قضايا وآراء » النهايات قادمة والبداية من دمشق!

نصري الصايغ

هو زمن السقوط، إنه فنّ النهايات.
البداية من دمشق، أو ربما، من بغداد، أو حتى من القاهرة، أو قبل ذلك من طرابلس، أو قبل قبل ذلك من معقل الوهابية، أو من أمكنة مشرقية موبوءة، أو من هنا وهناك وهنالك، أو من أمكنة نائية وغير مرئية، أو من كل مكان في هذا العالم... العالم يتكسّر كلوح من زجاج، «مؤسسات الله» مسؤولة، «مناجم المصارف» مسؤولة، «ثعالب الأسلحة» مسؤولة، هذا الخراب استحقاق عالمي: المشرق يتساقط فتاتاً ولا يلمّه أحد. الكيانات تتآكل بلا هوادة، الشعوب تتناقص باضطراد، القتلى على القارعة، المهجّرون، «فتنة» العالم الكبرى، الدين، عصبة وعصاب وعصابات، العالم المتمدّن يخرّ أمام التعصب والخوف و «الفوبيا» المعمّمة. أوروبا على شفير التفكك بعد ثلاثة أرباع قرن من عناء التوحّد، تركيا تخوض حرباً عصبية حتى يوم القيامة، السعودية «دولة عظمى» رثة، تأمر الأمم المتحدة فتُطاع. مصر دخلت فرعونية ممسوخة، الدولة العظمى في أميركا يخطفها التطرف.
هذا هو زمن التطرّف والتخلف.
البداية بالتأكيد من دمشق، تغيَّر العالم بعد حريقها. هي العاصمة المنكوبة وغيرها يستعدّ لاحتمال أثقال الحرب. قبل مراراً وتكراراً من قبل: «حذار دمشق. اطفئوا النار فيها، اللهب السوري يُشعل الحرائق». لم يسمع أحد. فتحنا أبواب الجحيم. ما كان انتفاضة ثم ثورة انتهى بسرعة. «الربيع العربي» مرّ متسكّعاً ومريضاً. خَلَّف بعده عدوى تشبه الوباء. هواء بلون الموت يجتاح المدن، هنا وهناك وهنالك، وحيث تتسنّى له جاذبية الفراغ السياسي والخواء الأخلاقي. دين ونفط وآية وعسكر وأموال ودول اجتمعوا في جملة بليغة: «من التخلف يولد التطرف». العالم اليوم يقود العنف ويقادُ به. تلك «لعنة أوديب». كان العالم معقولاً، فلم كل هذا الجنون؟
لا داعي لترسيمة المنطقة. هي في الأساس لم تكتمل. لا خطوط واضحة للمشرق ولا ضرورة لاستعادة مشاهد القتل والدمار والحرائق والتهجير وواقع العار الذي يعيشه المشرّدون الأحياء الذين يملأون الطرق. سوريا تكرر مشهديتها. العراق يقف على قدميه بعكازتي أميركا وإيران. اليمن فضاء مفتوح للسفك. أطفاله ممنوعون من الدخول إلى نصوص الأمم المتحدة. ليبيا تستشهد بلا كلل ولا أجر... هذا كله معروف. ومعروف أكثر أن العرب البائدة ورثوا عرب القرن الحادي والعشرين.
المشهد العالمي بائس. لم يكن العالم بهذا الجنون من قبل. كان معقولاً ومفهوماً. لم يكن عادلاً، ولكنه كان عاقلاً ومنحازاً. هو بالأساس ليس «مدينة فاضلة» ولا جمهوريات افلاطونية. بعضه كان يتقدّم وبعضه كان يتراجع بطريقة متدرجة ومنهجية واضحة. العالم الغربي سار عقوداً في اتجاه بناء متين. الوحدة الأوروبية نتاج جهد وتضامن، بعد حربين عالميتين، أمنت سلاماً شبه تام. هذه الوحدة، ورثت الدول المنشقة عن الاتحاد السوفياتي. انضمّت بسرعة إلى الدفء الأوروبي. حتى الاتحاد السوفياتي سقط كأنه ينام. امبراطورية عظمى استرخت وتراخت بمعاناة الخلاص... هذه الأوروبا مصابة بدوار السؤال: هل تبقى موحّدة أم أن الآتي أعظم من الاحتمال؟
