قضايا وآراء » قضايا وآراء مختارة من الصحف اللبنانية الصادرة الخميس 17/6/2010

- 'السفير'
أي لبنـان يبقـى بـلا مقـاومـة؟
د.حسين رحال:

بعد مرور عشر سنوات على تحرير لبنان (في معظم أراضيه وأسراه) في الخامس والعشرين من أيار, يتبادر الى الذهن صواب مقولة الصحافي جورج نقاش عشية الاستقلال اللبناني الاول؛ أن نفيين (سالبين) لا يصنعان وطناً. ذلك أن الهوية الجامعة لمواطنين في وطن محدد لا تعرّفُهم بالسلب والنفي إنما هي حيّز إيجابي مشترك في الثقافة والعيش المشترك, وفي بناء مشروع وطني ناجح وقادر على البقاء أمام التحديات، وفي مقدم هذه التحديات الاحتلال الخارجي.
لماذا نتذكر مقولة جورج نقاش الآن ؟ لأن الجرح الذي وضع اصبعه عليه هو نفسه الجرح الذي داوته المقاومة اللبنانية بتضحياتها وعملها الجاد على مدى سنوات طويلة, في سياق آخر ومختلف تماماً, هو سياق إيجابي بنائي.
في عرف علماء السوسيولوجيا تَنبني الهوية الثقافية لجماعة ما أو مجتمع ما انبناءً. هي تماهٍ واع مع انتماء ومع ثقافة ومع مصير مشترك, ومع أمل وثقة بقدرة الجماعة على تخطي الصعوبات والتمايز الناجح عن غيرها من الجماعات. وقد مثّلت المقاومة اللبنانية كل هذه الدلالات المتعلقة بالهوية اللبنانية؛ فهي مثلت النجاح الحقيقي (وربما الوحيد حتى الآن) في إثبات قدرة المجتمع اللبناني على تشكيل بُنية فعالة قادرة على وضع الاستراتيجيات وتنفيذها في مواجهة بُنية غربيّة ـ حديثة، هي الكيان الاسرائيلي، والانتصار عليها، استناداً الى ثقة بنفس الجماعة وشبابها وبعقولهم (التي اعترف العدو بحداثتها عندما تحدث عن حرب أدمغة بين جنرالاته وقادة المقاومة). من هنا فإن مبدأ الثقة بقوة لبنان لا بضعفه، هو المدماك الاول في نجاح مشروع الاعتماد اللبناني الذاتي على الجماعة الوطنية، لا على الغير، في حماية الوطن وفي بنائه.
لم يعد الضعف سبيلاً الى الالتحاق بأي محور أو حلف دولي يأتي على النقيض مع العمق الجغرافي والثقافي المحيط بلبنان. على عكس الخطاب السياسي اللبنانوي ـ اليميني الذي جعل من الضعف مقدمة لطلب الحماية الدائمة من الخارج. في حين أن القوة الذاتية التي مثلتها تجربة لبنان المقاوم ككل، حكومة وجيشاً وشعباً، أبدلت الثقافة بأخرى تعتمد على كون قوة لبنان تحميه من التدخل الخارجي وتعمق صلاته بعمقه العربي بدل أن تكون على حسابها.
وبهذا المعنى فإن الوطنية اللبنانية تنبني ضمن العروبة وليس على النقيض معها. هنا تتجلى الخصوصية اللبنانية من خلال نموذج المقاومة باعتبارها مدخلاً الى العالم العربي . وبهذا تُلبى الحاجة الى إبراز التمايز والتماثل معاً، فهما بعدان من أبعاد هوية واحدة وليسا نقيضين يجران الانقسام والانفصام داخل الثقافة الوطنية الواحدة.
هذا بالضبط ما تشير اليه السوسيولوجيا الثقافية الحديثة في تحليلها لموضوعة الهوية باعتبارها تضم أبعاداً متعددة في شخصية واحدة متميزة ( وهو الاتجاه الذي تأثر به الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف في كتابة الهويات القاتلة).
ولعل هذا ما يسلط الضوء على الأزمة العميقة والانفصام الذاتي الذي عانت منه الثقافة اللبنانية ويلخصها ذلك السجال الدستوري عن لبنان ذي الوجه العربي في مقابل الوجه الآخر غير العربي (الافرنسي والغربي).
لقد شكّلت وثيقة الوفاق الوطني في الطائف حسماً نظرياً لهذا الانفصام بتأكيد انتماء لبنان وهويته العربية ودوره الواضح في الصراع ضد الاحتلال الاسرائيلي. ورغم أهمية هذا الحسم الدستوري لأزمة الهوية, فإنها بدون نموذج حقيقي، تبقى شاعرية سياسية، وقد احتاجت الوثيقة الى المقاومة لتكريس هذه الهوية وهذا الانتماء بدماء شهدائها وبسلوكها الوطني بناءً حياً.
ولم يقتصر نموذج المقاومة الناجح على تكريس الهويتين الوطنية والعربية للبنان، بل مزج بينهما في &laqascii117o;الرمز" الذي يشكل عماد الذاكرة الثقافية الوطنية؛ رموز المقاومة اللبنانية من أبسطها، وهو الراية الصفراء، الى أعظمها، وهم الشهداء, باتوا رموزاً للهوية العربية بل لكل المناضلين في العالم؛ هكذا يغدو السيد حسن نصر الله و الشهداء السيد عباس الموسوي وراغب حرب وعماد مغنية، مثلاً, رموزاً ثقافية عن اللبنانية، الداخلة الى أعماق العروبة وقضيتها المركزية فلسطين.
وبوصف الهوية تماهياً مع انتماء وتاريخ مشترك فان سني المقاومة بشقيها: الاول منذ العام 1947 ضد الاعتداءات الإسرائيلية التي يمكن وصفها بالدفاع السلبي, وبشقها الثاني: منذ العام 1978 وأكثر وضوحاً وهو العام 1982 والذي يمكن تسميته بالدفاع الايجابي المنظم والمبادر, قد جعلت منها مساوقة للتاريخ اللبناني وجزءاً ممتزجاً به, توحّدُ الذاكرة الجماعية لكل اللبنانيين؛ فالشهداء الذين سقطوا باعتداءات أو بعمليات فدائية مقاومة ضد العدو، يُعدون بعشرات الآلاف ويمتدون على كامل رقعة البلاد من أقصى الشمال (عكار والهرمل) الى أقصى الجنوب (شبعا وعيتا الشعب). هكذا تمتزج الذاكرة مع الحاضر, الثقافة الموحدة للجميع مع المصلحة العليا للشراكة.
يتوّج أيار العام 2000 هذا التاريخ كحدث مؤسس في السياسة وفي الايديولوجيا الوطنية للبنان المستقل. حيث المقاومة مؤسّسة للسيادة وموحّدة للدولة جغرافياً وبشرياً.
وفي حالة بلد كلبنان، أمام حالة عدو كالكيان الصهيوني، يصبح وضع السيادة في مواجهة المقاومة وضعاً للدولة في مواجهة إحدى مقدماتها التأسيسية؛ بدون مقاومة لا وجود للسيادة ولا للسلطة الواحدة, بل وطن منقوص الوحدة مقسم بين شعب تحت الاحتلال وقسم خارجه.هنا تتجلى الخصوصية اللبنانية في علاقة بقاء الدولة بوجود المقاومة وليس بتناقضهما.
بيد أن الثقافة السياسية اليومية المبسطة تلجأ الى تزييف للواقع الحقيقي عندما تستخدم المفرادات في غير معناها ومدلولها, إذ تضع المقاومة في تضاد مع الدولة في مرحلة عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على مواجهة الاخطار والتهديدات المعادية.
من زاوية أخرى تبدو الصيغة اللبنانية التي حافظت عليها المقاومة غداة النصر في العام ألفين مرهونة ببقاء المقاومة قوية، وهي التي لم تفعل كبقية المقاومات المنتصرة في فرنسا والجزائر وفيتنام، حيث تحولت السلطة في كل بلد محرر الى جزء من المقاومة. ولأن المقاومة اللبنانية لم تبادر حينها الى جعل الدولة تحت سلطة المقاومة، وهو السياق العالمي الطبيعي، وذلك حفاظاً على الصيغة اللبنانية القائمة على التنوع والحفاظ على الخصوصة اللبنانية بما فيها الطائفية، إلا أن ذلك لا يعني مطلقاً عدم التمسك بالحد الادنى من مفاعيل التحرير، وحفظ نضالات وتضحيات اللبنانيين، وهو ادخال قيم المقاومة ـ وليس سلطتها ـ لتكون جزءاً محركاً لقيم الدولة المحافظة على الصيغة والتنوع.
ومع ذلك فإن الأمر في لبنان أكثر خطورة وجدية من كل ما طرح، ذلك أن الصيغة اللبنانية الحالية مهددة بالتدمير من الخارج لو فقدنا المقاومة، إذ كيف يكون هناك تنوع اذا تعرضت فئة لبنانية برمتها (وهي الفئة السياسية المعادية لاسرائيل من كل الطوائف) وطائفة كاملة للتهديد بالإبادة، مع عدم قدرة الدولة على حمايتها بدون سلاح المقاومة؟ ماذا تعني التهديدات الاسرائيلية المتكررة تحت عنوان &laqascii117o;عقيدة الضاحية"، وهي تهديدات لم تحرك أيا من المسؤولين اللبنانيين للقيام بجهد دولي لفضح الابتزاز الاسرائيلي للعالم، بارتكاب فعل الإبادة علناً، للمدن والمناطق السكنية وللأهالي فيها؛ هي خطة عدوانية تستهدف لبنان ككل، لكنها تستهدف تحديداً طائفة معينة تحتضن المقاومة في الضاحية والجنوب والبقاع، تتوعدها اسرائيل علناً بالابادة وبتدمير بناها المدينية والقروية وبتهجيرها (للمرة العاشرة على الاقل) وربما هذه المرة الى خارج لبنان. إن الخطر الداهم والتهديد الاسرائيلي المباشر للطائفة التي تحتضن المقاومة بالابادة الديموغرافية والجغرافية هما تهديد بالغاء الصيغة اللبنانية عبر الغاء أحد مكوناتها، وتهديد للعيش المشترك، اذ عند السماح بتنفيذ هذا التهديد، مع من سيتعايش بقية اللبنانيين.
ان استهداف سلاح المقاومة بهذه الحدة من قبل أطراف لبنانيين يمثل رسالة غير تعايشية الى عموم الطائفة المحتضنة للمقاومة بأن هذه الاطراف، على استعداد لتعريضها للإبادة وتحويل كل مناطقها الى نموذج لتدمير الضاحية الذي جرى عام 2006، وبالتالي فالجمهور الذي تصله هذه الرسالة يدرك ان البعض في لبنان ينقلب على الصيغة اللبنانية وعلى العيش المشترك الذي حمته وصانته المقاومة .
ان البعض في لبنان وربما عن وعي، لا يمانع في أن تتحول قرى الجنوب والضاحية والبقاع، كلياً أو جزئياً، الى انموذج أوسع لصبرا وشاتيلا تحت حجج شكلية مثل &laqascii117o;ثنائية السلاح" (وهي ثنائية موجودة طائفياً وفئوياً داخل الدولة من خلال مرجعية قرار قوى الأمن الداخلي والتباسات دورها خلال السنوات الخمس الأخيرة) وذلك بتعريض صيغة لبنان والعيش المشترك فيه للإلغاء تحت وطأة &laqascii117o;عقيدة الضاحية" الاسرائيلية.
إن أي سلطة لبنانية سياسية أو تنفيذية أو من السلطات الأخرى هي بحكم منطق الدستور غير شرعية إذا تناقضت مع ميثاق العيش المشترك، وبما أن المقاومة هي جزء من حماية السيادة للبنان ككل، وفي الوقت نفسه هي عامل حفاظ وجودي من الانتقام والإبادة الاسرائيلية لما يقرب من ثلث اللبنانيين، فإن الحفاظ على المقاومة وقوتها هو في صلب العيش المشترك، وأي سلطة تعادي المقاومة هي سلطة غير شرعية وساقطة بموجب الدستور، سواء ذكرت في بيانها الوزاري أم لم تذكر بند المقاومة في الدفاع او التحرير.
ما عاد بإمكان أحد التنكر لهذه العلاقة العضوية بين قيم المقاومة وهوية لبنان. هذا إذا فكرنا من داخل النموذج اللبناني الذي ارتضاه الجميع صيغة فريدة وتعدداً يستوعب خصوصيات كل فئاته ولا يطمسها، بدلا من ان يفكروا من خارج النموذج، أي بالمنظار المعادي للمقاومة، سواء أكان منظاراً اميركياً أم حتى منظاراً اسرائيلياً؟.     


- 'النهار'
أبعاد الإخفاق الإسرائيلي
رندى حيدر:

إقدام إسرائيل على تشكيل لجنة تقصٍ للحقائق للتحقيق في ظروف مقتل مواطنين أتراك كانوا على متن 'أسطول الحرية'، وقبول الحكومة الإسرائيلية البحث في خطوات عملية لتخفيف الحصار على غزة؛ يشكلان أهم حصيلة إيجابية مباشرة للضغط الدولي الذي تعرضت له إسرائيل في أعقاب المواجهة الدموية التي دارت بين الجيش الإسرائيلي والمحتجين على الحصار، والتي أدت الى سقوط تسعة قتلى أتراك. ولكن المفاعيل السلبية لحادثة 'أسطول الحرية' على إسرائيل أكبر وأعمق من ذلك بكثير على الصعيد الداخلي الإسرائيلي وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي. فعلى الرغم من شبه الاجماع الإسرائيلي على الموقف الداعم لقرار الحكومة منع 'أسطول الحرية' من خرق الحصار على غزة، إلا أن حوادث العنف والقتل التي وقعت على ظهر السفينة 'مرمرة' شكلت موضوع نقد عنيف من جانب الصحافة الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها للحكومة والمسؤولين. ولم يخفف من حدة هذه الانتقادات تشكيل لجنة تحقيق، فكون هذه اللجنة غير حكومية ومحدودة الصلاحيات، سيجعل من الصعب تحديد المسؤوليات عما جرى، وتالياً ملاحقة المسؤولين سواء أكانوا عسكريين أم سياسيين، مما حوّل اللجنة أيضاً موضوع نقاش وجدل بين المعلقين والسياسيين الإسرائيليين حول مدى قدرتها على جلاء الحقائق ومحاسبة المسؤولين. ثمة إجماع داخل إسرائيل اليوم على أن الإخفاق الإسرائيلي في مواجهة 'أسطول الحرية' تحول نجاحاً كاملاً حصدته حركة 'حماس' على الصعد الفلسطينية والعربية والدولية. وأكبر دليل على ذلك فتح مصر معبر رفح، وتهميش أهمية  المفاوضات السياسية غير المباشرة التي كان بدأها الموفد الأميركي الخاص الى المنطقة جورج ميتشل بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو، وتحول تركيا الوسيط الفاعل من أجل تحقيق المصالحة بين حركتي 'فتح' و'حماس'، ودعم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي رفع الحصار عن غزة الذي تحول الموضوع الأساس لإهتمام العالم بأسره. من هنا فموافقة الحكومة الإسرائيلية البحث في تخفيف الحصار من دون تحقيق أي تقدم في عملية اطلاق سرح الجندي المخطوف جلعاد شاليت المحتجز لدى حركة 'حماس'، هو اعتراف ضمني بانتصار 'حماس' وبفشلها. دولياً، تأتي حادثة اطلاق النار من قبل رجال البحرية الإسرائيلية على المحتجين الأتراك بعد أشهر قليلة على حادثة تورط الموساد في عملية إغتيال مسؤول 'حماس' محمود المبحوح في دبي، والتي تسببت في توتير العلاقات الديبلوماسية مع أكثر من دولة أوروبية استخدم عملاء الموساد جوازات سفر مزيفة تابعة لها، مما فاقم الانتقادات الدولية الموجهة لإسرائيل، وزاد في حرجها حتى أمام حليفتها الولايات المتحدة. لم تفضح حادثة 'أسطول الحرية' فشل التفكير الإسرائيلي في استخدام القوة  في مواجهة حركة احتجاج مدنية فحسب وإنما أيضاً كشفت المأزق الذي وضعت نفسها إسرائيل فيه أمام أنظار العالم بصفتها دولة محتلة، لا تقيم وزناً للقوانين الدولية، وتتصرف مثل أي 'دولة مارقة'. فما الذي يميز إسرائيل في نظر العالم الغربي عن كوريا الشمالية التي اقدمت على اغراق سفينة كورية جنوبية وتسببت بمقتل بحارتها، ثم قامت بتشكيل لجنة تحقيق في الحادثة؟ لقد دأبت إسرائيل طوال الأعوام الماضية على تصوير حركة 'حماس' أمام انظار العالم نفسه كتنظيم إرهابي إسلامي متشدد معاد للغرب، لا يقيم وزناً لحياة المدنيين فلسطينيين واسرائيليين على حد سواء. وها هي أحداث 'أسطول الحرية' تكاد تقوض كل هذه الجهود، لأن الحادثة بعكس كل التوقعات الاسرائيلية منحت 'حماس' نوعاً من اعتراف دولي'بشرعيتها'. في مقال استثنائي نشرته 'هآرتس' حذر  الفيلسوف الفرنسي من أصل يهودي برنار هنري ليفي، إسرائيل من دوامة 'الكراهية والجنون' التي أثارتها قضية 'أسطول الحرية' وسط الرأي العام الدولي. وعلى الرغم من الطابع الدفاعي للمقال عن إسرائيل في وجه الهجمة الإعلامية عليها في الصحافة الأوروبية والأميركية، فإن الكاتب يعترف بأن ما فعلته إسرائيل كان عملاً 'أحمق'، ويحذر من الانعكسات السلبية البعيدة المدى على إسرائيل وسط الرأي العالمي. حتى الآن دفعت إسرائيل أثماناً  سياسية واقتصادية واخلاقية مؤلمة جراء مواجهتها 'اسطول الحرية' بالقوة، لكن الأهم من هذا كله أن يتحول الضغط الدولي على إسرائيل آلية حقيقية وفعالة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في مستقبل منظور.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد