجموعات الفدائية المقاتلة بدعم وإسناد من بعض قطعات الجيش الأردني، بقيادة أحد ضباطه الوطنيين «مشهور حديثة». لكن الزخم الجماهيري الذي التف حول المقاومة إثر ذلك، شكّل مخاوف حقيقية لدى النظام الأردني ما دفعه في ظل قرار إقليمي ودولي _ مع توفر أخطاء سياسية وتعبوية ومسلكية من بعض قوى المقاومة_ لتنفيذ مجزرة أيلول الأسود في أيلول/ سبتمبر 1970، والتي شكّلت نكبة جديدة للشعب الفلسطيني.
ومع انتقال قوى المقاومة إلى لبنان، فُتحت ساحة عربية جديدة لتحتضن الفدائيين. لكن شهر العسل بين قوى المقاومة، والتركيبة السياسية الانعزالية والميليشيات الطائفية لم يدم طويلاً. لتدفع قوات المقاومة والمجتمع الفلسطيني، خاصّة داخل المخيمات، الدماء والأشلاء والتهجير، نتيجة التنسيق الأمني والسياسي بين تلك الميليشيات والعدو الصهيوني، الذي اجتاح جيشه مناطق واسعة من لبنان ليصل إلى بيروت، والتي أصر مناضلوها على استقباله بالرصاص في ردّ مباشر على بعض من استقبله بالورود والأحضان.
أدى ذلك إلى مأساة جديدة للشعب الفلسطيني ولقضيته إذ سطّر سكان المخيمات الفلسطينية بدمائهم تاريخاً جديداً للنكبة. وإذا كان تهجير الفلسطينيين قد تحقّق في بعض الساحات بالسلاح، فإن هجرة الفلسطينيين من الكويت عام 1990، جاءت بفعل السياسات العربية التي ألقت بعجزها حيناً، وبضرورة معاقبة الشعب الفلسطيني على مواقف سياسية لانحياز «قيادته الرسمية» لنهج بعض السياسات العربية الرسمية، بما لا يتوافق مع سياسة هذه العاصمة أو تلك، في أحيان كثيرة. أما سوريا ومخيمات الفلسطينيين فيها، وبشكل خاص «اليرموك وحندرات»، فقد تعرّضت لنكبة جديدة ما زالت فصولها قائمة. جبهة الأعداء قرّرت معاقبة سوريا على دعمها للمقاومة وتبنيها للقضية الفلسطينية كقضية مركزية لها. وباشرت تنفيذ المؤامرة بإنهاء «مخيمات اللاجئين الفلسطينيين»... ليس لرمزيتها، بل لواقعيتها، كشاهد حي على نكبتي 1948 و1967، خاصّةً بعد مسيرة العودة التي نفذتها قطاعات شبابية فلسطينية وسورية ولبنانية، اندفعت بروح كفاحية عالية في الخامس عشر من أيار/ مايو 2011، انطلاقاً من الأراضي السورية باتجاه الجولان المحتل، ومن الأراضي اللبنانية باتجاه الجليل المحتل.
أم النكبات الحديثة
لكن النكبة/ الكارثة في المسار السياسي، بعد تلك العقود من النجاحات والخيبات، جاءت على أيدي جزء من القيادة الفلسطينية في التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في أيلول/ سبتمبر 1993، والذي تنازلت فيه تلك القيادات عن الثوابت الوطنية التاريخية، التي تحكم الصراع مع الغزاة اليهود الصهاينة، ومع كيانهم الفاشي. وبوعي كامل، أسقط الموقعون _كان الشعب غائباً ومغيباً _ على الإعلان، الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني في أرضه، وتبنّوا بشكل مباشر، وطوعي، الرواية الصهيونية حول طبيعة الصراع ما فتح شهية التوسع اليهودي الصهيوني، والاعتماد على تبعية اقتصادية فلسطينية للكيان، وتنسيق أمني (تعاون بلا حدود) مع المحتل، ما انعكس داخل الحياة السياسية على تباينات واضحة، أفرزت شرخاً واسعاً وحاداً داخل البنية السياسية والمجتمعية الفلسطينية.
خاتمة
أمام هذا المشهد في محطاته المختارة، من مسار الصراع العربي الصهيوني، تبرز المقاومة الفلسطينية المسلحة «سلاحاً نارياً وسلاحاً أبيض»، بشكل أساسي، والمدعومة بكل الأشكال الأخرى من المقاومة السياسية والاقتصادية والثقافية، لتشير إلى أن الجيل الحالي الذي يقود الهبّة الشعبية الراهنة في القدس والضفة المحتلتين، والتي راهنت قوى الصهيونية والإمبريالية وحليفتها الأنظمة والطبقات الرجعية وبعض القيادات والقوى الفلسطينية، على «نسيانه» لفلسطين، وطناً محتلاً وشعباً مشرداً أو محاصراً أو أسيراً، لم يزل يفاجئ الصديق، والشقيق من «ذوي القربى» قبل العدو. فكل المحاولات لـ«كي وعيه» قد فشلت، رغم وحشية قمع الغزاة المحتلين، وتصحّر وتجريف الحياة السياسية والثقافية. وتراخي وليبرالية العديد من الأحزاب والحركات. وتفشّي مايكروب منظمات الأنجزة المرتبطة بأجهزة التمويل الإمبريالية.
في الخامس عشر من أيار/ مايو 2016 تم تعميم النكبة بتعبيراتها الدموية، والفاشية، والتدميرية، والتفتيتية، للمجتمعات «طوائف ومذاهب» على العديد من الأقطار العربية، خاصّةً بعد أن أسفرت النظم العربية الرجعية والمرتبطة بالعدو الصهيو_أميركي عن وجهها القبيح، وأزالت وقاحة العمالة العلنية كل مساحيق التجميل المزيفة.
ولهذا فإن مواجهة نكبة الشعب الفلسطيني المتجددة، ومواجهة نكبات الجماهير العربية في أقطارها، تتطلب وحدة الوطنيين الملتزمين بالمقاومة في مواجهة جبهة العدو، والتي تتكون من قوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية «أنظمة وقوى وأفكار»، وكل السماسرة على الأراضي والعقول الذين يعملون على إدخال الهزيمة للوعي العربي، وعلى التطبيع مع كيان الغزاة المحتلين لفلسطين. وها هم الفلسطينيون، في كل أماكن تواجدهم، يحيون يوم نكبتهم بالإصرار على العودة وعلى المقاومة. واللافت ما يحصل داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1948، إذ يحيي أبناء الشعب العربي الفلسطيني ذكرى نكبتهم من خلال استلهام دروسها. الارتباط بوطن الآباء والأجداد، وبالمسيرات نحو القرى والمدن المهجرة «النقب وطيرة حيفا والجليل»، من أجل الحفاظ على ذاكرة فلسطينية تترسخ فيها الأرض الفلسطينية كواحدة من المقدسات.
المصدر: صحيفة الأخبار