ـ صحيفة 'الشرق الأوسط'
السيد محمد حسين فضل الله وماراثون المرجعية
السيد هاني فحص:
كان السيد محمد حسين فضل الله حريصا على ألا تغيب النجف بسبب تشديد الحصار الأمني على حوزتها ومراجعها، أواسط التسعينات من القرن الماضي، عن موقعها المرجعي الذي لا يغني عنه أي فرع وإن أصبح بحكم المركز أو أقوى (قم مثلا).
ذلك لا يعني أنه لم يكن مرجعا قبل ذلك، فهو مجتهد مطلق باعتراف الجميع، أي متحقق فيه الشرط الأهم من شروط المرجعية العامة، التي تحتاج إلى قرار منه، يجب أن يكون دقيقا فيه لكي تتحول من القوة إلى الفعل، أو من الأهلية إلى المسؤولية.
كان السيد من تلاميذ السيد أبو القاسم الخوئي، وأحد وكلائه العامين، عندما عاد إلى لبنان مقيما عام 1966م.. وعندما توفي الخوئي (1994)، خلفه في المرجعية لدى مقلديه تلميذه المتقدم في العمر، السيد عبد الأعلى السبزواري، الذي اعتبره السيد فضل الله مرحلة انتقالية، وكان يحيل مراجعيه عليه في المسائل الاحتياطية، كما هو التقليد الفقهي. وتوفي السيد السبزواري مبكرا، فخلفه السيد علي السيستاني المحاصر لمدة أحد عشر عاما في منزله من قبل النظام الأمني العراقي، فاضطرب وضع الملتزمين الشيعة في المرجعية النجفية، في حين كان الآخرون يذهبون في تقليدهم تدريجيا إلى السيد روح الله الخميني الذي، قبل نجاح الثورة الإيرانية، كان عدد مقلديه في لبنان يعد على أصابع اليدين.. ثم أخذ عدد مقلديه يزداد ببطء في البداية، بسبب إشكالية حزب الله مع الجمهور الشيعي، قبل أن يتحول الحزب إلى سائد سياسي في الوسط الشيعي اللبناني، مما سهل عليه إلزام قواعده بتقليد الخميني، بعدما كان قد ترك لهم الحرية في اختيار مرجعهم.. وأصبحت إرادة الحزب في تحديد المرجع للمحازبين وغيرهم أقرب إلى الإلزام مع بداية مرجعية السيد علي خامنئي، الذي خلف الشيخ الآراكي الفقيه المعمِّر وغير القادر على إدارة الشأن العام الإيراني من موقع المرشد، إلى أن اختار مجلس خبراء الدستور السيد خامنئي لخلافة الخميني في المرجعية الفقهية وولاية الفقيه، بناء على شهادة قدمها الشيخ رفسنجاني، ومضمونها أن الإمام الخميني تحدث أمامه عن المستوى العلمي للسيد خامنئي، وعن أهليته للقيادة، فتم انتخابه بأصوات الأكثرية مرشدا ومرجعا، طبقا للدستور.
هنا كان من ذكاء السيد فضل الله ودقته أنه اختار الظرف المناسب لإعلان مرجعيته، في حال حصار النجف التام، وخلافة خامنئي للخميني، الذي لم يكن من السهل التصدي للمرجعية في حياته لأسباب تتصل بمستواه العلمي وموقعه القيادي التأسيسي، بحيث إن اختيار السيد خامنئي لم يسعفه في الخلافة التامة للخميني، بل اقتصرت، وبقناعة منه، هذه الخلافة على مساحة محدودة من الذين كانوا مقلدين للخميني داخل إيران، وقد انتبه لذلك، وصرح بأنه يطمح في أن تكون مرجعيته متجهة إلى خارج إيران، أي إلى أنصار الثورة والدولة من الشيعة في العالم. ولم تؤثر مرجعية السيد خامنئي على حضور المرجعيات الأخرى في قم، وهنا رأى السيد فضل الله أن مرجعية خامنئي ليس من شأنها أن تعوق قيامه بدور المرجعية؛ فتصدى لها من موقع يقينه بأعلميته، من دون أن يكون بإمكان غير المكابرين أن يصادروا عليه حقه وأهليته المعضدة بشهادة الكبار من أساتذته وزملائه وتلامذته الكثر.. إلى لياقات ثقافية تجعل مرجعيته محببة أكثر في نظر أكثرية الوسط الشيعي المنفتح على الآخرين، ثقافة وحياة، وخاصة في لبنان.
لقد كانت مرجعية السيد فضل الله تبدو، في عين الإيرانيين من الطبقة الحاكمة وأنصارهم في لبنان، كأنها انتقاص نوعي يضاف إلى تعقيدات مرجعية السيد خامنئي الإشكالية. وكيف بها إذا كانت آتية من لبنان، الذي أصبح في نظر كثيرين من رجال الدين والسياسيين الحزبيين محافظة من محافظات إيران، وأصبح الشيعة فيه وكأنهم جالية إيرانية في نظر هؤلاء؟
علما بأن السيد فضل الله لم يكن أقل تأييدا من غيره للثورة الإيرانية ودولتها ورجالها الذين كان على علاقة بأكثرية من مر بالحوزة النجفية منهم. وقد كان للسيد حضور في الوسط الإيراني في النجف، لا يقل عن حضوره في الوسط العربي واللبناني علميا وثقافيا واجتماعيا. إلى ذلك فإن مرجعية فضل الله لم تكن مفاجئة، فهو معروف منذ شبابه لدى أهل العلم والفكر والأدب في لبنان والعراق بأنه موهبة مميزة.
وفي لبنان اختار الوسط الأكثر فقرا من حزام البؤس حول بيروت.. أقام مسجده ومنزله وحوزته وإدارته لشؤون الفقراء وقاعة المناسبات التي استقدم إليها نخبة المفكرين من كل الأديان والألوان للشراكة في البحث عن خطاب معتدل.. أقام كل ذلك في النبعة بين الشيعة والسنة والأرمن، قريبا من الموارنة والأرثوذكس، واختار الوسطية، بما هي الأفضل والأعلى والأرحب، موقعا له بين النخبة والجمهور، بين الأستاذ والتلميذ، بين الجامعة والجامع، بين مشاغل الفقراء ومشكلاتهم، بين الأديان والمذاهب وأهلها. بين الشعر والعلم، بين المدينة والقرى النائية. بين المركز النجفي والطرف اللبناني بخصوصياته الغنية وعمومياته الضامنة. ونظم صلاته وكلامه وكتبه ودفاتره ودروسه فامتد صيته. والتزم الحكمة في الحرب، على الرغم من معاناته، إيثارا للوحدة والسلام الأهلي الآتي.. واقتصر في عمله على الضروريات.. ونهض مع نهوض السلم الأهلي ثانية.. وأثار غيض الكسالى وغيرة الناشطين. ولم ينسَ القضايا الكبرى من فلسطين إلى فلسطين. ومن طنجة إلى جاكرتا، عابرا حدود الكيانات، عائدا إليها.. عابرا حدود المذاهب، غير متنصل منها.
إنها مرجعية مختلفة.. توحيدية تقريبية وموثوقة في ذلك كله. مرجعية نقدية، تتناول بالنقد أي موقف عربي، ولا تدعو إلى الحقد على أي حاكم عربي موضع نقد.. ويفهم الحكام العرب ذلك، فيزدادون ثقة بها ورغبة في التواصل، ويشيحون عمن يوغرون الصدور عليه طمعا، ولو بالقليل، مختلفة عما كنا نراه من شروط المرجعية، وكنا ننقدها.. وفي آخر النقد نميل إلى الإعجاب بها.. كنا نقول إن المرجع ليس زعيما يوميا، وليس من شأنه الخطابة أو الأدب أو الإعلام أو الشعر أو الحوار أو البيان.. ولكنه خرق القاعدة، وألزمنا بهذا الخرق، وأثار فينا ميلا إلى اتباعه في ذلك.. فكان أن توفر لنا منه، وممن حذوا حذوه، كمّ وافر ونوعي من المقاربات الفكرية الحضارية والإنسانية، التي ترى في الدين ما لا يراه سكان الكهوف اللائذون بصمت العاجزين. لقد قتل الوقت بالعمل.. حتى كان يومه يبدو كأنه، من حيث سعته، شهر تام.
هذا البنيان.. كان استثنائيا، ولم يكن خارقا أو معجزا.. لأنه تحول من شخص إلى مؤسسات لا مؤسسة واحدة، تعمل في كل الحقول الإنسانية، ويوميا، وبشكل لا يُضاهى في التنظيم والدقة والإنتاجية والنمو. فكيف يمكن التهوين من شأنه، وكيف يمكن قبول هذه المرجعية في مفصل صعب، من الفراغ النجفي وقتها إلى الاندفاع الإيراني نحو حصرية المرجعية من منظور سياسي؟
إن وسطية السيد فضل الله دعته إلى تحرير المساحات المشتركة بين المسلمين، وإخلائها من الالتباسات الضارة، والدغل القاتل، والمعوق للتوحيد في تجليه بالوحدة.. فعاد إلى الذاكرة الشيعية ينقيها مما اعتبره زيادة أو ورما.. هادفا إلى تأسيس توجه إسلامي مشترك نحو المستقبل الصعب، بدلا من العودة التجزيئية إلى الماضي السهل.
وكان يمكن لذلك أن يمر بتعليق قاس أو مغرض وقبيح كما حصل، ولكنه تصدى للمرجعية!! فثارت الثائرة مدججة بكل وسائل الضغط، ومنها الأقلام التي اغترفت حبرها من دم السيد وحبره، لتخوض في السيد نكرانا وافتئاتا. ما ذكرنا بمظلومين.. ظلموا في حياتهم من بيت آبائهم.. وحلا لبعض ظالميهم أن ينصفوهم بعد وفاتهم، وبسبب وفاتهم فقط.
من الإمام محمد باقر الصدر إلى الإمام موسى الصدر والإمام محمد مهدي شمس الدين.. وغيرهم.. وغيرهم من علامات معاصرتنا وانفتاحنا على الآخر كشرط معرفي وروحي ووجودي.. فلماذا كان هذا الظلم الإضافي والنوعي على السيد فضل الله؟
تقديري أنه، على العكس من المشهور، فإن موقف السيد من ولاية الفقيه (الفقهي) لم يكن هو السبب فيما تعرض له من تعقيدات ومضايقات، لأنه، في الوقت الذي كان فيه حاضنا لبدايات المقاومة، ومؤسسا شريكا على الأقل، كانت له مكانته وتقديره لدى رهط ولاية الفقيه في لبنان وخارجه، وبعضهم كانوا من تلاميذه، ولم يكن يقول بالولاية المطلقة.. وهو، ونظرا لموقع المرجعية الحساس والمسؤول والوازن، بكر في رسم المسافة بينه وبين المشروع السياسي الحزبي الذي شارك في تأسيسه، من دون أن ينقطع عن حزب الدعوة، أو ينقطعوا عنه كجزء من ذاكرتهم ومعرفتهم.. بل إن جرأته على إعلان مرجعيته هي التي أدت إلى تصاعد الخلاف معه، وبلوغه حدودا تتعدى ما يمكن أن يترتب على مجرد الخلاف في رأي فقهي.. ومن المعروف أن مراجع حقيقيين في التاريخ الحديث قد حرموا من مرجعيتهم في حياتهم أو يوم مماتهم، وجُرِّدوا كما تجرد النخلة العتيقة من لحائها أو سعفها.
وبعد النجاح في وضع السدود والعوائق أمام اتساع مرجعيته الفقهية إلى الحد الذي لا يُحتمل، من دون قدرة على الحد منها في المجال الفكري العابر للحدود الوطنية والقومية والمذهبية، حصل نوع من التواصل التعويضي مع السيد، في حين كان قد أصبح أكثر جهرا باختياره الفقهي المؤصل للولاية المحدودة أو المقيدة للفقيه، وفي الأمور الحسبية حصرا، وأصبح موقعه من الرسوخ، بحيث تجرأ على الكتابة المنهجية في تفنيد كثير من الإضافات العقدية على المنظومة الشيعية، كالولاية التكوينية، التي بينما هي تريد أن تعزز مكانة أهل البيت، تنال من هذه المكانة في العمق. بالإضافة إلى شجاعته في نشر فتاوى وأحكام شرعية، كان العلماء المقتنعون بها سابقا يمتنعون أو يخافون من التصريح برأيهم فيها، خوفا من الغوغاء، ومن علماء الغوغاء.. أتذكر أنه، وفي مفصل ما في لبنان، قالت له إحدى الشخصيات الفاعلة: &laqascii117o;إن آية الله فلان يقول غير ما تقول في هذه المسألة"، فقال: &laqascii117o;ونحن آيات الله أيضا".. وقد روى محاوره بذاته هذه الرواية لي.. وهنا كان مكمن العلة.
* مفكر وكاتب لبناني
ـ صحيفة 'الديار'
كلما اعتقلنا عملاء كلما أبعدنا الحرب
شارل أيوب:
لم تكن إسرائيل لتنشر كل هذه الشبكات والخلايا من العملاء خارقة الساحة اللبنانية، لولا أنها تفتش عن كل المعلومات التفصيلية من أجل حرب قادمة تُعِدّ لها ضد لبنان. كلما أوقفنا عميلاً، كلما أبعدنا الحرب، إذ ان اسرائيل العمياء، التي لا تعرف تفاصيل عن احداثيات ومواقع وبنى تحتية ومعلومات بشرية واجتماعية وحركة لبنانية داخلية، كلما تأخرت اسرائيل في الحرب لأنها لا تستطيع أن تقدم على هكذا خطوة دون استطلاع تكتي ميداني لا تؤمنه الصور الجوية، بل يؤمنه العنصر البشري الذي هو أساسي في جمع المعلومات. كم من المعارك جرى ربحها من خلال معلومات قدمها جاسوس واحد، كم من غارات فشلت بسبب إعطاء جاسوس لشيفرا جيشه للعدو؟ كم انقلاب فشل بفعل معلومات كشفها جاسوس عن الانقلاب؟
ولذلك، ليس عجباً أن تحاول اسرائيل إطلاق 22 شبكة في لبنان، إضافة الى أفراد مهندسين في مجال الاتصالات كي تجمع كل المعلومات عن الواقع الداخلي اللبناني، محاولة تسجيل مفاجآت ضد المقاومة، إلا أن أمرها سقط سقوطاً مريعاً مع اكتشاف شبكاتها وجواسيسها وعملائها.
والسؤال هو: لماذا هذا الكمّ من العملاء؟
والجواب: أن النفوس الضعيفة موجودة في كل مجتمع، لكن غياب الولاء الوطني، وغياب التنشئة الوطنية، وعدم وجود الرادع القوي ضد العملاء أدى الى تسهيل تجنيد الكثير من العملاء، في بلد مزقته الحرب، وعاش ثلاثين سنة في ثقافة الإقتتال الداخلي.
ما قيمة دور اليونيفيل على الخط الأزرق إذا كانت اسرائيل جنّدت أكثر من ثمانين مواطناً لبنانياً لصالحها؟
وما قيمة دور القوات الدولية في الجنوب طالما أن اسرائيل تخترق الساحة اللبنانية براً عبر تجنيد العملاء لزرع الفتنة وضرب السلم الأهلي في لبنان وجمع المعلومات عن كل شيء تمهيداً لضربه بالغارات الجوية التي تستعد اسرائيل لإطلاقها في الحرب القادمة؟
وما قيمة القرار 1701 والبحث عن استقرار على طرفي الحدود بين لبنان والعدو الاسرائيلي إذا كانت اسرائيل خططت وصرفت الملايين لزرع العملاء في الداخل اللبناني تمهيداً لحرب قادمة يلعب فيها العملاء دوراً نشيطاً في توجيه ضربات القتل والتهجير والتدمير الاسرائيلي؟ لماذا لا يبادر بان كي مون أمين عام الامم المتحدة الى تكليف ممثله السيد وليامز الاطلاع على كشف الشبكات وإبلاغ مجلس الامن الدولي خطورة ما تفعله اسرائيل على الساحة اللبنانية، طالما أن بان كي مون أصدر تقريره بشأن 1701 ومهتم بالاستقرار بين لبنان واسرائيل؟
في خطاب السيد حسن نصرالله وضوح تام وأسئلة كبرى لمن يريد أن يفهم خطورة الوضع، وخلط للأوراق بعدما جلست الأوراق كما هي على صدور اللبنانيين.
في خطاب السيد حسن نصرالله، أسئلة بمستوى مصير الوطن ومصير الناس ومستقبل الناس، وأسئلة تفتش عن الاستقرار الحقيقي، عن مناعة لبنان، عن قوة لبنان عن الوقوف في وجه العدو الاسرائيلي ومنع الفتنة عن الساحة اللبنانية، فهل يكون كلام السيد نصرالله منطلقاً لحوار عميق يضع لبنان في خط القوة والمناعة، بدل أن يبقى متخبطاً في خلافاته الداخلية؟
ـ صحيفة 'السفير'
المقاومة صنع الأصالة .. ونضحُ العلم *
السيد هاشم صفي الدين: **
إن الأمم تنهض بعلمائها، وتستقيم بصدقها وولائها وتفخر بهويتها المرسومة على جبين أفذاذها والمحفورة بأصول ثقافتها وتراثها، فتصبغ فكرها وتمتزج بعاداتها وتقاليدها وتظهر على ألسنة أدبائها وتُصان بجدها واجتهادها وتضحياتها... ولأن العلاقة السببية قائمة على أي حال، فإن نتاج كل أمة يكشف عن تاريخها. وجبل عامل الذي حباه الله بخصوصيات علمية وأدبية وثقافية ما زالت الى يومنا هذا الأبرز والأظهر في تكوّن الشخصية العاملية، هذه السمة مرتبطة بالضرورة بتصميم وعزم السابقين من جهابذة العلم وسادة المعرفة ورواد الفكر والإصلاح والنهضة، وهي لم تحصل صدفة بل جرت فيها التقديرات الإلهية والسنن الربانية، وفق دور رُصد بدقة وابتنى على رؤية ثاقبة وتغذت من استعداد الجبلة فانتقلت المهمة من جيل الى آخر بالأنفاس الطيبة وغرست في كل جبل وسفح جنبا الى جنب مع الأنبياء والأولياء الذين لا تكاد تخلو قرية من مراقدهم الشريفة وتعاليمهم النفيسة.
إن هذه المهمة لم تستند الى مال وفير وكان الغالب هو الفقر، ولا الى سلطة وجبروت والقهر حل ردحاً طويلاً، ولم تتشخص بتلون السياسة ومصالحها، بل اعتمدت أساساً على ما اغترفته العقول النيرة والصدور المنشرحة من معدن العلوم الصافية المنتسبة الى الدوحة النبوية والروضة العلوية البهية فاكتفت بهذا الفخر وساما وعلامة وعرفت مبكرا أن ما رصد لهذه الجغرافية المتواضعة حمل كبير وعبء ثقيل لا يقوى عليه إلا من صرف عمره بالعلم امتثالا لقول أمير المؤمنين(ع): اغد عالما أو متعلما والتزاما بوصيته(ع) لكميل: &laqascii117o;يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ".
لقد قرأت ما كتبه حفيد العلامة المقدس الشيخ موسى مغنية(ره) في كتابه (منارة الفقهاء)[[[ محاولا إيفاءه بعضا من حقه كي يعرفه لأهل العلم والكلمة فجزاه الله خيرا على ما بذل وأجاد، لكني تلمست من عباراته الحسرة واللوعة والخوف، أما الحسرة فعلى ما ضاع من إرثه المنظوم وغيره وهذا حق، وأما اللوعة فمن ما لحق به من ظلم وحيف وتقصير وهذا عدل، وأما الخوف فخشية أن يضيع تراثه ويخبو ذكره وهذا ما لا أجد له داعيا، ذلك أني أعتقد أن التراث على نحوين:
الأول: ما كان صنيع السلطة والمال والجاه والدعاية والسياسة دون أن يبنى على حق، فهو عرضة للزوال أو التبدل أو التلاعب به كما هو معظم ما تداوله التاريخ واهتم به أصحاب المصالح والمطامع فبدّلوه وحرّفوه وغيّروه عند كل حقبة أو جديد.
والثاني: ما نتج من العلم الرباني والأدب الرفيع الصادق فهو برأيي أعظم وأكبر وأشرف من أن تعبث به الأيادي فإن كل إرث زائل إلا ميراث العلم والأدب، هذا النوع من التراث أمتن من المتون والكتب والمخطوظات، وأصلب من الجبال الراسخات، وأكثر دواماً من المحفورات والهياكل والأشكال. فإنه لا تسعه القوالب ولا تحده الأزمنة ولا تبدله الأيام والمتغيرات فهو يجري في الإنسانية مجرى الحياة ويستحيل طبعا في الكائنات وأنفاسا في المخلوقات (...)
إن جبل عامل الذي مرت عليه أحداث جسيمة واضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة عانى فيها الظلم والقهر ظل محافظا على دوره العلمي والريادي وبقي ممسكا بحبل الخلاص المتين ولم ينحرف عن مسار اختطه الأوائل ولم يحد عن رسالة وجِدَ لأجلها والتصق بها وذاب بها واحتضنها مع مواجعه وآلامه وأفاد الأمة بخيرة صالحة ومميزة من رجالاته وعلمائه، وأدرك تماما أن العلم نور يبقى وأن نشره فضيلة تحصن أبناءه وتحميهم من الضياع والتيه فترسخت فيه قيم العلم والمعرفة من خلال أمرين:
الأول: الاعتزاز بمنقبة طلب العلم والحث عليه وشد الرحال الى الحواضر العلمية أينما كانت، وتوريث محبة العلم والاشتغال به وبذل الغالي في سبيل تحصيله، حتى غدا طلب العلم ثقافة ومعيارا في كل حقبة وغاية، تتنافس لأجلها القرى والبلدات والعوائل.
الثاني: تحويل هذا الجبل الصغير بحجمه منارات علمية وجامعات حوزوية ومدارس انتشرت في مختلف مناطقه بحسب كل مرحلة وتمكنت هذه الصروح في إرساء مرجعيات علمية وأدبية لأبناء المنطقة فأورثتهم العلم والأدب والأخلاق والفضيلة.
إن المدرسة العاملية حملت هذه الأمانة ولم تتخل عنها يوما فكانت جديرة بالتميز وحظيت بالإقدام والتقدير في الحوزات العلمية وسجلت حضورا لافتا كما أسهمت بفاعلية وتركيز في تكوين الشخصية المتراصة والواعية والمنفتحة وقدمت نماذج راقية من العلماء والقادة، وشيخنا الجليل الشيخ مغنية كان نموذجا اكتملت فيه عناصر الفخر من الفقه الى الأدب الى الزهد والتواضع وجسد مصداقا وافيا للعطاء المستمر نهجا ومسلكا تتواصل فيه الأجيال خلفا عن سلف وكابرا عن كابر، وبفضل هذا الإرث العلمي المتأصل والممتد حافظ جبل عامل على نهج الاستقامة فكان جزءا حيويا من هذه الأمة حين دعت الحاجة الى التضحيات الجسام والمواقف الجريئة ولم تفلح كل محاولات إقصائه عن دوره التاريخي وظل سباقا الى تحمل المسؤوليات وداعيا الى الوحدة بوجه دعوات التقسيم والتجزئة على الرغم من المظلوميات الكبيرة التي لحقت به، ولطالما عضّ على الجراح النازفة من ظلم الأبعدين والأقربين، كما انه حمل أعباء ثقيلة بعد النكبة واحتلال فلسطين وبقي قابضا على الجمر حين تخلى عن القضية من عاش على بريق عناوينها، وحافظ على وحدة الوطن متحملا الغرم وهو محروم من الغنم على مدى عقود من الإجحاف بينما كان غيره يوغل بالوطن فتكا وتفتيتاً خدمة لمشاريع مشبوهة وقاصرة، ان الموقع الجغرافي ـ السياسي الخاص بجبل عامل رمى عليه أثقالا ما كان قادرا على حملها لولا بقية العلم والاستقامة والأنفاس الطاهرة للسلف الصالح، وأثبت انه جدير بموقع الريادة حتى أضحى اليوم منطلقا لإشعاع المقاومة الأبية القادرة على إنقاذ الوطن والأمة.
إن التاريخ البعيد والقريب يشهد على خط الاستقامة هذا المتصل بخط النور والعلم والجهاد والعطاء فلم تنطفئ جذوته ولم تضعفه أو تسقطه أو تحرفه كل محاولات التنكر والتشويه التي ما وفرت فيه عالما أو مصلحا أو قائدا، وتلقى السهام والسموم والأحقاد والمجازر والاحتلالات بروح القيم الوقادة من مخزونه الطيب والأصيل وحولها الى مقاومة فاعلة وإيجابية في خدمة الصالح العام.. والعجب كل العجب من الذين ما زالوا الى اليوم يتنكرون لهذه الحقائق ويبالغون في الحيف وعدم الإنصاف، وفي هذا المجال لا يسعنا إلا أن نقول لبعض السطحيين من أبناء وطننا وأمتنا بغض النظر عن خلفياتهم وغاياتهم، ان مقاومتنا التي نفخر بها اليوم ليست طفرة عابرة حتى يتقرر مصيرها بتصريحات جانية أو قرارات دولية جائرة أو بتقاطع مصالح لدول وممالك وحكومات عاجزة أو قاصرة أو حاقدة لا فرق، المقاومة التي أذهلت العالم بشهدائها وقادتها وعلمائها وشعبها هي صنع هذه الأصالة وهي بعض نضحٍ للعلم المختزن في أعماق تاريخنا الأبي، وهي تدفق العطاء والمحبة والطيبة منذ أن حط أبو ذر الغفاري الرحال على الرحب والسعة، هي قبس النور الذي يشق الأرجاء منبعثا من سجن الظلامة والفتن ليخرج للعالم الإسلامي تحفة الفقه الدمشقية للشهيد الأول، المقاومة هي صدى العلم المنتشر مع أسفار الشهيد الثاني الذي أريد له أن يكون منسيا على قارعة الزمان والمكان، المقاومة هي الفتوى والتحقيق والمسؤولية للمحقق الكركي وهي المبادرة والإقدام وتلبية الواجب للشيخ عبد الصمد العاملي وهي البناء والحضارة والتقدم للشيخ البهائي والحر العاملي، المقاومة هي السمو والرفعة والوحدة والحنكة والبلاغة للإمام شرف الدين، المقاومة هي زرع الإخلاص والتضحية للإمام المظلوم المغيب الإمام الصدر، المقاومة هي عقل وتفاني الشهيد القائد السيد عباس الموسوي وهي شجاعة وفصاحة العالم الشهيد الشيخ راغب، المقاومة هي عبقرية القائد الحاج عماد مغنية سليل عائلة العلم والأدب، وبهذا المعنى المقاومة هي ثقافة وهوية وتاريخ بعمر الطهارة والطيبة والفداء في هذا الوطن وهي مظهر من مظاهر الجمع المكثف والتخصيب المركز لهذا التراث العاملي، هي لحظة القيام بالمهمة التاريخية التي نأى عن حملها من لا قِبَل له بهذا الأمر فحملها أولو إيمان وعلم وبأس وإخلاص. وعليه فلا ينبغي لأحد أن يتخيل أن بإمكانه أن يشطب تاريخا أو يهوي بفأس حقدٍ على قامات ارتفعت بالعلم وتأصلت بالإخلاص.
* كلمة ألقيت في حفل تكريم العلامة الفقيه الشيخ موسى مغنية
** رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله
(الكاتب يوسف نظام الدين فضل الله)
ـ 'السفير'
الامبراطورية" ليست بخير
ساطع نور الدين:
ليست اخبار دولة اقليمية كبرى، ذات مشروع امبراطوري يمتد من اواسط آسيا الى سواحل المغرب العربي، ويأخذ في طريقه الخليج العربي والعراق وليصل الى مصر ويتوسع جنوباً حتى السودان واليمن، قبل أن يتجه شمالا الى سوريا بعد ان يجرف لبنان، ليقف عن حدود الاناضول الذي نهض مؤخراً من سباته فقط من اجل ان يحيي الصراع العثماني الصفوي الذي غالباً ما جرى اختزاله بالخلاف المذهبي وانتزعت منه مكوناته القومية والتاريخية الأخرى.
هكذا كانت ايران ولا تزال تتراءى للكثيرين من العرب الذين اكتفوا بقراءة خطابات الرئيس محمود احمدي نجاد وبعض معاونيه وبنوا عليها صوراً خيالية لخطر داهم يهدد الوجود والحدود والشعوب والنظم، وحتى العقيدة.. وهكذا استبدلت اسرائيل، وتحوّلت الى حليف وشريك محتمل في مواجهة ذلك الخطر، وصارت تتلقى، مع اميركا، نداءات عربية متلاحقة من اجل الاستعجال في شن الحرب التي طال انتظارها والتي لن يسلم العرب والمسلمون ولن تستقر احوالهم من دونها، كما لن ينعم العالم بالأمان من دون نزع تلك القنبلة النووية الايرانية التي يكاد البعض يقسم بأنها صارت جاهزة للاطلاق.
التفجير المزدوج في مدينة زاهدان الايرانية الذي ادى الى سقوط ما يزيد على 250 قتيلاً وجريحاً اعاد التذكير مرة اخرى بان النظام الايراني يواجه تهديداً فعلياً من جانب الأصولية الاسلامية التي تنتشر في البيئة السنية الموزعة على جميع المناطق الحدودية الايرانية من الشرق الى الغرب الى الشمال الى الجنوب وتجعل من شيعة ايران غالبية محاصرة فعلياً داخل مساحات جغرافية داخلية مغلقة.. بغض النظر ايضاً عن مدى اختراق اعداء ايران الكثر لتلك البيئة واستخدامهم لها في المواجهة المتعددة الجبهات.
وقد اضيف هذا الخبر المدوّي، الذي يتكرر بين الحين والآخر، الى خبر اكثر اهمية واشد خطورة على النظام هو الاضراب الذي دخل اسبوعه الثاني في بازار طهران الذي يمثل نبضاً اقتصادياً وسياسياً حيوياً للاقتصاد الايراني، وتخللته اشتباكات بين رجال الامن والتجار الذين يرفضون رفع ضريبة القيمة المضافة، ويحتجون مثل غالبية الايرانيين، اصلاحيين ومحافظين، على ادارة نجاد للوضع الاقتصادي الذي يشهد معدلات تضخم وعجز وفوضى استثنائية، زادتها العقوبات الأميركية الاخيرة صعوبة، واستدعت التحضير لرفع الدعم الحكومي عن المزيد من السلع الحيوية لا سيما البنزين الذي يباع حالياً وفق نظام البطاقة التموينية.
كما تقاطع هذا الخبر المثير مع تقارير عن موجات اعتراض واسعة تجتاح التيار المحافظ الحاكم، بلغت مؤخراً صفوف الحرس الثوري الذي بات بعد التمديد لنجاد في حزيران العام 2009 عصب النظام وخط دفاعه الأخير.. والذي صدرت من داخله اصوات تعترض (مثل الاصلاحيين) على طريقة ادارة الملف النووي والسياسة الخارجية عامة، بحيث لم يعد بامكان ايران، حسب القائد السابق للحرس رحيم صفوي، أن تدّعي ان سوريا وتركيا هما حليفتان استراتيجيتان لها.
لا تنقطع الأخبار الواردة من طهران التي تؤكد أن &laqascii117o;الامبراطورية الايرانية" ليست على ما يُرام..