مرة أخرى، البداية من «دمشق الحرائق»، موجات من المهاجرين الناجين من القصف والقتل والغرق عبرت إلى تخومها، بنسب ضئيلة. خافت القارة العجوز، المهاجرون والمهجرون الناجون من المآسي المتسلسلة أثاروا هلعاً مريعاً. رأت في الإسلام لوناً عصابياً. خافت من الحجاب، ارتعبت من الآية. استفظعت الأعداد وطفح الكيل. انسحبت أوروبا من «إنسانيتها» التي لا تناسبها، واستقبلت حساسية «الفوبيا»... لا خطاب يعلو على خطاب «الإسلاموفوبيا». اليمين المتطرف يفوز ويتقدّم. لا حواجز تقف أمام انتشاره وتجذّره. تستقبله طبقة سحقها النظام الرأسمالي المعولم، وتجد فيه سبب بؤسها. ها هي فرنسا تنزف وتعالج دماءها بالرهان على مارين لوبن. السويد النائية تفعل ذلك. النروج أيضاً. بلجيكا تتحصّن. النمسا كادت أن تصبح «الميمنة الأولى». كادت أن تسقط في التطرف. ألمانيا مهددة بدفع الثمن. لن تنجو ميركل، هي متّهمة بإيواء الخارجين من سوريا والخارجين عن «قانون العرق». قد ينهار الاتحاد إذا خرجت بريطانيا، يُقال! أي فوضى ستلم أوروبا؟ قيل مراراً «حذار دمشق». لم يسمع أحد. دمشق «لغم الحضارة» بعدما كانت في التاريخ «أم الحضارة».
ليس هذا كله يفسر تلك النهايات.
الاستبداد العربي فشل في حفظ الأمن بعدما خطف الحرية باسمه. فشل في حفظ الكيان بعدما غالى في الاحتفاظ بالسلطة... الحرية كذلك، وقعت أسيرة التطرف الديني. النظام العالمي رعى الاستبداد، وراهن على الاعتدال الإسلامي. فشل في الاثنين. هو شريك في الحرائق والخيبات.
فشلت الرأسمالية المالية في تحقيق «عدالة السوق». تحوّلت الى طغيان فالت من عقله وعقاله. هو طغيان كوني «يستخدم الحكومات المحلية وسياسييها» كأنهم قواد عبيد. معظم الحكومات مستعبد لدى المصارف المركزية والمصارف المحلية والشركات الكبرى. المال الرأسمالي مجلل بالدم وملوّث بالجثث. يستخدم الإعلام «كمروج مخدرات» (جون بيرغر) هدفه الأوحد الربح وتراكم الثروات والأموال، ولو زهقت ملايين الأرواح. ارتدت الرأسمالية المالية العالمية على شعوبها. أفقرت الضعفاء وأفرغت الطبقة الوسطى من حصانتها. صارت بلا أفق. باتت الديموقراطية عملية اقتراع بلا فائدة وبلا معنى... الانتخاب يبدأ من فوق. القرار تسنه المصارف، ولها باع في ان تكون مع الضدين: مع اليمين ومع اليسار الذي بات يميناً بجدارة الخسارة.
غداً، قد يطل الوحش الأميركي. دونالد ترامب على الأبواب. هذا لا يتهم المسلمين، بل يتهم الإسلام. نازية جديدة قادمة.
هو زمن الجنون. إنه فن النهايات. لم يكن ذلك من السماء أبداً. هذه البشرية تصنع نعيمها أحياناً قليلة، وتحفر قبورها في معظم الأحيان. الحربان الكونيتان شاهدتان. الحرب الكونية في سوريا خير برهان.
 
المصدر: صحيفة السفير

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد