قضايا وآراء » ذكرى النكبة: فلنقرأ وليد الخالدي

حسن شامي

تحت شعارات تتحدث عن العودة وعن "يوم استقلالهم يوم نكبتنا" أحيا آلاف الفلسطينيين الذكرى الثامنة والستين للنكبة. وبذلك يذكّرنا الفلسطينيون بأن عمر النكبة، أطال الله في أعماركم، شارف على السبعين سنة.

من شأن مثل هذا العمر العتيّ أن يسوّغ الاعتقاد المزدهر عربياً بأن المسألة الفلسطينية شاخت وهرمت ويستحسن تركها تواصل أفولها الطبيعي. غير أن العقود السبعة التي تفصلنا عن النكبة لا تفسّر الانطباع المتفشي، في طول المنطقة وعرضها، عن وصول القضية الفلسطينية إلى أرذل العمر، أي شيخوختها وغروبها. والحال أن هذه الشيخوخة هي محض صناعة واصطناع ولا علاقة لها بالزمن الطبيعي وأعمار الدول كما شخصها مؤرخنا المتشائم ابن خلدون.
وحدهم الفلسطينيون يجمعون بين طقوس الاستذكار وطقوس العزاء والحداد على قتلاهم كل يوم تقريباً. وحدهم إذن، وعبر هذين النوعين من الطقوس، ينقلون الماضي إلى الحاضر والحاضر إلى الماضي، بحسب ما يرى علماء الإناسة. وهذه طريقة للقول إن النكبة ليست وراءنا بل أمامنا شاخصة كعين مفتوحة تلاحق التاريخ السياسي العربي الحديث بتوثباته وخيباته وآماله وهزائمه. صحيح أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسور منذ النكبة. وصحيح أن بعض هذه المياه جفّ من تلقاء ذاته وأن بعضها الآخر جرى تجفيفه بالقوة الخارجية وتواطؤ قوى عربية. المعادلة التي أنتجت النكبة هي نفسها ما يلوح في صحراء السياسات العربية الحالية وحروبها الأهلية الباردة والساخنة. المعادلة تقول ما يلي: كي يكون الكيان الصهيوني، الناشئ برعاية وتواطؤ سلطة الانتداب البريطانية، قوة توسعية وفاعلاً سياسياً وازناً في عواصم القرار ينبغي أن يكون الفلسطينيون ومحيطهم العربي ضعفاء وعاجزين وملحقين وبلا سيادة واستقلال وطنيين حقيقيين. باختصار ينبغي بكل الوسائل إجهاض أي محاولة تقود إلى تحول شعوب وكيانات هذه المنطقة إلى فاعل سياسي حقيقي. في سياق استراتيجيات سيطرة من هذا النوع جاء العدوان الثلاثي على مصر الناصرية بسبب تأميم قناة السويس وليس بسبب "مركزية" القضية الفلسطينية بحسب المعزوفة الشائعة في أدبيات التائبين والمتعوّذين من مغامرات العروبة السياسية التنموية والحداثية.
ليس هناك أفضل من قراءة المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي لفهم هذه المعادلة. ونقصد بالتحديد كتابين للمؤلف صدرا على التوالي قبل ثلاثة أعوام، بالتعاون مع مركز الدراسات الفلسطينية، عن دار سندباد ـ أكت سود في باريس بعد نقلهما إلى الفرنسية من الإنكليزية والعربية. الكتاب الأول حمل عنوان "النكبة، 1947ـ1948" ويتضمن نصوصاً كتبت بالانكليزية لمخاطبة القارئ والرأي العام الغربيين، ونشرت ما بين عام 1959 ومطلع التسعينيات. هذه النصوص تدحض السردية الصهيونية عن نزوح وتهجير الفلسطينيين على خلفية نداء عربي يدعوهم إلى المغادرة تمهيداً لدخول الجيوش العربية الخمسة. هذا النداء لا أثر له في كل الأرشيفات المكتوبة والإذاعية. إنه محض تلفيق وتزوير يخاطب الرأي العام الغربي لتطويعه ولتجميل صورة القوة الكولونيالية الصهيونية الصاعدة. ويلقي الخالدي الضوء على الوثائق التي تكشف مخطط التهجير والترحيل المعروف باسم "مخطط دالت" كما يخوض بطريقة علمية موثقة في ملابسات سقوط مدينة حيفا قبل أسابيع قليلة من دخول الجيوش العربية. النص الأبرز يتناول بطريقة نقدية كاشفة حيثيات قرار التقسيم الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947. ويرى الخالدي بحق أن قرار التقسيم لم يكن عادلاً ولا متوازناً ولا أخلاقياً ولا واقعياً ولا براغماتياً بل حتى يمكن الشك في شرعيته القانونية بالنظر إلى حجم الضغوطات والابتزازات والإكراهات التي مورست لترجيح حصوله على أصوات الدول الأعضاء والتي تراجع بعضها عن تصويته.
الكتاب الثاني يتناول الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى عام 1948، وهو عبارة عن سلسلة مقالات نشرت بالعربية في جريدة الحياة لمخاطبة الجمهور العربي العريض في الذكرى الخمسين للنكبة ثم صدرت في كتاب عن دار النهار اللبنانية ونقلها قبل عامين ونصف العام إلى الفرنسية، في ترجمة أنيقة وسلسة مدير النشر في دار سندباد فاروق مردم بك.
وليد الخالدي ليس عارض عواطف ووعظيات. بل حتى نرجح أنه يمتعض من الحمولة الانفعالية لمصطلح النكبة الرومانسي والدامع. فهو يضع النكبة في منظار تاريخي نقدي وعقلاني.

انتصار الرواية الصهيونية معقود على هشاشة الوطنيات العربية
وإذ يخاطب القارئ الغربي لتزويده بقراءة أخرى للنكبة تحرره من خرافات السردية الصهيونية المنتصرة، فإنه يحض الرأي العام العربي والفلسطيني على مقاربة النكبة كحدث تاريخي يمكن تعقل مداخله ومخارجه ومعطياته بطريقة موثقة وعلمية. وعلى غرار ما فعل سلفه القريب مثل قسطنطين زريق وساطع الحصري يحض على استنهاض الحس النقدي والتخفف من السرديات المريحة والكسولة. يكشف الخالدي عن القصور البنيوي للمجتمع الفلسطيني و"للوطنيات" العربية الناشئة عن سايكس ـ بيكو والحرب الثانية. فهو يستهل دراسته عن حرب 1948 بالتشديد على أن الحكومات العربية المنخرطة مباشرة في الصراع مع إسرائيل كانت تتوزع على محورين. الأول يضم العراق وشرق الأردن حيث السلطة في يد الأسرة الهاشمية. ويضم المحور الثاني سورية ولبنان ومصر والمملكة السعودية. وكان كل طرف يرتاب في نوايا الآخر. والسبب الرئيس لهذا الارتياب هو مشروع سورية الكبرى، أي توحيد سورية ولبنان وفلسطين والأردن في دولة واحدة ينضم إليها العراق لاحقاً تحت راية الهاشميين وبمباركة بريطانية. الفكرة أطلقها رئيس الحكومة العراقية في مطلع الأربعينيات ثم تلقفها الملك عبد الله في عام 1946 بعد استقلال لبنان ثم سورية واشتداد التوتر في فلسطين. وكان السوريون، برئاسة شكري القوتلي، الأكثر ارتياباً في نوايا الملك الأردني وطموحاته إلى توسيع نطاق مملكته.
يرى الخالدي بحق أنه كما هي الحال دائماً في تاريخ الحروب والثورات يلجأ كل طرف إلى سردية تعكس الأساطير المنسوجة لإثبات التفوق الأخلاقي على الطرف الآخر. وكما يحصل دائماً قامت سردية الغالب المنتصر في 1948 بحجب سردية المغلوب وترسخت الرواية المنتصرة في الوعي الغربي مما عزّز تصوراتها السلبية عن العرب. هكذا رأت الرواية الصهيونية أن الدولة الوليدة التي لم يكن عدد سكانها يتجاوز الـ650 ألفاً تعرضت لاجتياح من قبل جيوش خمسة بلدان عربية مستقلة تضم أكثر من أربعين مليون نسمة وتمتلك قدرات دول قوية بما في ذلك الأسلحة المتطورة، وأن هذه الجيوش كانت تحظى بتأييد بريطانيا المصممة على خنق المولود الجديد. على هذا النحو تترسخ صورة الواحة السعيدة والآمنة التي تريد أن تلتهمها وحوش الصحراء. وهكذا يكون الانتصار الكاسح تجديداً لانتصار داوود على جالوت، ما يعني أن الجماعة الصغيرة كانت ولا تزال مقيمة بثبات على الحق والخير الأبديين وأنها تتفوق أخلاقياً على أعدائها. أما الخرافة العربية الأكثر انتشاراً حتى أيامنا، فهي التي تزعم أن "العصابات الصهيونية" اندحرت خلال المرحلة الأولى من الحرب ـ ما بين 15 أيار و11 حزيران ـ ولم يكن أمام الجيوش العربية سوى بضعة أيام لسحق العدو نهائياً، لكن التهديدات الدولية بالتدخل أنقذت العدو وأجبرت الحكومات العربية على القبول بوقف إطلاق النار.
في عرضه الموثق بالأرقام والمعطيات عن الوقائع الميدانية يدحض الخالدي السرديتين الشائعتين عن الحرب والنكبة، على تفاوت قيمتهما. يكشف عما بات معروفاً في حلقات المؤرخين والباحثين وهو تفوق القوات الصهيونية عدداً وعتاداً وتنظيماً وخبرة عسكرية على الجيوش العربية الخمسة مجتمعةً. ذهبت هذه الجيوش إلى الحرب وعين كل واحد على الآخر وبدون تنسيق فعلي بينها وبدون تصور واضح عن الهدف. وكانت هذه الحكومات في علاقتها الذيلية بالقوى الغربية، وخصوصاً بريطانيا، أقرب إلى المصانعة منها إلى الممانعة. وهذا ما يضعها في موقع المسؤولية المباشرة التاريخية والأخلاقية عن النكبة.
إذا قسنا النكبة بمقاييس أعداد الضحايا والنازحين وحجم الدمار فإنها تبدو "لعب عيال" أمام أهوال النكبات المتواصلة حالياً في سورية والعراق واليمن وليبيا. وهذا ما يلتقطه الوعي الشقي في المنطقة لتطبيع النكبة ونتائجها. ويخشى من أن يقود الوعي الشقي ذو الفرص المؤاتية، معطوفاً على تفاؤل أبله إلى العدمية السياسية والأخلاقية. بعبارة أخرى دلالات النكبة تتصل برهانات تختبر القدرة العربية على بناء مجتمعات وطنية متوازنة وديمقراطية منفتحة وحداثية. انتصار الرواية الصهيونية معقود على هشاشة الوطنيات العربية وعلى مخاطبة الوجه الأسود في التاريخ الأوروبي والغربي الحديث أي المخيلة الاستعمارية. وهذا رهان آخر من رهانات التحرر من النكبة المتصلة. فلنقرأ وليد الخالدي.
 
المصدر: صحيفة الأخبار

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد