- 'السفير'
25 أيار: لحظة مفصلية
ميشيل كيلو:
ثمة رأي يقول إن انسحاب العدو من معظم أراضي لبنان المحتلة دون قيد أو شرط يوم الخامس والعشرين من أيار لعام 2000 كان لحظة مفصلية في تاريخ الصراع العربي/ الإسرائيلي، وقطيعة مع كل ما سبق لهذا الصراع أو شهده من هزائم ونكبات. يؤيد أصحاب هذا الرأي أقوالهم بالحديث عن صمود حزب الله في تموز من عام 2006 طيلة ثلاثة وثلاثين يوما في وجه آلة حرب إسرائيلية، كانت تتحين فرص الانقضاض على لبنان والحزب، لجعلهما يواجهان مصير عدد من البلدان والجيوش العربية، التي عجزت عن مواجهة الصهاينة وتعرضت لهزائم على أيديهم. لكن حساب البيدر الصهيوني لم يتطابق مع حساب حقل حزب الله، الذي صمد ورد الصاع صاعين، طيلة فترة الحرب، دون أن تتراجع قدراته أو يتكبد خسائر تتناسب وحجم النيران التي انصبت على مواقعه ومقاتليه، ودون أن يتمكن العدو من تحقيق أهدافه في ميادين القتال، أو من تقديم جيشه في الصورة الدعائية التقليدية، التي كرستها حروبه السابقة كجيش منتصر لا يقوى أحد على الصمود أمامه، يبدأ الحرب متى شاء ويوقفها عندما يقرر، بينما يفر العرب ويهزمون. في حرب تموز عام 2006، تبدلت الصورة، فرأى العالم دبابات إسرائيلية، قيل إنها غير قابلة للتدمير، تحترق أو تفر من أرض المعركة، وشاهد جنودا يبكون أو يهيمون في البراري والذهول باد على وجوههم، وراقب أفواجا عسكرية كاملة في حالة فوضى ظاهرة، وهي تعاني الانكسار والخوف، بينما اعترف عدد كبير من صحافيي إسرائيل بحجم المرارة التي غمرت الجنود والضباط المهزومين، وقال جنرالات كبار إن جيشهم لم يكن مستعدا للحرب أو مؤهلا لخوضها، وإنه كان مترهلا كفريق من الكشافة. كما تبادل هؤلاء ورئيس وزرائهم التهم وغاصوا في مهاترات على مرأى ومسمع من العالم حول المسؤولية عما حدث. ماذا استنتج العدو من الحرب؟. قال جنرالاته إن جيشهم ارتكب غلطتين فادحتين جعلتا صمود حزب الله ممكنا:
ـ سمحوا بأن يتسلح الحزب ويتدرب دون إزعاج، وبالقدر الذي خطط له وتطلبته استراتيجية حرب العصابات.
ـ قصروا في إعداد جيشهم للحرب، وتدريبه على منازلة قوة مقتدرة وذات شكيمة، مصممة على محاربة إسرائيل دون خوف أو تردد، يتشوق مقاتلوها للموت في سبيل قضيتهم، فلا ينفع معهم بعض القصف المدفعي والجوي، ولا يفرون عندما يرون دبابة أو عربة مدرعة، وإنما يتشبثون بالأرض، ويدافعون ويهاجمون، ويختفون ويظهرون، ويقدمون أرواحهم، عند الضرورة، دفاعا عن وطنهم. قال الجنرالات: إنهم لن يسمحوا بعد الحرب بأن يعيد الحزب تسليح نفسه، وسيضربون أولا بأول ما قد يصله من إمدادات، أو يقيمه من منشآت عسكرية. وقالوا: إنهم سيعلمون جنودهم القتل بقسوة، وسيجعلونهم مؤهلين لشرب دم أعدائهم ـ من خطاب لأشكنازي رئيس أركان جيش العدو ـ وهو ما حدث فعلا خلال العدوان على غزة، التي اعتبرت أول تطبيق لعقيدة رئيس الأركان الصهيوني بعد فشل تموز. لم يطبق العدو البند الأول من خطته، لسبب جلي: إنه لم يتجرأ على مهاجمة مواقع الحزب، الذي خرج من الحرب بروح معنوية عالية ووضع ميداني جيد، بينما كان هو يلملم وضعه العسكري والداخلي، ويخشى أن تثير هجماته ردود فعل مدمرة وقوية إلى درجة لا تتفق مع حاجته إلى التهدئة، في فترة إعادة بناء جيشه، الذي سيتعرض لتصدع معنوي قد لا يقوى على تحمل نتائجه. هكذا، وجد العدو نفسه عاجزا عن فعل شيء ضد الحزب، الذي كان يزيد مخزونه من السلاح، باعتراف جنرالات العدو، الذين أقروا أن حزب الله يمتلك من الأسلحة ما يتفوق في الكم والنوع على ما كان لديه خلال حرب تموز من عام 2006، وما يتفوق أيضا على ما لدى بعض دول المنطقة. خلال فترة الهدوء، القائمة منذ حوالى أربع سنوات، حاول العدو تحصين داخله عبر ابتكار منظومات صاروخية أرادها قادرة على حماية مدنه وقراه ومرافقه العسكرية الهامة، وخاصة منها مطاراته ومفاعله الذري في ديمونا. بينما زاد المكونات التكنولوجية المتطورة في أسلحته، وخاصة منها دباباته وعرباته المدرعة، وأعاد تنظيم وحداته المقاتلة، وزاد عدد الملاجئ والمخابئ المخصصة للسكان في مختلف أرجاء فلسطين المحتلة، لاعتقاده أن الجولة القادمة من