- صحيفة 'النهار' (أ ب)
في مقبرة البقيع حيث دفن أقرباء النبي محمد ومتحدرون من سلالته وبعض صحابته، غلبت العاطفة إيرانياً شيعياً فوبخه جندي سعودي وصرخ في وجهه بحدة: 'توقف عن البكاء'. ثم أحاط الجندي المسلح بمسدس عند خصره، بالرجل بينما كان ينهي صلاته للتحقق من أنه لم يعاود البكاء. وتقع مقبرة البقيع على قطعة أرض كبيرة في مواجهة المسجد النبوي الذي يضم قبر الرسول في المدينة المنورة وخلف أسوار عالية من الرخام وبوابات حديد.
وفيها قبور أربعة أئمة شيعة، يجذب وجودهم فيها الشيعة من أنحاء العالم على مدار السنة، وخصوصاً في أيام الحج، وينظمون صلوات تكريماً لهم. وهي المكان الذي يصير فيه التنافس المرير بين السلطات السنية في المملكة العربية السعودية وإيران الشيعية، أمراً شخصياً. يتدفق الإيرانيون والشيعة الآخرون على القبور حيث يرقد العديد من المتحدرين من نسل نبي الإسلام، بينما يحاول الجنود السعوديون وأفراد هيئة 'الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر' منع البكاء. وتصادر من أيدي الشيعة الكتب الدينية الخاصة بهم، ويُؤمرون بقراءة النصوص التي توافق عليها السعودية والمكتوبة في لوحات في المكان، ويفرض على مجموعات المصلين التفرق.
ويعود جانب من القيود القاسية إلى أسباب دينية. إذ تعتبر الوهابية المتبعة في السعودية طقوساً مثل البكاء أو حتى الصلاة عند القبور وتبجيل الصالحين، أمراً غير مستحب لأنه قريب من عبادة الأوثان. كذلك يعتقد العديد من رجال الدين الوهابيين الشيعة من الهراطقة. وينظر السنة إلى المدفونين في البقيع على أنهم أشخاص أجلاء، لكنهم لا يعترفون بسلطة الأئمة كما هي الحال لدى الشيعة، ولا ينظرون بعين القداسة إلى بشر، ولو كانوا من سلالة النبي أو المقربين منه. وكانت شواهد وضرائح ترتفع عند القبور في البقيع، غير أن الوهابيين أزالوها مطلع القرن العشرين. وتبدو المقبرة اليوم أرضاً مسطحة من التراب، تحدد أمكنة القبور فيها في صفوف، كما هي الحال في كل المقابر السعودية.وأبعد من الممارسات الدينية، هناك السياسة، إذ تتصارع السعودية وايران على النفوذ في الشرق الأوسط.
وتقاتل القوات السعودية منذ أكثر من شهر المتمردين الحوثيين على الحدود مع اليمن والذين يُعتقد أن ايران تدعمهم. كذلك تتهم الرياض طهران بتأجيج النزاعات في لبنان والأراضي الفلسطينية والعراق. وتبدو السعودية قلقة من الأزمة النووية الإيرانية مع الغرب. وقد استدعى تصريح نادر في هذا الشأن لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، رداً إيرانياً غاضباً. ورأى مدرس اللغة الانكليزية الإيراني مهدي حبيب الله الذي زار البقيع بعد أدائه فريضة الحج في تشرين الثاني، أن ما يحصل هناك قمع له وللشيعة بشكل عام، إذ 'ربما يريدون تحذيرنا والقول أنتم مختلفون وعليكم الحذر وعليكم عدم التدخل (في سياسات الدين)'. أما مدرسة القرآن الإيرانية زينات بو علي التي غلبتها الدموع لدى رؤية الفراغ في البقيع، فقالت :'أرى القبة الخضراء عند قبر النبي محمد وأتوقع الشيء نفسه بالنسبة إلى أئمتنا'.
وهي شاهدت المقبرة عبر البوابة، إذ يحظر على النساء دخول المقابر. وتقف نساء عند الأبواب يرجون الجنود السماح لهن باقتناص نظرة إلى القبور. وتسمح السلطات السعودية للرجال بالدخول، ولكن لفترة محدودة يومياً، وتراقبهم عن كثب. وأشار حبيب الله إلى أن الحراس السعوديين 'يتذمرون من كل شيء. إذا أراد شخص تلاوة الصلاة بصوت مرتفع، يقولون : اخفض صوتك. إنهم شديدو الاهتمام بمتابعة التفاصيل، وليسوا، ويا للأسف، شديدي التهذيب'. كما يفرق الجنود المجموعات الكبيرة، ويحاولون الخوض في مناقشات دينية مع الشيعة. وإذا كان أفراد من الأقلية السعودية الشيعية اشتبكوا مع رجال الأمن في وقت سابق من عام 2009، فإن الأمر مع الإيرانيين يأخذ بعداً سياسياً. يقول رجل الدين الإيراني أحمد منائي إن السعوديين 'يعتقدون ان الشيعة كفار ويجب قتلهم وإزالتهم من العالم'.
لذلك فإن إيران، التي تتجه 'نحو المعرفة أو امتلاك التكنولوجيا والقوة النووية، تخيفهم بشدة... إنهم يقبلون بذلك من الصهيونية (اسرائيل)، لكنهم لا يقبلون به من الشعب الشيعي. يعتقدون أننا أعداؤهم، لكننا لسنا أعداءهم'. وهو يرى دوراً أميركياً في الخلافات السنية-الشيعية، معتبراً أن كره الوهابيين للشيعة يساعد الأميركيين في تأليب الدول السنية على نمو النفوذ الإيراني وفي 'التفرقة بين المسلمين'. وفي المقابل، تعتقد السعودية ان إيران تستغل الحج لاغراض سياسية تتمثل في إطلاق الشعارات بينما يفترض أن يكون الحج مناسبة لوحدة المسلمين. وكانت التظاهرات خلال موسم عام 1987 تحولت مواجهات دامية.