كرم الحلو
تضطلع مراكز الفكر بتأثير أساسي في عملية صنع السياسة العامة في النظم الديموقراطية، بل إنها أضحت أحد الفاعلين المحليين والدوليين بما تقدّمه من توصيات ومعلومات وتحليلات لمساعدة صانعي السياسة على اتخاذ القرارات. في هذا السياق، عملت الباحثة هبة جمال الدين محمد العزب في &laqascii117o;دور مراكز الفكر في صنع السياسة العامة، دراسة حالة إسرائيل"، &laqascii117o;مركز دراسات الوحدة العربية" 2015، على دراسة خريطة مراكز الفكر الإسرائيلية ودورها وتأثيرها في صنّاع القرار، وبالأخص دراسة حالة &laqascii117o;معهد السياسة والاستراتيجية"، لاختبار تأثيره في ما تتبنّاه الحكومة من سياسات، وما تصدره من قوانين، عبر دراسة ظاهرة معاداة السامية، كإحدى أهم القضايا التي اهتم بها المركز بشكل دوري.
مراكز الفكر الإسرائيلية
تمتلك إسرائيل 35 مركزاً فكرياً تندرج في أربعة تصنيفات: مراكز الفكر الأكاديمية التابعة للجامعات الحكومية، مراكز الفكر التابعة للقطاع العام (الوزارات والكنيست والموساد والشين بيت)، والمراكز التابعة للأحزاب السياسية، والمراكز الخاصة التي تهتمّ بقضايا الصراع العربي الإسرائيلي.
تؤدي هذه المراكز وظائف متعددة للتأثير في صنع السياسة العامة، من خلال معاينة المشكلات التي تواجه اسرائيل داخلياً وخارجياً، بتحديد الأولويات، وتوعية الرأي العام ووسائل الإعلام بالمشكلات الملحة. وقد استطاعت الاستمرار والتكيّف مع المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية، فطوّعت وسائل الإعلام لخدمة أجندتها، واستفادت من شبكة الإعلام الدولية لإصدار مطبوعات وتقديم مقترحات، إضافة إلى ما تنظمه من ندوات ومؤتمرات. كما تتمتع تلك المراكز بمقومات عمل داخلية تكسبها القوة والتأثير. فلديها نخبة من الخبراء والباحثين المتميّزين حاملي أعلى الدرجات العلمية من الجامعات المرموقة، ولديها مجلس إدارة يملك علاقات جيدة داخلياً ودولياً، إضافة إلى مصادر تمويلها التي تتصف بالاستمرارية والتنوع، نظراً لتعدد جنسيات المتبرعين من كل العالم، واتسام شريحة كبيرة من هؤلاء بالثراء البالغ، وانتماء أغلبهم الى مؤسسات يهودية كبيرة تؤدي دوراً في خدمة أهداف الدولة العبرية كالمؤتمر اليهودي العالمي، وفدرالية النداء اليهودي العالمي.
بالنظر الى العامل الاجتماعي والثقافي، يقدّم المجتمع الاسرائيلي الحافل بالمشاكل والآفات الاجتماعية بيئة خصبة لمراكز الفكر. فالمشاكل على الصعيد المحلي تتراكم، من وضع الفلسطينيين بإسرائيل، والتمييز الطائفي بين الأشكناز والسفارديم، الى الصراع بين المتدينين والعلمانيين، ومشاكل الهوية وإحياء التراث اليهودي ودعم اللغة العبرية، علاوة على الاستيطان وبناء المستوطنات وقضايا التنمية والمشاكل الاقتصادية.
القرب من مراكز القرار
في ما يتعلّق بعلاقة مراكز الفكر بصانع القرار، يلاحظ أن مراكز الفكر الحكومية والجامعية هي الأكثر قرباً من مراكز القرار، إذ هي جزء من الهيكل الحكومي للدولة، كما أنه للمراكز المستقلة علاقة مع النخبة الحاكمة، تظهر في المشاريع التعاقدية ذات التمويل الحكومي.
في هذا الإطار يندرج &laqascii117o;معهد السياسة الاستراتيجية" وهو مركز فكر، خاص ومستقل، لا يتبع الكيان الحكومي ولا الحزبي ولا الجامعي، تأسس في العام 2000 بمبادرة من أحد قادة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. ومنذ ذلك العام يمارس نشاطاً متميزاً في دعم الدولة الإسرائيلية والتواصل مع المجتمع الدولي ويهود الشتات، خاصة مؤتمره السنوي – &laqascii117o;مؤتمر هرتسيليا لميزان الأمن القومي" – الذي يمثل محفلاً للخبراء والأكاديميين والساسة والعسكريين والنخب السياسية من داخل إسرائيل وخارجها، ويناقش قضايا بالغة الأهمية للأمن القومي الإسرائيلي.
فلدى هذا المركز قاعدة كبيرة من المموّلين والمانحين والمنظمات والشخصيات من أبرز وأغنى أغنياء العالم، علاوة على علاقته القوية بالمؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات ووسائل الإعلام المحلية والعالمية. ويمكن النظر إلى مدى قرب المركز من صناع القرار بالدولة الإسرائيلية، إذ يحتفظ بعلاقة جيدة مع النخب الحاكمة عبر مشاركة قادة الدولة في الفاعليات التي ينظمها، خاصة مؤتمر هرتسيليا، حيث يحرص قادة الجيوش وأجهزة الاستخبارات على حضوره، ما جعل الباحثة تعتبر الطبيعة المدنية للمركز سمة ظاهرية.
يحرص العديد من قادة العالم ومراكز الفكر الدولية والأكاديميين بأكبر الجامعات في العالم، علاوة على ساسة وديبلوماسيين عرب، على المشاركة في &laqascii117o;مؤتمر هرتسيليا". من هؤلاء ساركوزي وكونداليزا رايس والحسن بن طلال، إضافة الى السفراء العرب في إسرائيل. وتناقش في المؤتمر المخاطر التي تهدد إسرائيل ومستقبل الاقتصاد الإسرائيلي وأزمات المياه والطاقة، فضلاً عن إشكاليات المواطنة والهوية اليهودية والفقر ومعاداة السامية.
وترى الباحثة في تقارب الاستراتيجية التي يصوغها المعهد مع سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 2000، مؤشراً على دوره في صياغة التوجهات الحكومية، إلا أنها لا تجزم بأن السياسة الحكومية التي تمّ تطبيقها هي صنيعة المعهد، إذ إن الحكم بتأثير تلك المراكز أمر صعب القياس والرصد نظراً إلى الطبيعة المعقدة لعملية صنع السياسة العامة في إسرائيل التي يشترك فيها فاعلون كثر، بل يصعب الوقوف على ما يتم خلف الأبواب المغلقة، إلا أن ما يمكن تأكيده هو قرب مراكز الفكر من مراكز صنع القرار.
الفراغ العربي المقابل
إزاء كل هذا التطوّر الذي تشهده مراكز الفكر الإسرائيلية، تلاحظ الباحثة تراجع دور مراكز الفكر، خاصة الحكومية، في الدول العربية، برغم حاجتها الماسة الى مثل هذا الدور في ظل التحديات الراهنة، ما يجعل إنشاء مراكز تختص بالشؤون الإسرائيلية ضرورة ملحّة، حتى لا نستيقظ يوماً على ضياع الحقوق وتزييف الحقائق والتاريخ.
نرى ختاماً أن الباحثة أضاءت على جوانب من الصراع العربي - الإسرائيلي قد تكون هي الأخطر في صراعنا التاريخي مع الصهيونية، نظراً للفوارق الهائلة في الإنفاق على البحث بين الدول العربية وإسرائيل التي أدركت دور الرؤية المستقبلية والتخطيط العلمي الدؤوب في تثبيت كيانها الغاصب، بينما نفرط بإهمالنا هذين السبيلين بحقوقنا التاريخية ونضيع الطريق الى المستقبل. إلا أن الدراسة، كما تعترف الباحثة، تثير أسئلة لم تجب عنها وفي مقدمتها رؤية مراكز الفكر لمستقبل الدولة العبرية، واستراتيجيتها لمواجهة تحدي نقص المياه، والحرب على الإرهاب، والتحديات الداخلية بالمجتمع الإسرائيلي، والبدائل المطروحة لمواجهتها، ودور الشتات الإسرائيلي في دعم مراكز الفكر.
المصدر: صحيفة السفير