الحرب ستكون أشد هولا على جيشه ومستوطنيه من أي جولة عرفها الكيان الصهيوني منذ قيامه، وأن معنويات سكانه ستنهار حتما، إذا تكرر فشل جيشه في ظروف منطقة عربية ذاهبة نحو مزيد الفرز السياسي الرسمي، وظروف عالمية غير ملائمة إلى حد بعيد. طبق العدو خلال تدريباته البند الثاني: تحويل جيشه إلى قوة من القتلة، سيكون المدنيون من عرب لبنان وفلسطين هدفها المباشر والرئيس في أي صدام عسكري. لن يوفر جيش أشكنازي بشرا أو حجرا في الحرب القادمة، وسيدمر كل ما ستقع عيناه عليه، إن استطاع تدميره، في إطار خطة غير معلنة لجعل الحرب شاملة بحسب الصيغة الهتلرية، التي طبقتها ألمانيا النازية في شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، وانطلقت من رؤية تقول: يجب أن تنتهي الحرب إلى بقائنا وفنائهم. السؤال الآن: هل قطعت خطة التحصين شوطا يكفي لإطلاق الحرب من عقالها، تأخذ شكل عمليات يختبر العدو خلالها قوته، على أن يصعّدها تدريجا إلى حرب شاملة، إذا ما وجد علامات ميدانية تشجع على ذلك؟. أم أنه سيندفع، بمجرد إكمال شبكات الصواريخ والاستعدادات العسكرية، إلى خوض حرب يتوعد بجعلها حرب إبادة وتدمير شاملين بكل معنى الكلمة؟. أظن أننا سنشهد من الآن إلى نهاية هذا العام تطبيق واحد من هذين الاحتمالين، وأعتقد أن الوقت الذي يفصلنا عن الحرب سيكون مشحونا بتوترات شديدة تقبل التحول إلى تفجر مباغت، ليس فقط لأن المنطقة العربية وجوارها في حالة قلق يمزق الأعصاب، بل كذلك لأن العدو يرى في الحرب فرصة أخيرة لقصم ظهر المقاومة، ولفرض أمر واقع نهائي على العرب وإيران، يعطيه حصة كبيرة جدا في أي نظام إقليمي جديد، كائنا ما كانت دوله وقواه. هل هذه الاحتمالات هي كل الخيارات الممكنة ؟. كلا. إذا حدثت مفاجأة ما في الموقف الإيراني، أو وقع تطور في علاقات أميركا مع طهران، يقر بدور الثانية في الإقليم، لكن بالتوافق والتفاهم مع واشنطن، أو إذا تورطت إيران في حرب أهلية عراقية، أو حدثت تطورات سلمية جدية بين دول المنطقة، فإن بديل الحرب سيكون ترك قوة حزب الله تتآكل، خاصة إن نجح أعداؤه بتوريطه في مشاكل لبنانية داخلية تحوله من قوة مقاومة تحظى بتأييد وطني يكاد يكون عاما، إلى فريق في صراع داخلي، طائفي ومدمر. يبقى على كل حال موقف الحزب، الذي يستطيع المبادرة إلى فتح النار على إسرائيل وتحديد نمط المواجهة العسكرية التي يريدها، قبل أن يفرض العدو الحرب التي تناسبه على لبنان وعليه. إلى هذا، يستطيع الحزب رفع وتيرة تحصين وضعه الداخلي، بإقامة إطار لبناني وطني متوافق عليه وجامع، مناهض للطائفية وقادر على تعطيل أو تقليص فاعليتها. إن جميع الخيارات مطروحة على الأطراف جميعها، لسبب يتصل بنتائج انسحاب العدو يوم 25 أيار عام 2000 بدون قيد أو شرط، وبدون أن يفاوضه أحد، من أراض لبنانية، وبما ترتب على ذلك من نتائج بعيدة المدى، نقلت الصراع من أيدي جهات رسمية عربية إلى يد جهة شعبية، غير رسمية، هي حزب الله، الذي يجمع في ذاته الحزب السياسي وحركة المقاومة، وأثبتت فاعليته في ظروف تراجع عربي شامل، ما أضفى معاني جديدة على الصراع ضد العدو بدلت بعض وجوهه، وتركت آثارا إيجابية على قطاعات واسعة من العرب العاديين، أشعرتهم بأنهم لم يعودوا مكشوفين للعدو ومهزومين، وأن إخراجهم من السياسة على ايدي نظمهم ليس نهاية المطاف والكلمة الأخيرة، ما دامت هناك مقاومة تدافع عنهم وعن أوطانهم، وما داموا قادرين على الانخراط فيها، أو محاكاتها والنسج على منوالها!. دخلت المنطقة العربية، مع 25 أيار عام 2000، وكذلك القوى الدولية والإقليمية، في مدارات سياسية وعسكرية مختلفة، هي التي ستحدد مستقبلها ومصيرها. تقول تجربة الصراعات التاريخية الحديثة: إن من ينتصر في الصراع هو عادة الطرف الذي يقترف قدرا من الأخطاء أقل من القدر الذي يقترفه عدوه أو خصمه. في حالتنا الراهنة، وإلى أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود: تراهن أميركا وإسرائيل على دفع خصومهما إلى اقتراف أخطاء قاتلة. هل سينجح مسعاهما؟. هذا هو السؤال، الذي سيقرر شكل الرد عليه ما إذا كنا ذاهبين إلى النصر أم إلى الهزيمة!.
- 'السفير'
سياسة واشنطن العربية: حروب ما بعد الحرب الباردة
روبرت مالي ـ بيتر هارلينغ، ترجمة زهراء مرتضى عن صحيفة 'لوموند':
يميل الغرب الى النظر للشرق الأوسط كمنطقة معلّقة في الزمن، عالقة بين أنظمةٍ مستبدّة بدائيّة وحركاتٍ إسلاميّة رجعيّة، وغارقة في صراعٍ دوري وعريق القدم. ولكنّ هذه النظرة انعكاسٌ لصرامة المفاهيم الغربيّة في ما يخصّ منطقةً تتغيّر أسرع بكثير ممّا قد نظنّه. أضحت النظرة الغربيّة السائدة اليوم، التي تقسّم المنطقة الى محورين، محور المعتدلين الذي يجب مؤازرته ومحور الممانعين الذي يجب ردعه، متناقضة ومنافية للواقع. هذه النظرة هي امتدادٌ لإدارة بوش التي قسّمت العالم الى محور للخير ومحور للشر، والتي يتّفق العالم على انتقادها. وهي تفترض وجود مشروعٍ غربي مقنع، قادرٍ على جمع المعتدلين وإعطائهم الحجج الكافيّة، في حين انّ مصداقيّة الولايات المتّحدة وأوروبا في أتعس حالاتها. وهي في النهاية تعتبر هذا الانقسام الذي ليس سوى نتاج التغيّرات العميقة التي طرأت على المنطقة منذ أواخر التسعينيات والتي لم تكن ثابتة بحدّ ذاتها، كحقيقةٍ طبيعيّة ودائمة. استهلّت فترة التسعينيات بذروة النفوذ الأميركي، حين كان بوش الأب يتقن إدارة الاداة العسكريّة والديبلوماسيّة في آن. خليفته بيل كلينتون اعتمد سياسةً جديدة قائمة على ركيزتين: احتواء وضبط العراق وإيران، وضبط الصراع الإسرائيلي العربي عبر عمليّة السلام. يضاف الى ذلك تعاطيه المحايد مع المسألة اللّبنانيّة التي دخلت حينها تحت الوصاية السوريّة. بذلك استطاعت واشنطن أن تهدّئ المحاور الثلاثة حيث كانت ترتكز خلافات المنطقة، وهي العلاقة العربيّة الفارسيّة، والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة ولبنان كدولة كانت ما تزال في طور التكوّن. سمح هذا التوازن أيضاً بتشكيل ثلاثيٍّ مصري سوري سعودي، كان تقاربه النسبي حينها يضمن علاقاتٍ عربيّة مشتركة أقلّ تصادماً من العادة. ولكن خلال عمليّة السلام التي كانت تحمل بعض الآمال، برغم كونها محبطة، راح التحالف الوطيد بين الولايات المتحدة وإسرائيل يأخذ بعداً غير مقبولٍ في عيون المنطقة. إنّ السياسة التي اعتمدها جورج بوش الإبن، لا سيّما ردود فعله على اعتداءات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، غيّرت بشكلٍ جذري المعادلة. سقوط الطالبان ومن ثمّ صدّام حسين حرر إيران من العقبات التي كانت أمامها وافتتح علبة &laqascii117o;باندور" في العراق. ساهمت إعادة تعريف عمليّة السلام التي ترافقت مع تغيّر في القيادة الفلسطينيّة ومع مكافحة &laqascii117o;إرهابٍ" متعدّد الأوجه، في تقسيم المنطقة بشكل عام الى محورين، والواقع الفلسطيني بشكلٍ خاص. في الوقت ذاته، انتهت الحالة القائمة في لبنان، التي لم تكن مبرّرة أصلاً، فاتحةً المجال أمام محاولةٍ لإعادة ضمّ هذا البلد الخاضع للوصاية السوريّة الى المحور الغربي، وذلك عبر عزل سوريا ونزع سلاح حزب الله. هل استطاعت هذه الضربة أن تولّد نتائج مثمرة؟ لا يزال السؤال قائماً. ولكنّها وفّرت على الأقل فرصة للمجتمع العراقي وللسلطة اللّبنانيّة، حتى ولو بصعوبةٍ فائقة، للخروج من مأزقٍ طال احتماله. ولكنّ التحدّيات الناتجة عن هذا الانقلاب الاستراتيجي متعدّدة وطويلة الأمد. أوّلاً، ما تركته لنا إدارة بوش، هو إيقاظها لمحاور الخلافات الثلاثة التي سبق ذكرها، مولّدةً تغيّراتٍ بنيويّة عبر دعوتها لإعادة ترسيم علاقات القوّة بين دول المنطقة ولا سيّما إسرائيل، إيران، المملكة العربيّة السعودية، سوريا، مصر وتركيا، وفي داخل الدول ذاتها لا سيّما في لبنان، فلسطين والعراق. ترافق الازدياد في نقاط التوتّر مع تراجع لمصداقيّة ونفوذ الولايات المتّحدة وذلك من جهتين. أولهما قدرتها العسكريّة التي أظهرت محدوديّتها، عبر خيباتها المتعدّدة في العراق بشكلٍ مباشر، وفشلها في لبنان وغزّة بشكلٍ غير مباشر. وثانيهما سياستها التي أخذت بشكلٍ متواصل وجهاً قيمياً، معتمدةً خطاباً أخلاقياً توجيهياً، في الوقت ذاته، حيث كانت صورة الدولة في أتعس حالاتها: إمبرياليّة في العراق، موقف دوني تجاه الحركات الإسلاميّة، رفض نتائج الانتخابات الفلسطينيّة، التغاضي عن الأعمال الإسرائيلية المشينة، انتهاك حقوق الإنسان. يصعب في الحقيقة تصوّر إدارة أكثر إثارة للنفور في نظر الرأي العام العربي، الذي كانت تعتزم كسبه. لجوء الولايات المتّحدة الى تقسيم العالم إلى محورين: الخير والشر، وإصرارها على دفع مختلف أطراف المنطقة الى اختيار المعسكر الذي تريد الانتماء إليه، كان كفيلاً بأن يدخل حلفاءها في علاقةٍ استثنائيّة ولكن غير مريحة، معزّزاً في الوقت ذاته المحور الآخر. إنّ ظلم الولايات المتّحدة في نظر شعوب المنطقة أعطى دفعاً لقوى المقاومة، لا سيّما إيران، سوريا، حزب الله وحماس. منطق المواجهة راح يشدّ أواصر العلاقات التي تجمع بين هذه الأطراف، والتي ليست ثابتة دوماً. في النهاية، قامت سياسة واشنطن بإزالة الحواجز التي كانت تقف عائقاً امام تزايد قوّة أعدائها، في محاور الخلافات الثلاثة. بذلك ساهمت الولايات المتّحدة بتصاعد قوّة إيران في العراق، وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين. باختصار، اعتمدت الولايات المتّحدة على نموذجٍ فكري ورثته عن الحرب الباردة حيث كانت الدبلوماسيّة تترسّخ في علاقاتٍ ثنائيّة ثابتة نسبياً، وحيث كان بإمكانها الاعتماد على حلفائها لتحقّق مصالح محدّدة بوضوح. الحرب الشاملة على الإرهاب لم تكن في الحقيقة سوى محاولة سيّئة لإعادة نظامٍ ثنائي، أو أيديولوجيا، تستطيع عبرها جمع التنوّع الموجود ضمن أعدائها والتناقضات المتأصّلة في معسكرها ذاته. وهي كانت منذورة مسبقاً للفشل، لأنها لم تكن سوى البقايا المشوّهة لعصرٍ مضى. إن هذا التقسيم الثنائي للعالم قد قضى على نفسه بنفسه، مساهماً بالإضافة الى ذلك، في تدهور القوّة الأميركيّة، وفي ارتباك معسكر المعتدلين، وفي ازدياد الصراعات بشكلٍ كبير. ولكن مع ذلك، ما زال نموذح المعتدلين في مقابل الممانعين يلهم بشكلٍ خاص السياسات المعتمدة من قبل الغرب. بالرغم من أنّ هذا الصراع بين الأطراف الذين يشاركون الغرب قيمه واهتماماته، وبين اولئك الذين يحاربونها بالمبدأ لا يعبّر بشكلٍ دقيقٍ عن الواقع. حيث أنّ أكثر الدول علمنة في المنطقة، وهي سوريا، هي أيضاً أكثر الدول تعلّقاً بالخيارات الممانعة، بدعمها لحركتي حماس وحزب الله الإسلاميّة. في حين أنّ حزب الله، الذي يمثّل التطرف الشيعي، استطاع أن يتأقلم مع نظامٍ سياسي لبناني يناقض مبادئه الأساسيّة. تجد بسهولة شخصاً عربياً تقدّمياً وعلمانياً يعلن عداءه للولايات المتّحدة والغرب، كما قد تجد شخصاً مقرّباً من محور الغرب ولا يتوانى عن العبث مع بعض الأوساط الجهاديّة. طهران، التي تقود المحور المعادي للولايات المتّحدة تعتمد بشكلٍ كبير النموذج التقسيمي الذي تحبّذه الولايات المتّحدة، في حين أن حليفتها تركيا، تبتعد عنه وتحاول إرباك الصورة. من هنا، لن نستغرب أبداً الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في إدارة بعض الحالات المعقّدة معتمدةً على نموذجها التقسيمي البسيط والصارم. كيف ستجمع في معسكرٍ واحد إسرائيل والحزب العلماني فتح والمملكة العربيّة السعوديّة السلفيّة والقوات اللّبنانية المسيحيّة ورئيس الوزراء العراقي السابق الشيعي نور المالكي، في حين لا تجمعها لا قيمٌ ولا مصالح مشتركة. كلّ ما قد يربطها هو تحالفٌ ما مع الولايات المتّحدة لأسبابٍ متعدّدة، تتلاقى في بعض الأحيان وتتعارض في معظمها. لا يقلّ المعسكر المعادي تنوّعاً، حيث انّ الجمهوريّة الإيرانيّة والنظام السوري وحركة حماس وحزب الله يحوون من الاختلافات ما يوازي نقاط التقائهم، وذلك على صعيد البنى الأيديولوجيّة والمصالح والتركيبة الدينيّة. لذا فعلاقتهم ببعضهم البعض مبهمة بطبيعة الحال وتتطوّر وفقاً لتأقلمهم مع ديناميكيّة المنطقة، لذا نجد انّ إيران وسوريا اليوم في ضفّتين متواجهتين في ما يخصّ موازين القوى التي تحوم حول مستقبل العراق. كلّ طرفّ بحدّ ذاته ليس من طينةٍ واحدةٍ أيضاً، حتى ولو كانت الولايات المتّحدة وأوروبا تجهلان كيفيّة التعامل مع هذه الاختلافات. إنّ التطور التاريخي لحماس مثلاً يجعل منها في آن حركة دعوةٍ دينيّة، وشبكة خيريّة، وتنظيماً مسلّحاً مقاوماً، وحزباً سياسياً محباً للسلطة. لم تحل أيٌ من هذه الهويّات التي اكتسبتها حماس تدريجياً مكان أخرى، ولكنّنا نجدها بدرجاتٍ متفاوتة في تركيبة كلّ عنصرٍ من الحركة. هي أيضا تنظيمٌ له تواجدٌ جغرافي كبير، وعلى عاتقه توقّعاتٌ شعبيّة واسعة وتأثيرات خارجيّة وأهداف استراتيجيّة مختلفة كلياً حسب المنطقة التي يتواجد فيها أكان في غزة أو في الضفة الغربية أو في سوريا أو في المخيمات الفلسطينية في لبنان. أهمّ نقطةٍ يلتقي حولها محور ما يسمّى الممانعين هي ضرورة التصدي لما يعتبرونه مشروعاً اسرائيلياً أميركياً يهدف للهيمنة على المنطقة. إنّ المنطق الغربي الذي لا يتيح لهم غير خيارين، إمّا الإنتقال الى ضفته أو البقاء في خانة الصراع، يخلق محيطاً يجعل من السهل المحافظة على العلاقة التي تربط هذه الأطراف، رغم مصالحها المعقّدة والمتباينة. بالمقابل، في حين أنّ تناقضاتٍ أكثر حدّة مع الوقت تظهر في معسكر المعتدلين، الذين تحيّرهم خيبات عمليّة السلام، وتراجع قدرات القيادة الأميركيّة، وتجعلهم أكثر ميلاً للانطواء على أنفسهم. إنّ هذه المقاربة التي تعتمدها الولايات المتّحدة تقلّل من قدرتهم على الاعتراف بفرصٍ تنتج عن تقارباتٍ عرضيّة مع أطرافٍ تقع في المحور الآخر. إيران والمملكة العربيّة السعوديّة، العدوّان اللّدودان، يعكسان اليوم التصوّر التقسيمي الطائفي ذاته للعراق، في حين أنّ مصالح الولايات المتّحدة تتوافق أكثر، في الوقت الحالي، من رؤية سوريا وتركيا للوضع. لا تتوانى الولايات المتحدة مع ذلك عن تحديد مواقفها وفقاً لقائمة تبدو ثابتة، إدانة طهران وسوريا واستحسان الرياض وأنقرة. من جهةٍ أخرى، هل تستطيع الولايات المتّحدة الاعتماد بشكلٍ استثنائي على القاهرة وعمّان وحتى الرياض لتسويق سياسة السلام خاصّتها، في ظلّ تعدّد الأقطاب العربيّة، وفقدان حلفائها المحليّين لمصداقيّتهم، وفي ظلّ الدويّ الكبير الذي ينجح في إحداثه كلٌّ من حماس، حزب الله، سوريا، إيران، من دون أن ننسى قناة الجزيرة؟ أخذ هذا الواقع الجديد في المنطقة بعين الاعتبار يعني مقاطعة الغرب للتصلّب الحاليّ التي يعتمده، واستبداله بسياسةٍ جديدة توافق بين التحالفات التقليديّة والشراكات الجديدة، التي تأتي وفقاً للرهانات المبهمة التي تتشكّل و تتفكّك في المنطقة. بذلك، قد تجد الولايات المتحدة خلاصها في العراق عبر اتفاقٍ إقليمي يشمل إيران، عوضاً عن مواجهة قد تستفيد منها الأخيرة ويزداد نفوذها، في الوقت الذي يتراجع فيه الوجود الأميركي. كما أنّ رغبةً مشتركة في تفادي مخاطر صراعٍ جديد بين اسرائيل وحزب الله قد يدفع الولايات المتّحدة وسوريا الى العمل كفريق. أمّا في ما يتعلّق بالملف النووي، ألا يجب التفكير بطريقة مختلفة في يخصّ الوضع الإسرائيلي من أجل الحظو بشرعيّة أكبر في العالم العربي الإسلامي؟ وفي ما يخصّ عمليّة السلام، تستطيع إدارة أوباما أن تعتمد أيضاً مقاربة أكثر مرونة تحسّن العلاقة مع سوريا وتعيد المفاوضات الإسرائيليّة السوريّة الى الساحة، وتفكّ الحصار الذي يخنق غزّة، وتباشر الحوار مع الجالية الفلسطينيّة وتظهر ليونةً أكبر في ما يخصّ المصالحة الداخليّة الفلسطينيّة. من جهة الأوروبيّين، الذين لا يزالون ينتظرون تغيّراً أعمق في واشنطن، فقد حان الوقت ليفتتحوا الطريق ويستثمروا قدراتهم الخاصة في جزءٍ من الكرة الأرضيّة هم أقرب منها بكثير ويحظون بالكثير من مواردها ومن مهجّريها. ما يصعب على أوروبا استيعابه، لكونها تتماهى في دورها كمعاونٍ لاذع للولايات المتّحدة، هو أنّ تبعيّتها لهذه الأخيرة تضرّ بمصداقيّتها في الشرق الأوسط، بالدرجة ذاتها التي تطال فيها أخطاء واشنطن الولايات المتّحدة بأكملها. بالتأكيد، لن يكون تغيير الإستراتجيّة في المنطقة من دون مخاطر، حيث قد يتمرّد الحلفاء الدائمون على الوضع من دون أن يكون بإمكان الولايات المتّحدة الاعتماد كلياً على الحلفاء الآنيّين. ولكن هل يستفيد الغرب فعلاً من نموذجٍ فكريٍ بالٍ، لا يتوافق إطلاقاً مع وجهة نظر الأشخاص الذي يفترض به أن يصفهم، أن يفهمهم، وبالأخص أن يؤثّر بهم.
- 'النهار'
كيف يفكر الحرس الثوري في المواجهة؟
حسن فحص(مراسل سابق لـ'الحياة' في طهران ومراسل حالي لقناة 'العربية'):
اثار الكشف عن الاستراتيجية النووية الاميركية الجديدة العديد من ردود الفعل داخل مراكز القرار الايراني، وبالتحديد داخل المؤسسة العسكرية والقيادة المركزية لقوات حرس الثورة الاسلامية التي تعتبر نفسها رأس الحربة في اية حرب مقبلة ضد ايران، خصوصا بعد المواقف التي اطلقها الرئيس الاميركي باراك اوباما في المقابلة التي اجراها مع صحيفة 'نيويورك تايمز' وهدد فيها ايران وكوريا الشمالية بشكل غير مباشر بهجوم نووي عندما قال: 'لدينا نية في طمأنة الاخرين بأننا قادرون على التحرك من دون اللجوء للسلاح النووي، وقدرة الاسلحة التقليدية على الردع مؤثرة، باستثناء بعض الاوضاع المعقدة كثيرا'، واضاف مباشرة: 'ان ايران وكوريا الشمالية لن تدخلا في اطار الاستراتيجية الجديدة'، أي التقليل من امكان استخدام الاسلحة النووية ضدهما.وقد توقفت القيادة العسكرية للحرس الثوري امام تصريحات وزير الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع روبرت غيتس الداعمة لمواقف اوباما. هذا اضافة الى الشرح والرؤية التي قدمها غيتس امام البنتاغون وتحدث فيها عن العقيدة النووية الجديدة لاوباما وميثاق 'اعادة النظر في الحالة النووية NPR'، عندما قال بصراحة ان اميركا ستستخدم كل الخيارات في التعاطي مع إيران. واضاف ان ادارة اوباما تلتزم بعدم استخدام السلاح النووي ضد الدول التي لا تمتلك رؤوسا نووية باستثناء إيران. وبناء على عقيدة اوباما النووية وخطاب غيتس، تعتقد الاوساط السياسية والعسكرية في طهران ان العقيدة النووية الجديدة لاميركا على علاقة بالتهديدات التي تطلقها اسرائيل ضد إيران، وأن ميثاق 'اعادة النظر في الحالة النووية' قد كتب بتأثير من النظرة الامنية لاسرائيل. ويعتقد الايرانيون ان الاعلان عن الاستراتيجية النووية الاميركية الجديدة يكشف عن امكان ان تلجأ تل ابيب للبدء بهجوم ضد المنشآت النووية الإيرانية في حال رفضت الاخيرة وقف انشطة تخصيب الأورانيوم. وان الادارة الاميركية من خلال هذه المواقف تسعى لفرض معادلة رادعة لمواجهة أي رد فعل ايراني ضد اسرائيل او القوات الاميركية في حال وقع هذا الهجوم. وتعليقا على ذلك تؤكد القيادة العسكرية الإيرانية بأن الردع الذي تبحثه اسرائيل واميركا، لا يمكنه ان يطلق العنان لإسرائيل بالهجوم على إيران ولا يمكن ان يمنع إيران من الرد على الاسرائيليين. وتطرح القيادة الايرانية سؤالا مفاده: هل كان لاسرائيل دور في استثناء إيران من الحصانة التي تضمنتها الاستراتيجية النووية الجديدة لاميركا؟ وفي الرد على هذا السؤال تتوقف هذه القيادة الايرانية امام نقطتين:
1 – وجود امكان كبيرة بأن تكون اسرائيل قد لعبت دورا في صوغ هذه الاستراتيجية. فعلى الرغم من الجهود التي تبذلها تل ابيب لدفع مجموعة دول 5+1 لفرض المزيد من العقوبات المتشددة ضد إيران، الا ان الاسرائيليين يشككون بفاعلية وقدرة هذه العقوبات وامكان تأثيرها على الموقف النووي لإيران، اضافة الى عدم رغبتهم في حصر التصدي للانشطة الايرانية فقط في المجالين الاقتصادي والسياسي. وترى هذه القيادة انه على الرغم من ان اسرائيل تلقت في السنوات الثلاث الاخيرة هزيمتين قاسيتين وغير مسبوقيتن من حزب الله في لبنان وحماس، وان موقعها العسكري تعرض لخطر حقيقي، لكن وبسبب الطبيعة العدائية لاسرائيل والجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني واحتلال اراضيه، فانها تؤمن دائما بالعقيدة العسكرية وتعتقد بأنها قادرة على تحقيق ما تريد عبر اللجوء إلى العمل العسكري.انطلاقا من هذا فإن اسرائيل تسعى دائما للابقاء على هذا الخيار مفتوحا، وبما انها غير قادرة على تنفيذه بمفردها، فانها تحاول فرض التزامات على الادارة الاميركية في اطار هذا الهدف.
2 – في حال لم يكن لاسرائيل دور مباشر في صوغ هذه الاستراتيجية، فإن ما جاء فيها يلبي مطالبها وارادتها، وقد ابدت رضى تاما عن كيفية صوغ هذه الاستراتيجية. لانها تركت الباب امامها مفتوحا لتحقيق ما تريد، وهي قادرة بالعودة اليها والتمسك بما جاء فيها، ان تمارس ضغوطا اكبر على الادارة الاميركية للتصدي لايران.
طمأنينة تفتقر لضمانات
وبناء على ما ورد، فان القيادة العسكرية الايرانية تعتقد ان توقيت الهجوم العسكري الاسرائيلي ضد ايران، سيحدث عندما تطمئن اسرائيل:
1 – بأن الردع الاميركي سيكون حائلا دون الرد العسكري الايراني ضدها.
2 – بأن تدخّل اميركا عسكريا حتمي بعد الرد الايراني على الهجوم الاسرائيلي.
وتعتقد هذه القيادة بان الردع الذي يدور الحديث عنه، ليس من المسائل التي تمتلكها اميركا مئة في المئة لكي يكون بقدورها طمأنة اسرائيل بشكل كامل. وفي افضل الحالات، أي في الوقت الذي تكون فيه كل الامور متطابقة مع الرغبات الاميركية، فإن قدرتهم على تقديم ضمانات رادعة لا تتعدى الخمسين في المئة بناء على رد فعلهم، ولن يكون بمقدورهم السيطرة على الخمسين المتبقية لانها ستكون في دائرة القرار والسيطرة الايرانية.وعندما لا تكون ايران تحت السيطرة بناء على استراتيجية الردع هذه، فإن الخمسين في المئة من الردع التي تملكها اميركا ستكون بلا قيمة الى الحد الذي تفقد فيه استراتيجية الردع موضوعيتها. وان توزيع وتقسيم خيار الردع بين ايران واميركا لن يمنحا اسرائيل لا ببساطة ولا بصعوبة امكان اللجوء الى الخيار العسكري ضد ايران ومخاطره. بناء عليه فان امكان الثقة بخيار الردع من قبل اسرائيل غير ممكنة، وفي النتيجة فان ما جاء في الاستراتيجية النووية الجديدة غير مجد. لكن امكان ان تقوم اسرائيل بهجوم عسكري ضد ايران يبقى قائماً، ويمكن متابعته من خلال فرضية اخرى، وهي ان تتجاوز اسرائيل موضوع الردع، وان تقوم بالهجوم على ايران على أمل ان تجبر اميركا على الاشتباك معها ايضا على الرغم من علمهما بالرد الايراني.
تدمير الذات
اذا عقدت اسرائيل الآمال على هجوم عسكري اميركي ضد ايران بعد الرد العسكري الإيراني على اسرائيل، فان ذلك يعني قيام اسرائيل بتدمير نفسها بسبب الخطأ الكبير الذي سترتكبه في حسابات الامر وتقديراته.وترى هذه القيادة انه وبالعودة الى موضوع الردع يظهر ان الشيء المهم لاسرائيل هو صون نفسها مقابل أي رد ايراني، في حين ان مثل هذه الخطوة المفترضة أي – الهجوم على ايران مع العلم بالرد القطعي الايراني – تقع في الجهة المقابلة لموضوع الردع الذي يحظى بأهمية قصوى لدى اسرائيل اكثر من أي شيء آخر. وهنا فإن معظم الخبراء العسكريين يقرون بأن قدرة ايران العسكرية والتدميرية هي في اعلى مستوياتها واتساعها، بحيث انها تشمل وتطاول كل الاراضي المحتلة، ولن يكون أي مكان من جغرافية الاراضي المحتلة بعيدة عن الاستهداف الايراني، وان ايران بالاستفادة من حجم سلاحها البعيد المدى قادرة في مدة قصيرة ان تحول الاراضي المحتلة خرابا. ان قدرة ايران على القيام بمثل هذه العمليات متنوعة ومعقدة بحيث ان دخول الاميركيين في هذه المرحلة سيكون غير مجد ولن يساعد في تقليل الخسائر التي ستلحق بالاراضي المحتلة. ان نتائج مثل هذه الفرضية ستكون انهيار عوامل متعددة ومؤثرة. واذا توقفنا عند كل واحد منها، فانها في النهاية ستكشف عن انهيار اسرائيل واضمحلالها، ويصبح من الصعب جدا العودة بها الى الوضع السابق. ولن يكون مهما بعد القضاء على اسرائيل ما سيحدث بين ايران واميركا، المهم هو القضاء على اسرائيل، وهو امر سيتحقق بالتأكيد. ان مجرد التفكير بامكان تدمير اسرائيل هو تفكير مرعب ومرّ للاسرائيليين ولا يرغبون حتى بالتفكير فيه او الاقتراب منه كفرضية او احتمال. وعليه فان ' تدمير الذات' في الظروف الطبيعية والعادية لا يمكن ان يكون خيارا اسرائيليا، وهم يعرفون ان اللجوء الى هذا الخيار سيشكل النهاية التاريخية لدولتهم.
تأويل وتفسير مفهوم الردع
وتعتقد القيادة الايرانية ان العقيدة العسكرية الاسرائيلية حتى العقدين الماضيين كانت تقوم على تفوق قدراتها العسكرية على القدرات العسكرية لايران، وانه على الرغم من البعد الايديولوجي في التركيبة الايرانية، فان هذه القدرات اصيبت بخسائر كبرة وتعاني ضعفا بسبب ما لحق بها جراء الحرب. اما اليوم فقد تغيرت العقيدة الاسرائيلية تجاه ايران، وقد ادرك القادة الاسرائيليون وبطرق مختلفة مدى ما وصلت اليه القدرات العسكرية الايرانية. ونتيجة هذه المعرفة، ادركوا انهم غير قادرين بمفردهم على مواجهتها عسكريا، وقد سعوا على مدى سنوات طويلة الى ربط انفسهم باميركا كمدافع عنهم وداعم لهم في أي مواجهة عسكرية محتملة مع ايران. ان دخول الكيان اسرائيل في اطار منظومة الدعم العسكري الاميركي في اعتقاد القيادة الايرانية يأخذ بعدين؛ من جهة سيساهم ظاهريا في رفع قدراتها العسكرية، وتوظيف القدرات العسكرية الاميركية في اطار قوة الردع الخاصة باسرائيل، ومن جهة ثانية، سيؤدي الى خسارة الاستقلالية في القرار العسكري الاسرائيلي. وتعتقد هذه القيادة ان الولايات المتحدة ستدخل الى جانب اسرائيل في أي حرب قد تشن ضدها من قبل أي دولة، لكن في المقابل فان امكان ان تنساق واشنطن الى أي حرب قد تشنها اسرائيل ضد أي من الدول هو امكان ضعيف، اذاً من الممكن ان لا تكون المصالح التكتيكية لاميركا مشتركة مع اسرائيل. وفي هذه الحالة فإن اسرائيل وبسبب ارتباطها بالجانب العسكري الاميركي لا يمكنها العمل باستقلالية وانفراد وان تتوقع دعما ومساعدة من اميركا.عندها تكون قوة الردع الاميركية التي تعتمد عليها اسرائيل والتي برزت في الاستراتيجية النووية الجديدة، حسب القيادة العسكرية الايرانية، معرضة للتأويل والتفسير، أي ان هذه القوة ستشكل حائلا امام أي خطوة عسكرية فردية اسرائيلية، وقد لا تتطابق الاهداف الاسرائيلية بالهجوم مع ما تريده اميركا. وأي هجوم عسكري اسرائيلي ضد المنشآت النووية الايرانية قد يحقق الاهداف الاسرائيلية، لكن الرد الايراني ضد اسرائيل ودخول اميركا في حرب مفترضة او احتمالية سيعرض مواقعها في كثير من نقاط المنطقة للخطر، وفي حال لم تعطِ اسرائيل لهذا الموضوع أهمية كبيرة، واذا كان المهم لدى القيادة الاسرائيلية الهجوم على المنشآت النووية الايرانية بغض النظر عما سيلحق باميركا، فإن الردع الاميركي سيكون مركزا على منع اسرائيل من التحرك، وهذا سيعني ان تفقد اسرائيل حرية العمل العسكري.
عدم فائدة الحرب التقليدية
وتعتقد القيادة الايرانية انه بناء على ما تقدم، اذا لجأت اسرائيل لاعتماد خيار 'تدمير الذات' وقبلت به، عليه يجب اجبار اميركا على الدخول في عداء مع ايران ولو كان ثمن ذلك زوال اسرائيل، عندها سنكون امام واحدة من الفرضيتين التاليتين:
أ- اما الدخول في حرب تقليدية.
ب – وإما الدخول في حرب غير تقليدية.
في الحرب التقليدية، سيكون الاميركيون مجبرين على اتباع اسلوب الحرب نفسه الذي اتبعوه في افغانستان والعراق. وبما ان الوضع الاميركي الحالي يختلف بالكامل عن الوضع السابق، وايران ليست العراق ولا افغانستان، ومع الأخذ في الاعتبار ان اميركا تعاني وضعا حرجا وغير مستقر بعد 7 – 8 سنوات حرب في العراق وافغانستان ولا تمتلك أي رؤية واضحة لمستقبل هذين البلدين، لذا يبدو من غير المنطقي الدخول في حرب جديدة تعلم اميركا ان نسبة النجاح فيها ضئيلة جدا بالمقارنة مع الحربين السابقتين، وان اثارها وتكاليفها ستكون اكبر بكثير. من ناحية اخرى قد يكون زوال اسرائيل خارج تحمل اميركا وقد يجبرها على اتخاذ رد فعل، وبما ان اللجوء الى الحرب التقليدية لا يضمن لاميركا النصر ولا باستطاعتها ذلك، فان الاحتمال الاكبر هو اعتماد الحرب غير التقليدية.
الحرب غير التقليدية
ليس مهما متى وفي أي مرحلة ستلجأ اميركا لاعتماد اسلوب الحرب غير التقليدية في سياق الحرب المحتملة بين إيران واسرائيل، اما المهم فهو التصرف الذي سيبدر منها في مواجهة مثل هذا الاحتمال والذي سيكون مؤثرا على مقولة الردع. وعندما يصل الاميركيون إلى نتيجة بأنه من خلال تهديد إيران بهجوم نووي فان إيران ستتنازل وتتراجع عن مواقفها، عندها يكونون قد حققوا انتصارا لحساب معادلة الردع التي اعلنوا عنها. اما اذا لم تتراجع إيران عن مواقفها على الرغم من التهديد بهجوم نووي، فسيكون امام اميركا احد طريقين: اما اللجوء إلى ضربة نووية او عدم اللجوء إلى ذلك. وفي هذه الحال سيكون لدى إيران ايضا احد خيارين: اما الاستسلام او عدم الاستسلام. والاختيار الإيراني سيحدد الاختيار الاميركي. ولكن من المتيقن ان خيار إيران سيكون مبنيا على المسار التاريخي وستكون عاشوراء والامام الحسين خلفية هذا الخيار. وبناء على الاختيار الإيراني فان اميركا ستكون مجبرة على التراجع، لان هجوما نوويا سيكون له انعكاسات على اميركا والعالم، وعليه يبدو ان اسرائيل وخصوصا اميركا غير راغبتين بان تصل الامور إلى هذا المستوى.وهنا تقول القيادة العسكرية الإيرانية ان مستوى الاستعداد لدى القوات المسلحة الايرانية وقدراتها ستلعب دورا اساسيا في تحديد ابعاد أي صراع محتمل وتحديد آثاره.
- 'السفير'
الولايات المتحدة الأميركية... الأكثر قوة والأكثر غباء
ن.ص.
لا يبدو أن العبقرية الأميركية مقنعة. تخطئ ولا تتعلم. تعالج الخطأ بما هو أدهى منه. تحرث البحر، ولو كلف ذلك حرث الشعوب والدول، والفتك بمن ليس معها أو ليس يتبعها. ولا يظهر أن باراك أوباما، &laqascii117o;رسول الخامس من حزيران" مبشر العالم الإسلامي بالصداقة الأميركية، قادراً على تغيير المسار الأميركي في المنطقة العربية والأقاليم المحيطة بها... جل ما بلغه حتى الآن، تضميد الصورة الأميركية البشعة، وتدبيج لغة دبلوماسية، تخلت عن ألفاظها الهمجية، واستعارت خطاباً معقولاً... لا يتمتع بالاقناع. من دلالات غباء الولايات المتحدة، حروبها والخسائر. والأبلغ في الدلالة على تفوقها في مراكمة الأخطاء، طريقتها في صياغة التحالفات، على قاعدة ـ جديدة ومزمنة في آن ـ قسمة العالم إلى قسمين: محور الخير ومحور الشر؛ أو: محور الاصدقاء ومحور الأعداء... والثنائية الغبية، أصل الكوارث الدولية. يتساءل روبرت مارلي (مستشار الرئيس الأميركي بيل كلينتون للشؤون العربية والاسرائيلية) وبيتر هارلينغ (مدير أنشطة خلية الأزمات في العراق وسوريا ولبنان)، عن سر المزج الفاشل، بين أطراف متناقضة، غير قادرة على خدمة مصالحها... &laqascii117o;فكيف يتم الجمع في معسكر واحد، بين اسرائيل والحزب العلماني فتح والمملكة العربية السعودية السلفية والقوات اللبنانية المسيحية ورئيس الوزراء العراقي السابق/ الحالي نور المالكي"؟ ما هي الروابط المصلحية بين هؤلاء؟ أي ايديولوجيا؟ أي سياسات مشتركة (راجع نص مقالة مارلي وهارلينغ المنشورة في هذه الصفحة). لقد جمعت واشنطن في حلفها هذا أطرافاً شديدة الاختلاف والتباين، والرابط الوحيد بينها، هو خدمة الاستراتيجية الاميركية المتعثرة. فكيف تنجح سياسة هذا المعسكر واسرائيل لم تقدم أي جائزة ترضية للسلطة الفلسطينية، ولا استطاعت واشنطن ان تلزمها بذلك؟ وكيف يمكن ان تُقطف ثمار من هذا الملف، والمملكة العربية السعودية لا تقدر على ان تقدم شيئا لنوري المالكي، وكيف تصل سياسة إلى خواتيمها إذا كان الجميع في المعسكر الأميركي يتسوّل ما ليس عند أحد. تضع واشنطن في سلة واحدة، قوى الممانعة. وهذه القوى ليست موحدة ايديولوجيا أو دينياً أو جغرافيا. فالجمهورية الايرانية (شيعية) وحركة حماس (سنية) وسوريا (علمانية) وحزب الله (حركة دينية)، ومع ذلك، فإن القاسم المشترك في ما بينها انها تستطيع ان تتساند عمليا وميدانيا واستراتيجيا، لاسقاط المشروع الأميركي، وإلى جانب ذلك، الحد من العدوانية الاسرائيلية. مشروع إنهاء الهيمنة الأميركية على المنطقة، تقوده أطراف ممانعة، غير متفقة على مستقبل العراق، (سوريا وإيران مختلفتان) وغير متفقة على صياغة سياسة اقليمية واحدة، إزاء السلام أو إزاء الحرب. ومع ذلك فإن هذه القوى، أثبتت جدارتها وتفوقها في احباط السياسات الأميركية والعدوانية الاسرائيلية.
هل ستغير أميركا سياستها؟ فات الأوان لتعديل سياستها. لكن المراجعة المرة، ستأتي بعد حسابات الفشل في العراق وأفغانستان ولبنان. ان النفوذ الأميركي يتراجع... والهامش الاسرائيلي يضيق... وحلف الاعتدال العربي، يفقد أنفاسه... ومن لا يزال أميركيا جداً في لبنان، فليس أمامه إلا الامتثال لمنطق الهزيمة، عندما تغرب شمس اميركا عن لبنان. أنطوان لحد... رحل مع رحيل الاسرائيليين. لائحة المرشحين من اللبنانيين للانتقال إلى... بعد رحيل الاميركيين، طويلة جداً. صحيح أن أميركا بالغة القوة، لكنها شديدة الغباء. غير أن أتباعها أشد غباء منها...