ـ صحيفة 'السفير'
رفعت رستم الضيقة:
ليست مقاربتنا لمسألة علاقة الدولة بالغيبة مقاربة منطقية شكلية صورية مجردة. بل هي مقاربة تاريخية تستند إلى التجربة التاريخية للدولة الإسلامية والموقع التاريخي للجماعة الشيعية في هذه التجربة. فالغيبة لم تأت من فراغ تاريخي، بل هي أتت كمحصلة لتجربة تاريخية شيعية مع الدولة وضع الأئمة الشيعة خلالها أنفسهم وأتباعهم خارج منطق الدولة كأفق أسمى للسياسة. لقد أتت الغيبة لتكرس هذا الموقف التاريخي لأئمة الشيعة وتحوله إلى نقض دائم للدولة كمؤسسة قهرية من حيث التكوين، يمكن التعامل معها سلبا أم إيجابا كما تقتضي مصلحة الجماعة، ولكن لا يمكن التماهي معها كسلطة شرعية تمثل الجماعة.
بين خيار الانخراط في مشروع إقامة الدولة وخيار الوقوف على رأس الجماعة، اختار أئمة الشيعة البقاء مع الجماعة و الإنكار على الدولة شرعيتها الدينية الكاملة. في غياب هذه الشرعية الدينية الكاملة للدولة تصبح شرعيتها مشروطة بسلوكها العملي الإجرائي في ممارسة سلطتها الإدارية على الجماعة. وليس في الغيبة ما يمنع الجماعة من الاعتراض والثورة على السلطة القائمة دفاعا عن حقوقها كما حصل مرارا و تكرارا في التاريخ الشيعي. فالغيبة لم تلغ كربلاء، بل كرستها كلحظة ثورية كامنة في الضمير الجماعي الشيعي كابحة لتطاول الدولة على الجماعة من خلال تجريد هذه الدولة من أي صفة تمثيلية متعالية على الجماعة. أي ان الغيبة أحالت نهائياً كل دولة، أكانت إسلامية أم غير إسلامية، إلى كيان سياسي زمني غير متعال. فإذا حدث وتسلم أحد العلماء مقاليد الدولة فإن شرعيته لا تعدو كونها شرعية زمنية خاضعة كغيرها من السلطات الزمنية لمحاسبة الناس بمن فيهم العلماء الآخرين. إن أية محاولة من هذه الدولة لاختراق سقف الغيبة والتخفف من ثقل الأمانة التي تركتها، وهي أمانة شديدة الوقع على أية دولة، من شأنه أن يضع هذه الدولة في مواجهة مباشرة مع الإمام الغائب لأنها تحكم باسمه ولكن بدون تفويض مباشر منه.
كان هذا موقف كبار مراجع الشيعة من دولة ولاية الفقيه منذ بدايتها من أمثال شريعتمداري والخوئي وغيرهما في إيران والعراق ولبنان. يمكن القول إن نقطة الخلاف الأساسية بين هؤلاء المراجع والسيد الخميني لم تكن الإنكار عليه حقه في إقامة الجمهورية الإسلامية بقدر ما كانت معارضته في خرقه إرث الغيبة من خلال إسباغه على الجمهورية الإسلامية شرعية الدولة الإسلامية المكتملة النصاب تماما كدولة الرسول (ص) ودولة الإمام علي(ع).
لا ينبغي علينا هنا الوقوف عند هذه المعارضة كشكل من أشكال المنافسة التقليدية بين العلماء حتى ولو صح ذلك، وهو أمر وارد. ولا يتعلق الأمر هنا بشخصية متسلطة وغير ديموقراطية تميل إلى التحكم والاستئثار بالسلطة من جهة، وبشخصيات معتدلة وأكثر ديموقراطية من جهة أخرى. فلم يكن معروفا عن السيد الخميني تسلطه وشهوته إلى التحكم بالآخرين من حوله، بدءا بعائلته وطلابه وانتهاءً بالعلماء والناس.
إن مبدأ ولاية الفقيه لم يتأصل في شخصانية نفسية وفكرية مسكونة بحب التسلط والتعصب الجامد الأعمى. بل هو على العكس من ذلك تماما تأصل في شخصية تاريخية عميقة التقوى شديدة الغيرة على انعتاق المسلمين من ربقة الاستتباع لتحكم الغرب وتسلطهم على مصيرهم ليس في إيران فقط، بل في العالم الإسلامي قاطبة.
إن العدائية العمياء للقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، للجمهورية الإسلامية وللسيد الخميني خاصة، إنما هي عدائية متأصلة في القصور الذاتي الغربي للاعتراف بأي لغة سياسية جديدة مصطلحاتها غير مستمدة من القاموس الأيديولوجي الغربي ذاته. لقد أطلق السيد الخميني لغة إسلامية ثورية جديدة ساهمت في إطلاق وتحريك قوى جماعية مهمشة تاريخيا، انطلقت من عقالها لتصنع حدثا تاريخيا فريدا في التاريخ الإسلامي الحديث. هذه هي &laqascii117o;خطيئة الخميني الأصلية" من المنظور الغربي المهيمن.
إن إطلاق هذه الذاتية الإسلامية الجديدة كخطاب عالمي غير آت من &laqascii117o;عالمية" الغرب هو ما أرعب الغرب المهيمن، كما يلحظ بوبي السيد(5).
الذي يزعج الغرب في هذا الخطاب ليس &laqascii117o;ظلاميته القروسطية" وعدم ديموقراطيته، بل إسلاميته كخطاب مغاير. والذي يزعج الغرب ليس فقدان الديموقراطية في الجمهورية الإسلامية، بل إسلامية هذه الديموقراطية. فالديموقراطية بمفهومها الشكلي الغربي لا تشكل تحديا حقيقيا لمؤسسة ولاية الفقيه، فهي قادرة، كما أثبتت تجربة الرئيس خاتمي والحركة الإصلاحية البرلمانية، على التعايش مع هذه الديموقراطية وتطويعها بشكل أو بآخر.
إن ما لا تستطيع مؤسسة ولاية الفقيه التعايش معه هو تجذر الديموقراطية الإسلامية الثورية في الموروث الجماعي الشيعي ذاته. هذا الموروث الجماعي الذي لا يطمئن إلى اختزال الإسلام إلى مجرد أيديولوجيا للدولة، فكيف بك إذا كانت هذه الدولة تدعي لنفسها صفة القداسة وتمثيل الإمام؟ لذلك فإن أي تحد حقيقي لشرعية مؤسسة ولاية الفقيه لن يكون على أساس مرجعية الديموقراطية بمفهومها الشكلي الغربي وحده، بل لا بد من التحام هذه الديموقراطية مع المرجعية الفقهية التقليدية الشيعية ذاتها كمرجعية متلاحمة مع الجماعة ممانعة للتماهي مع الدولة أمانة منها على غيبة الإمام التي تلزم هذا الالتحام بالجماعة في وجه الدولة. واليوم وبعد مرور ثلاثة عقود على التجربة السياسية الدستورية للجمهورية الإسلامية في ايران، التي تبقى بلا شك التجربة التاريخية الرائدة الأولى في العصر الحديث كحكومة إسلامية قائمة على المشاركة الشعبية الجماعية في الحياة السياسية الإيرانية برغم الوصاية والتقنين من أعلى، يمكن القول إن شرعية ولاية الفقيه ما زالت تبدو شرعية ملتبسة موزعة بين أمانتها لإرثها الجماعي الثوري كما مارسته في بدايات الثورة من خلال قيادة الجماعة في صنع الحدث الثوري الجماعي ضد الدولة، وهو موقف لا يتناقض مع منطق الغيبة كما أسلفنا، هذا من جهة، وبين تماهيها الكامل مع الدولة كمؤسسة متعالية على الجماعة ووصية عليها، من جهة أخرى. وهكذا فإن تغليب منطق الدولة على منطق الجماعة يضع ولاية الفقيه في مواجهة مباشرة مع الإمام الغائب ومع الجماعة. لأن الأمانة على الغيبة وضعت العلماء دائما في موقع التماهي مع الجماعة في وجه الدولة أمانة منهم على نهج الأئمة، هذا النهج الذي كرسته الغيبة تكريساً دائماً لا لبس فيه. بكلام آخر هناك استحالة شرعية لأي مشروع تاريخي إسلامي شيعي قائم على التماهي الكامل بين الجماعة والدولة في زمن الغيبة. إن التباس شرعية ولاية الفقيه اليوم يتمثل في محاولة تجسيدها الجمع بين الجماعة والدولة في جسم واحد وهو أمر يستحيل استمراره تاريخيا وشرعيا. لقد كان تعطيل مفعول غيبة الإمام في التاريخ أحد المرتكزات الأساسية لتثبيت شرعية ولاية الفقيه. ويبدو الآن أن هذا التعطيل بالذات هو الذي سوف يؤدي في النهاية إلى تعطيل شرعية هذه الولاية.
إن ما يمكن تسميته بالأصولية الشيعية الجديدة (وهي غير الأصولية الإسلامية السلفية بالمعنى الشائع اليوم) المعبر عنها بولاية الفقيه المطلقة، باختراقها سقف الغيبة، أو ما يمكن تسميته باللحظة الإخبارية الكامنة في المدرسة الأصولية التقليدية، ساهمت من حيث تقصد أو لا تقصد في إعادة تظهير معنى الغيبة في سياق تاريخي معاصر وملموس كحدٍ شرعي ضروري مقيد للسلطة الدينية السياسية المطلقة على المجتمع وبالتالي كضمانة تيولوجية جذرية ضد الاستحضار الكلي للمقدس في التاريخ متمثلا بالدولة &laqascii117o;الإلهية" المتعالية على المجتمع السياسي والمتماهية مع ذاتها. وما ينطوي عليه هذا التماهي من خطر إلغاء دور الجماعة كمجتمع سياسي متحرك يشكل ضمانة شرعية ـ تاريخية حيوية للجمهورية الإسلامية وتحويله إلى حقل سياسي محاصر وملحق بدولة غاصبة لحق الإمام وحق الجماعة معاً.
[ محاضر الدراسات العربية في جامعة ميشيغان ـ ديربورن ـ الولايات المتحدة الأميركية}