قضايا وآراء » قضايا وآراء مختارة من الصحف اللبنانية الصادرة الأربعاء 8/9/2010

- صحيفة 'الأخبار'
إسرائيل حائرة استراتيجيّاً: حلٌّ وسط أم دفع الأثمان؟

أصدر معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، تقديره الاستراتيجي السنوي تحت عنوان &laqascii117o;تقدير استراتيجي لإسرائيل 2010"، تطرق فيه كبار الباحثين في المعهد إلى البيئة الاستراتيجية المحيطة بإسرائيل، وإلى التحديات الأمنية والسياسية والاستراتيجية، فخلص إلى أن العملية السياسية مع الفلسطينيين تقف في طريق مسدود بسبب الفجوات في مواقف الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وإيران في ذروة عملية استكمال برنامجها النووي العسكري، فيما سجل انضمام تركيا بقدر معين إلى المعسكر المناهض لإسرائيل وتحولها من حليف وشريك استراتيجي إلى قوة رائدة في الجبهة المناهضة لإسرائيل ومصدر إلهام للقوة الإسلامية المتشددة. وفيما ربط التقدير بين الهدوء على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية بقدرة الدرع الإسرائيلية، أشار إلى مواصلة حزب الله وحماس تعزيز قدراتهما العسكرية.
يشير &laqascii117o;التقدير الاستراتيجي لإسرائيل 2010" الذي أصدره معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب، إلى أنه في السنة الماضية لم يطرأ انفراج يتيح لإسرائيل التصدي بصورة أفضل للتحديات في محيطها الاستراتيجي. وعلى الرغم من أن إسرائيل أثبتت في السنوات الماضية قدرتها المثيرة للانفعال على إمرار رسائل عسكرية رادعة، لكن هذا الإنجاز كان مصحوباً بثمن سياسي باهظ. فالانتقاد الدولي على شدة الرد الذي قامت به إسرائيل رداً على الاستفزازات العسكرية، وعلى نطاقه، من شأنه أن يردع إسرائيل عن القيام بخطوات ضرورية لتجديد الردع عندما تنتهي صلاحيته.
إضافة إلى تحدي صدّ الاحتجاج الدولي عموماً، والشرق الأوسطي والأوروبي خصوصاً، الموجه إلى التصدي العسكري للتحديات السياسية ـــــ المناطقية، يتعين على إسرائيل أن تتصدى أيضاً للتآكل في أساس قوة ردعها.
مغزى الأمور هو أن إسرائيل تقف أمام فترة سيتعين عليها فيها الحسم في مواضيع سياسية وأمنية جوهرية. وسيكون لهذه القرارات الحاسمة تأثير حتمي على الحلبة السياسية الداخلية. فإسرائيل موجودة في وضع يمكن أن تهز، محاولة جعل محيطها الإقليمي والدولي مستقراً، الحلبة الداخلية فيها، وكل جهد لمنع هذه الهزات سيكون منوطاً بثمن دبلوماسي وبصعوبة في استيعاب التحديات الأمنية.
إسرائيل موجودة في فترة تتميز بتفاقم سريع للتهديدات الأمنية والسياسية المحدقة بها. تدهور الوضع الاستراتيجي لإسرائيل في الفترة الأخيرة حصل في جزء منه في أعقاب تطورات في الشرق الأوسط والساحة العالمية، لإسرائيل سيطرة محدودة فقط على حجمها وآثارها، وفي جزء آخر نتيجة غياب رد ملائم من المؤسسة السياسية في إسرائيل على هذه التطورات. الحكومة الإسرائيلية، المؤلفة من عناصر سياسية ذات تصورات قطبية في ما يتعلق بجزء من المشاكل المفتاحية المطروحة على جدول أعمالها، امتنعت عن بلورة سياسة متوالية ذات أهداف واضحة تتصل بهذه المشاكل. وبدلاً من ذلك، اختارت تأجيل القرارات أو امتصاص الضغط الدولي الفوري عبر خطوات جزئية.
لذلك، بعد أكثر من سنة على بداية ولاية الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، إسرائيل موجودة في وضع لا تملك فيه ردوداً على أكثر التحديات التي تؤثر على مكانتها السياسية ووضعها الأمني في السنوات المقبلة.
انقسام في الموقف من التسوية
تباين الآراء داخل الحكومة الإسرائيلية يتركز على مسألة الاستعداد للمفاوضات تمهيداً لحل وسط سياسي وإقليمي في الساحتين اللتين تمثلان المفتاح لتحسين المكانة الإقليمية لإسرائيل، وتبعاً لذلك على مكانتها الدولية أيضاً: النزاع الإسرائيلي الفلسطيني والنزاع الإسرائيلي السوري.
المعارضون للسعي العملي لحل وسط غير مستعدين لدفع الأثمان التي تكمن في دفع الاتفاقات وبلورتها، وخاصة في ما يتعلق بالبعد الإقليمي (الجغرافي). وينطلق هؤلاء المعارضون في موقفهم من أسباب متنوّعة، جزء منها إيديولوجي في أساسه. وتعود الأسباب الأخرى إلى فقدان الثقة بنيات الطرف الآخر وقدراته على تأدية دوره في الاتفاقات، إذا ما تحققت، ومن هنا الخشية من إمكان أن تنتج التنازلات الإقليمية خطراً أمنياً لا يحتمل. وتكمن أسباب أخرى في السياق السياسي الداخلي، من ضمنها ما هو مرتبط بالخشية من المواجهة مع المعارضين للحل الوسط في الجمهور الإسرائيلي.
في مقابل ذلك، يرى آخرون من أعضاء الحكومة أن السعي إلى الاتفاقات هو مصلحة إسرائيلية من الدرجة الأولى. ويرتكز هذا الموقف على تقدير مفاده أنه إذا لم تسعَ إسرائيل إلى دفع الاتفاقات في ساحتي النزاع (الفلسطيني والسوري)، فستدفع ثمناً كبيراً. على المدى القصير سيكون ثمناً سياسياً، سواء على صعيد تدهور العلاقات مع لاعبين دوليين أساسيين، أو في ما يتعلق بالمسار المتسارع لنزع الشرعية عن إسرائيل، إضافة إلى أخطار أمنية جسيمة. وعلى المدى الطويل ستقف إسرائيل أمام تهديدات متعاظمة، وأيضاً أمام تهديد ملموس لطابعها كدولة يهودية ديموقراطية للشعب اليهودي.
خلفيات تفضيل المسار الفلسطيني
في أعقاب الضغط الدولي، وعلى نحو أساسي الضغط الكبير من جانب إدارة الرئيس أوباما في استئناف المسار السياسي، قررت الحكومة الإسرائيلية تفضيل المسار الإسرائيلي الفلسطيني واستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وعلى ما يبدو انطلاقاً من تقدير بأن الأثمان السياسية للجمود على هذا المسار، سواء من الناحية الداخلية أو الدولية، ستكون أعلى بكثير من الأثمان التي ستترافق مع الجمود في الساحة الإسرائيلية السورية. ويبدو أن هذا التفضيل يستند أيضاً إلى تقدير بأن إسرائيل ستنجح في مواجهة التهديدات الأمنية النابعة من الجمود على المسار السوري، وعلى نحو أساسي من خلال الردع الذي تحقق منذ حرب عام 2006 في لبنان...
انسداد المسار السياسي دفع الفلسطينيين إلى دراسة حل أُحادي عبر إقامة دولة فلسطينية بدون تعاون مع إسرائيل ويستند إلى ضغط المجتمع الدولي على إسرائيل... لكنّ تحدياً أخر يفرض على إسرائيل مواجهته، هو أن يهدد إمكان انسداد المسار السياسي مكانة السلطة الفلسطينية وبقاءها بصيغتها الحالية، ما سيؤدي إلى وضع تذهب فيه إنجازات بناء القوى الأمنية الجديدة للسلطة الفلسطينية بمساعدة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والأردن، أدراج الرياح. هذا إلى جانب الآثار الأمنية على إسرائيل نتيجة تقوض الوضع الأمني في الضفة الغربية، الذي يمكن أن يترافق أيضاً مع تصعيد في غزة.
وتكمن في الوضع العقيم للمسار السياسي آثار خطيرة على المكانة الدولية والإقليمية لإسرائيل. ففي السنة الأخيرة توترت، على خلفية الجمود السياسي، العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة التي تمثّل سنداً استراتيجياً لإسرائيل...
من جهة أخرى، منحت إدارة أوباما أولوية مرتفعة للسعي إلى الاتفاقات بين إسرائيل والفلسطينيين انطلاقاً من فرضية أن تسوية النزاع، وعلى الأقل رسم مسار واضح له وملزم لتنفيذ فكرة الدولتين، سيُسهِّل دفع جدول الأعمال الأميركي في الشرق الأوسط، المتعدد: تجنيد دول عربية براغماتية للجبهة ضد إيران، تثبيت الوضع الأمني والمؤسسة السياسية في العراق وكبح نفوذ الحركات الإسلامية الراديكالية في أفغانستان والعراق. ووفقاً لذلك، بلورت الإدارة الأميركية سياسة متداخلة من الضغط على إسرائيل لدفع المفاوضات مع الفلسطينيين، إلى جانب خطوات ملموسة تمثل بالتزام عالٍ بأمن إسرائيل والاستعداد لمنحها ضمانات أمنية تسمح لإسرائيل بالتقدم نحو اتفاق.
أثر الجمود السياسي على مسار نزع الشرعية
الجمود على المسار السياسي، وخصوصاً الانتقاد لدور إسرائيل في هذا الجمود من جانب شركاء لإسرائيل وبينهم أصدقاء بارزون لها، سرَّع مسار نزع الشرعية لإسرائيل في الساحة الدولية. حتى إن الحكومات الصديقة لإسرائيل تجد صعوبة في مواجهة كراهية إسرائيل في الرأي العام لدولها. المسارات العسكرية لإسرائيل في السنوات الأخيرة، وعلى نحو أساسي الحربان على لبنان وغزة، أدت إلى تفاقم الانتقادات لما اعتُبر خرقاً للقانون الدولي. تقرير غولدستون والتعامل الدولي معه عبّر جيداً عن هذا الجو. وأسهم الاحتكاك بين إسرائيل والولايات المتحدة، على خلفية السياسة الإسرائيلية في الساحة الفلسطينية، إسهاماً كبيراً في مسار نزع الشرعية. هذا إلى جانب أن الانتقاد الشديد لإسرائيل من الولايات المتحدة، حليفتها المقربة وراعيتها، أزال القيود وأعطى الضوء لمهاجمة إسرائيل بدون كوابح.
على هذه الخلفية، إن نقطة الضوء الوحيدة في هذا الواقع التي سُجلت في الفترة الأخيرة، المتعلقة بمكانة إسرائيل في الساحة الدولية، تكمن في إجراءاتها الاقتصادية. فقد نجحت إسرائيل في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، أفضل من كثير من الدول الغربية. ودفعت إنجازاتها على هذا الصعيد، منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية، OECD، التي تضم الدول المتطورة في العالم، إلى قبول إسرائيل في صفوفها.
تدهور العلاقات مع تركيا
تدهور سُجل في علاقات إسرائيل مع دول في الشرق الأوسط. في هذا السياق يبرز تقوض العلاقات مع تركيا، التي للتغيير في طابع السلطة في تركيا، بما فيها ضعف نفوذ الجيش على المؤسسة السياسية، دور أساسي في التغيير الذي حصل لطابع العلاقة مع إسرائيل. مع ذلك، فإن الجمود على المسار السياسي والصورة التمردية للحكومة الإسرائيلية وضع صعوبات أمام إسرائيل في مواجهة تعزز القوى الإسلامية في تركيا بأدوات جيدة، تخفف من بؤر التوتر. أيضاً العلاقات مع الدول العربية، التي بدت أنها تتحسن في نهاية ولاية الحكومة السابقة في حالة تراجع، وفي هذا الوضع تجد الدول العربية التي لها مصالح مشتركة مع إسرائيل تجد صعوبة في التعبير عنها، والنموذجان البارزان اللذان يميزان هذا الوضع هما العلاقات بين إسرائيل والأردن وبينها وبين مصر...
ثمة دلالات شديدة للعزلة المتزايدة لإسرائيل في الحلبة الإقليمية والحلبة الدولية، ولا سيما أن هذه العزلة ستجعل من الصعب على إسرائيل أن تتصدى وحدها، من دون تعاون وتنسيق دولي، للتحديات التي تواجهها. هذا الموضوع ذو صلة بصورة خاصة بالنسبة إلى تحديين أمنيين مركزيين تتصدى لهما إسرائيل: تحول إيران إلى قوة نووية، والصراع غير المتماثل مع لاعبين ليسوا دولاً.
التحدي الإيراني
إيران تتقدم في مشروعها النووي من دون عراقيل فعلية، وتواصل مراكمة المادة الانشطارية بمستوى تخصيب منخفض وتنتقل إلى المرحلة التالية من التخصيب، مستوى عشرين في المئة.
كل طريقة عمل لوقف المشروع النووي الإيراني يدرسها صناع القرار في إسرائيل، ستتطلب تعاوناً مع المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة. الحاجة إلى تعاون دولي واضحة بخصوص طريقة العمل الدبلوماسية وتطبيق العقوبات الناجعة، وهي كذلك، وبصورة أكبر، بخصوص الخيارات العسكرية. فالولايات المتحدة، مع مواردها الوافرة، التي تنتشر قواتها في الدول المحيطة بإيران، هي صاحبة القدرات الأكثر ضمانة لمعالجة المشروع النووي الإيراني بالوسائل العسكرية. وعلى الرغم من أن إسرائيل قادرة على تنفيذ هجوم جوي على إيران حتى من دون تعاون الولايات المتحدة، كما فعلت في العراق في عام 1981، لكن إنجازات مثل هذا الهجوم ستكون أقل بسبب الأمداء الأبعد، الصعوبات في تنفيذ أكثر من موجة هجومية واحدة وتوزيع المشروع النووي الإيراني. كذلك إن أثمان الهجوم، ولا سيما بالمفاهيم السياسية، ستكون أكبر. لهذا السبب ستجد إسرائيل صعوبة في مهاجمة إيران من دون ضوء أخضر، أو الأقل ضوء أصفر، من جانب الولايات المتحدة، ومن دون التقدير بأن الأثمان السياسية للعملية يمكن تحملها.
إذا فشلت المساعي لوقف المشروع النووي الإيراني، ستتزايد الحاجة إلى التعاون الدولي لاستيعاب التهديد الإيراني. ومن شأن إسرائيل أن تحتاج إلى ضمانات نووية من الولايات المتحدة لتعزيز ردعها ضد إيران. وستكون ثمة حاجة، لا تقل شدة، إلى ضمانات للحصول على مساعدة من جانب الولايات المتحدة تُقدم إلى دول الخليج العربية، كي لا ينتقل عدد منها إلى المعسكر الإيراني انطلاقاً من التفكير بأنها إذا لم تكن قادرة على إلحاق الهزيمة بإيران، فمن الأفضل الانضمام إليها والتلطي بظلها.
فضلاً عن ذلك، من شأن مساعي وقف انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط، أن تزيد أيضاً الضغوط على إسرائيل لاتباع خطوات لتحقيق التصور الداعي إلى شرق أوسط خال من السلاح النووي. والإشارات الأولية إلى ذلك برزت في المؤتمر الذي عُقد في نيويورك في أيار 2010، حول معاهدة منع انتشار السلاح النووي، حيث كرر ناطقون باسم الإدارة الأميركية، من بينهم وزيرة الخارجية ومستشار الأمن القومي، التشديد على السياسة التقليدية، التي بموجبها تتبنى الولايات المتحدة تصور الشرق الأوسط الخالي من السلاح النووي. لكن في الوضع السياسي الحالي في الشرق الأوسط، لا يمكن اللجوء إلى خطوات ملموسة لتحقيقه. في المقابل، ضعُفت قدرة الولايات المتحدة على الوقوف في وجه الضغوط في هذا المجال، وهذا ما تجلى في قرار المؤتمر الختامي، الذي دعا إلى بدء مباحثات في موضوع الشرق الأوسط الخالي من السلاح النووي.
في الوقت نفسه، ستكون هناك حاجة إلى بناء منظومة تكبح ميول إيران وحلفائها لاستغلال المكانة الاستراتيجية المتحسنة لإيران، لخلق ضغط متزايد على إسرائيل والدول العربية البراغماتية، مع استغلال الجهات التابعة لإيران، وعلى رأسها حزب الله اللبناني وحماس.
التحديان اللبناني والفلسطيني
حزب الله وحماس يُعدّان أداة رئيسية في يد إيران في صراعها مع إسرائيل، والدول العربية المعتدلة والغرب. لكن كونهما منظمتين سياسيتين تتوجهان إلى الجماهير المحلية التي تريدان تمثيلها، ثمة جدول أعمال مستقل لهما. لهذا السبب لم يجد التوتر المتزايد بين المعسكر الذي ترأسه إيران وإسرائيل، تعبيراً له في السنة الماضية على حدود إسرائيل مع لبنان ومع قطاع غزة. فالسنة الماضية كانت من الفترات الأكثر هدوءاً لإسرائيل من الناحية الأمنية من ستينيات القرن الماضي. هذا الهدوء أتى نتيجة تعزز الردع الإسرائيلي ونتيجة اعتبارات داخلية لحزب الله وحماس على حد سواء، التي تبلورت في أعقاب المعارك العسكرية في لبنان ( 2006) وقطاع غزة ( 2009). فقيادة حزب الله تتصدى للضرر السياسي الذي لحق بها جراء صورتها كمن جرّت لبنان إلى حرب جلبت عليها الكارثة بسبب مصالح أجنبية، لذلك لا تتحمس هذه القيادة لمواجهة جديدة مع إسرائيل. حماس من جهتها تلقت ضربة شديدة خلال حملة الرصاص المسكوب من دون أن تنجح في جبي أثمان جوهرية من إسرائيل، ما عدا الثمن السياسي الذي دفعته بسبب شدة القتال في غزة. قيادة حماس تعي التراجع الحاد في معدلات التأييد لها في قطاع غزة، وتخشى من أن جولة جديدة مع إسرائيل ستجعل وضعها يزداد سوءاً.
مع ذلك، استغل حزب الله وحماس العام الماضي لتعزيز قدراتهما العسكرية وزيادة مخزونهما من السلاح، فيما هما يتقدمان في امتلاك قدرات على إطلاق مقذوفات صاروخية، وربما صواريخ أيضاً إلى عمق إسرائيل. في هذه المرحلة الردع الإسرائيلي مستقر على الجبهتين، لذلك فإن الكلام الذي يصدر من لبنان بصورة أساسية عن حصول حرب في المستقبل القريب، يبدو من دون أساس، لكن يصعب على الردع وحده ضمان الهدوء لفترة زمنية طويلة؛ كذلك فإن على الجبهتين أيضاً بعض العناصر التي تهدد الاستقرار.
هكذا، على سبيل المثال، فإن أي هجوم من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة على المنظومة النووية الإيرانية، يمكنه أن يفضي إلى حصول ضغط من جانب إيران على حزب الله للمشاركة في المعركة وإشعال الحدود الشمالية لإسرائيل. صحيح أنّ من الممكن أن تختار إيران الامتناع عن تعريض موقعها في لبنان للخطر أيضاً، في الوقت الذي تكون فيه عرضة للهجوم العسكري. كذلك، لا ضمانة في أن ممارستها الضغط ستُفضي فعلاً إلى قيام حزب الله بعملية ضد إسرائيل: من شأن قيادة حزب الله أن ترتدع عن المواجهة التي تعزز صورتها باعتبارها مستعدة للتضحية بلبنان لخدمة مصلحة أجنبية. في المقابل، لم ينجح حزب الله حتى الآن في الانتقام من إسرائيل رداً على تصفية أحد كبار قادته، عماد مغنية، ومن شأن الحزب أن يخطئ في تقدير رد إسرائيل وينفّذ عملية ثأر تشعل الجبهة اللبنانية.
على الجبهة الجنوبية، عنصر عدم الاستقرار الرئيسي هو الضغط الداخلي والخارجي المتزايد على حماس. فالتغيير في سياسة مصر في أعقاب فشل مساعي المصالحة بين حماس وفتح، وكذا كشف شبكة حزب الله في مصر، وجد تعبيراً له في النشاط المتزايد والفعال جداً لوقف تهريب الوسائل القتالية والأموال إلى قطاع غزة. وقد واجهت حماس ضائقة مالية، نتيجة تقليص عمليات تحويل المال من إيران. هذه الحقيقة تسهم أيضاً في تراجع شعبية الحركة. وإذا استمر هذا التراجع في وضع حماس، فمن شأن قياداتها التوصل إلى خلاصة مفادها أن جولة إضافية من العنف ستنقذها من الضائقة. وثمة سيناريو آخر، هو أن تؤجج حماس تصعيد المواجهة مع إسرائيل لإحباط التقدم الفعلي في المفاوضات بين إسرائيل والسلطة. لكن معقولية هذا السيناريو متدنّية، نتيجة تدني معقولية حصول انفراج في هذه المفاوضات.
من المحتمل جداً ألّا تصل الميول السلبية التي تجعل الوضع الاستراتيجي لإسرائيل أكثر سوءاً إلى مرحلة النضج، وألا تجد تعبيراً دراماتيكياً لها في السنة المقبلة. على هذه الخلفية، قد ينشأ في إسرائيل وهم التهدئة، لكن هذا الوهم يعزز التقدير بأن الوضع الراهن هو الخيار الأفضل بالنسبة إلى إسرائيل، ويمنع تركيز الجهود لتحسين وضع إسرائيل ومكانتها الإقليمية والدولية، ويمنع حصول تدهور إضافي.

- 'الأخبار'
سوق السلاح: تقليص نفقات وغير الحكوميّين &laqascii117o;يتقدّمون"

يواصل الشرق الأوسط كونه أحد الأسواق المهمة في العالم لبيع السلاح. شراء الأسلحة هو عملية بطيئة لا تؤدي إلى تغييرات في القدرات العسكرية لدى الدول بين ليلة وضحاها. لذلك، لا تزال الاتجاهات التي تبلورت في الأعوام السابقة والتي تتّسم بها عمليات شراء الأسلحة من قبل الدول الشرق الأوسطية سارية المفاعيل. تتضمن هذه الاتجاهات:
ـــــ شراء أسلحة أكثر حداثة وتطوراً، وخصوصاً من جانب الدول النفطية.
ـــــ هذه الدول تستثمر أيضاً في تطوير صناعاتها العسكرية المحلية.
ـــــ يلاحظ وجود تقليص في النفقات في معظم الدول لحساب تطوير الأسلحة القديمة الموجودة في حوزتها عوضاً عن شراء أسلحة جديدة.
ـــــ يواصل لاعبون غير حكوميين، مثل حزب الله وحماس، تطوير قواهم العسكرية شبه النظامية، مع احتياط كبير من الصواريخ وكذلك قدرات مضادة للدروع وللطائرات.
الدول ذات القدرات المالية المحدودة لا تستطيع أن تنافس في سوق الأسلحة المتطورة. ولذلك هي تتبنّى نظريات قتالية بديلة تقوم على مبدأ اللاتناظر وتعتمد أكثر فأكثر طرق حرب العصابات والإرهاب من جهة، وتسعى من جهة أخرى نحو الحصول على قدرات استراتيجية لاستهداف عمق أراضي العدو من خلال منظومات صاروخية وأسلحة دمار شامل.
تبقى الولايات المتحدة المزوّدة الرئيسية للسلاح في الشرق الأوسط. وتبذل روسيا جهوداً لتوسيع حصتها في السوق الإقليمية، إلا أن نجاحها محدود على هذا الصعيد. اللاعبون المهمون الآخرون هم دول الاتحاد الأوروبي، ويبرز من بينها فرنسا وبريطانيا. وتجدر الإشارة إلى أن الصناعات العسكرية المهمة تؤدي دوراً تتزايد أهميته في عدد من دول المنطقة. في هذا الإطار، إسرائيل وتركيا دولتان تمتلكان الصناعات الأكثر تقدماً، فيما تستثمر الإمارات العربية المتحدة جهوداً كثيرة في هذا الاتجاه. أما إيران، فهي تحاول أن تكون مستقلة قدر المستطاع في الحصول على الأسلحة، رغم أن قدرة صناعاتها، من الناحية العملية، أقل بكثير مما تعلنه رسمياً.
في ما يأتي خلاصة التطورات الأكثر أهمية في مجال التعاظم العسكري التي رُصدت أخيراً في دول المنطقة:
إيران : رغم أن إيران موجودة في ذروة مسار طويل من إعادة تسليح جيشها، ورغم الأنباء التي تُنشر عن الصفقات التي تبرمها مع روسيا بين الفينة والأخرى، فإن معظم هذه الصفقات لم تخرج إلى حيّز الفعل. الأهم بين هذه الصفقات هو التزوّد بمنظومة دفاع جوي بعيدة المدى من طراز PMascii85ـــــ1 Sـــــ300 . هذه الصفقة لم تنفذ بعد، ورغم أن جهات داخل روسيا تكرر أنها ملتزمة بتنفيذها، إلا أنه يبدو أن الضغوط الدولية ضد تسلّح إيران تعمل عملها على هذا الصعيد وتدفع روسيا إلى تأجيل تنفيذ الصفقة دون إلغائها كلياً.
في الوقت نفسه، تعزز إيران جهود التطوير والإنتاج المحلية لديها. في مجال الصواريخ البعيدة المدى، سجلت إيران تقدماً على مستويين: فقد تمكنت من تطوير صاروخ لإطلاق الأقمار الصناعية، &laqascii117o;سفير أوميد"، وهو صاروخ ثنائي المراحل يعمل بالوقود السائل حمل إلى الفضاء كبسولة الأبحاث &laqascii117o;كبوشقر" والقمر &laqascii117o;أوميد" في شهر شباط 2009. التطور الإضافي هو صاروخ &laqascii117o;سيموراغ" الثقيل لإطلاق الأقمار الصناعية الذي عُرض على الملأ قبل فترة قصيرة ويعمل بالوقود الصلب ويبلغ مداه ألفي كلم. هذا الصاروخ، الذي تطلق عليه أسماء مختلفة مثل &laqascii117o;قادر"، &laqascii117o;سجيل"، &laqascii117o;عاشوراء"، جُرّب للمرة الأولى في تشرين الثاني عام 2007، وبعد ذلك خلال شهري أيار وكانون الأول 2009، ومن المفترض أن يصبح عملانياً في غضون سنوات.
إن تقدير القدرات الحقيقية لإيران في المجالات الأخرى يعدّ مهمة أكثر تعقيداً. فمن جهة، الإعلام الإيراني يعلن دون توقف عن وسائل قتالية متطورة مثل الدبابات والمؤللات والمقاتلات الحربية والمروحيات والصواريخ المختلفة الأنواع (بحر ـــــ بحر، جو ـــــ جو، ضد الدروع) وغير ذلك. ومن جهة أخرى، يبدو أن إيران غير قادرة على إنتاج كل أنواع وطرز الأسلحة التي تتباهى بأنها تنتجها بنوعية ممتازة وبكميات كبيرة. من الواضح أن إيران تنتج عدداً من القذائف المدفعية، وكذلك الصواريخ المضادة للدروع وصواريخ بحر ـــــ بحر التي تستند إلى تكنولوجيا صينية وروسية. مع ذلك، لا دليل على أن إيران تنتج مقاتلات حربية ذات قدرات فعلية على مواجهة ساحة القتال العصرية.
إسرائيل : تحصل إسرائيل على مساعدات أميركية بقيمة تصل عام 2010 إلى 2.77 مليار دولار. هذا المبلغ مخصص بأكمله تقريباً للتعاظم العسكري. ووفقاً للاتفاق الذي أُبرم مع الولايات المتحدة في آب 2007، من المقرر أن تزداد قيمة هذه المساعدة بالتدريج، وستصل قيمتها الإجمالية في نهاية العقد عام 2018 إلى 30 مليار دولار. لذلك، إسرائيل أقل تأثراً من دول أخرى بالتغيّرات المحتملة في الوضع الاقتصادي العالمي والمحلي.
في أعقاب حرب لبنان الثانية، استثمر الجيش الإسرائيلي موارد مالية كبيرة في إعادة ملء مخازن الذخيرة الاحتياطية، وخصوصاً لدى سلاح الجو. وفي هذا السياق، اشترى أنواعاً أكثر حداثة من الذخيرة، مثل صواريخ GBascii85ـــــ39، وعدداً كبيراً جداً من الصواريخ الموجهة بأنظمة التوجيه من طراز JDMA. أما في ما يتعلق بصفقات الأسلحة الكبرى، فقد أنهت إسرائيل مسار استيعاب مئة طائرة قتالية من طراز &laqascii117o;سوفا" (Fـــــ16I)، كذلك استوعبت خمس طائرات من طراز &laqascii117o;نحشون" (Gascii117lfstream G550)، بعضها مخصص للمهمات الاستخبارية وتعرف في سلاح الجو باسم &laqascii117o;إيتام"، فيما البعض الآخر يستخدم لمهمات القيادة الجوية ومهمات الرقابة، وتسمّى في إسرائيل باسم &laqascii117o;شبيط". هذه الطائرات من صنع أميركي، وقد بدأت بالوصول إلى إسرائيل عام 2005 حيث زُوّدت هنا بمنظومات إسرائيلية مختلفة. وأعلنت إسرائيل نيّتها التزوّد بمقاتلات من طراز Fـــــ35 خلال العقد المقبل، إلا أن الصفقة لا تزال قيد التفاوض، ولا تزال تعترضها عقبات كثيرة. كذلك طلب سلاح الجو الحصول على تسع طائرات نقل متطورة من طراز Cـــــ130J، تقدر كلفتها بنحو 1.9 مليار دولار. ويتوجه سلاح الجو إلى استبدال طائرات التدريب من طراز &laqascii117o;تسوكيت" التي يستخدمها منذ أكثر من 40 عاماً بطائرة Texan II Tـــــ6 Beechcraft الأميركية (المسمّاة في سلاح الجو &laqascii117o;عفروني"). من جهته، طلب سلاح البحرية غواصتين من طراز &laqascii117o;دولفين"، من إنتاج ألماني.
وفي مجالات كثيرة، تستند إسرائيل في تسلّحها على جهود التطوير والإنتاج المحلية. أولاً، هي تبذل جهوداً كبيرة في تطوير منظومات مضادة للصواريخ البالستية والقصيرة المدى. وقد قررت إسرائيل شراء بطاريات &laqascii117o;حيتس" إضافية زيادة على البطاريتين الموجودتين في حوزتها. ومنظومة &laqascii117o;حيتس" تخضع في غضون ذلك لتطوير يتيح لها تسجيل نجاح أكبر في مواجهة تهديد الصواريخ البعيدة المدى. وتستثمر إسرائيل جهوداً في منظومتين دفاعيتين إضافيتين من إنتاج محلي: منظومة &laqascii117o;مقلاع داوود" لاعتراض الصواريخ البالستية والصواريخ المتوسطة المدى بين 40 و200 كلم، ومنظومة &laqascii117o;القبة الحديدية"، المخصصة لاعتراض الصواريخ القصيرة المدى مثل القسام وغراد. ومن المتوقع أن تنتهي مرحلة التطوير في &laqascii117o;مقلاع داوود" عام 2012، فيما يتوقع أن تدخل &laqascii117o;القبة الحديدية" حيّز الخدمة العملانية عام 2010.
ثانياً: تواصل إسرائيل تطوير قدراتها الفضائية: ففي عام 2007 أطلقت قمر &laqascii117o;أفق 7" الذي يفترض أن يستبدل &laqascii117o;أفق 5". وفي مطلع عام 2008، وبمساعدة منصة إطلاق هندية، أطلقت إسرائيل قمر الاستخبارات TecSAR الذي يتيح جمع معلومات استخبارية ليلاً ونهاراً في كل الأحوال الجوية. كذلك أُطلق قمر &laqascii117o;أفق 9" في حزيران 2010.
ثالثاً، تقريباً لا منافس لإسرائيل في مجال الطائرات غير المأهولة. وقد أدخل سلاح الجو الإسرائيلي إلى الخدمة أخيراً طائرات من طراز &laqascii117o;شوفال" و&laqascii117o;إيتان" القادرة على البقاء طويلاً في الجو وعلى ارتفاعات عالية. وكلتاهما مؤهلة لتنفيذ عمليات بعيدة المدى (أربعين ساعة أو أكثر) إضافة إلى مهمات جمع المعلومات والمسح. وإلى جانب الطائرات المسيرة الكبيرة، تزودت وحدات الجيش بطائرات مسيرة صغيرة تُستخدم في وحدات قتالية لمهمات جمع المعلومات &laqascii117o;وراء التلة" وعلى مسافات قصيرة (10 كلم). وقد اختير أخيراً طراز Skylark I LE التي تتمع بقدرة على التحليق على ارتفاع أعلى لتزويد وحدات إضافية به.
رابعاً، وسّعت إسرائيل عمليات التزود بأسلحة من إنتاج محلي للقوات البرية. إحدى العبر من حرب لبنان الثانية دفعت إلى أن يتزوّد الجيش بناقلة جند مصفحة من طراز &laqascii117o;نمر" الذي يستند إلى جسم الميركافا. إضافة إلى ذلك، ستُزوّد دبابات ميركافا 4 ومؤللات &laqascii117o;نمر" بمنظومات مضادة للصواريخ من طراز &laqascii117o;معطف الريح" و&laqascii117o;القبضة الحديدية".
سوريا : التغيّرات الرئيسية التي خضعت لها القوات المسلحة السورية تتمثل باحتمال حصولها على صواريخ &laqascii117o;فاتح 110" الإيرانية، إضافة إلى صواريخ أخرى بعيدة المدى بقطر 220 و302 ملم. ويبدو أن سوريا حصلت على قدرة إنتاج هذه الصواريخ بنفسها. وتشغّل قوات الدفاع الجوي السورية الآن على الأقل بعض منظومات سام الجديدة التي حصلت عليها من طراز &laqascii117o;ستيرلتس" و&laqascii117o;بانتسير أس 1".
لبنان : في أعقاب حرب صيف 2006 تخضع القوات المسلحة اللبنانية لتغييرات جوهرية. فقد حصلت على مساعدات أجنبية مهمة، وجُدّدت المعدات القديمة، كما حصلت على معدات جديدة معظمها عبر الهبات. ويشمل ذلك تسع مروحيات من طراز غازيل، 300 آلية من طراز هامفي (وينتظر أن تُسلّم 300 إضافية) من الولايات المتحدة، وقوارب دورية من ألمانيا والإمارات العربية المتحدة. وقد تضاعف عدد قوات الأمن الداخلي إلى نحو خمسين ألفاً. أما حزب الله، فقد جدد مخازنه الصاروخية القصيرة والمتوسطة المدى وصواريخ متطورة مضادة للدروع من النوع الذي استخدم بكثافة خلال حرب 2006. كذلك قد تشمل ترسانة حزب الله بعض صواريخ من طراز &laqascii117o;فاتح 110" الموجهة وأسلحة دفاع جوي.


- صحيفة 'النهار'

مع رمزية رحيل كامل الأسعد:علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي والحاضر [6]..'أمـــــل' المــتــأرجــحـــــة
منى فياض(استاذة جامعية):

باشرت 'قضايا النهار' محوراً تحت عنوان 'مع رمزية رحيل كامل الأسعد: علاقة الشيعة بالكيان اللبناني بين الماضي والحاضر'. بعد تقديم جهاد الزين (طائفة بين ارتباكين... ومغامرة كبرى- 25/8/2010)، ساهم طلال عتريسي (ماذا يريد الشيعة من دولتهم - 25/8/2010)، وسعود المولى (مشروع الإمام الصدر المستقبلي أصبح هو أيضاً من الماضي- 29/8/2010)، ونجاة شرف الدين (سوريــا والشيعــة اللبنانيون – 1/9/2010)، وطلال خوجة (لعنة الموقع - 3/9/2010)، والشيخ علي خازم (الشيعة بين 'الولاية' والمواطنة- 6/9/2010).
وتحسّباً لاحتمالات تحديد اليوم الأول من عيد الفطر نقدم الى اليوم مساهمة منى فياض بدل بعد غد الجمعة.
تشكل وفاة الزعيم التقليدي كامل الاسعد غياباً لآخر ممثل للعائلات التقليدية الشيعية في السلطة في لبنان. فالحرب الأهلية اللبنانية أحدثت تغييرات مهمة على صعيد التمثيل السياسي في السلطة؛ بحيث انقرضت بعض العائلات السياسية بينما برزت غيرها، مثل 'العائلة السياسية' لآل الحريري. فبينما نجد أن العائلات السياسية التي انبثقت عن أسر رجالات الاستقلال ظلت محافظة بنسب متفاوتة على وجودها السياسي وبحسب ظروف كل عائلة (الصلح، كرامي، فرنجية، سلام، ارسلان، شمعون، الجميل...) نجد أن العائلتين الشيعيتين (عسيران وحمادة) ضعف تأثيرهما السياسي إذا لم نقل أنه تلاشى.
إذن كانت الحرب الأهلية أحد مسببات نقل السلطة عند الشيعة من العائلات التقليدية (الأسعد، عسيران، الخليل، حمادة، الزين...) الى التشكيلات السياسية الحزبية ('أمل'، 'حزب الله'). أقول أحد مسببات نقل السلطة لأن هذه السيرورة سبق وأن بدأت عبر وسيط تمثل في حركة الإمام المغيب موسى الصدر منذ الستينات، والذي ناضل على خطين: الأول في مواجهة العائلات السياسية الاقطاعية التي تخلفت عن القيام بدورها التنموي طوال مدة مشاركتها في السلطة، والثاني في مواجهة الدولة، متمثلة بالمارونية السياسية التي هيمنت على مقدرات الدولة مهمشة الأطراف ومهملة لها. الأمر الذي انعكس حرماناً على الشيعة بشكل أساسي لحصرية تواجدهم في تلك المرحلة في الأطراف، جنوب وبقاع، بينما توزع تواجد السنة بين تجار في المدن وفلاحين في عكار ما خفف من الحرمان.
وفيما أوجدت هذه الحرب، بظروفها المعقدة، من جهة حروباً لا تزال مستمرة على الزعامة عند الطوائف المسيحية، ساعدت من جهة أخرى على بروز اتجاهات سياسية تحاول مأسسة نفسها واعطاء نموذج غير عائلي (تراجع الامكانية في حزب الكتائب مع اغتيال الوزير بيار الجميل، ولا تزال رهناً بالتطورات لدى القوات ولم يبدُ أنها نجحت لدى التيار العوني الذي تجعله سياسات زعيمه متجهاً إلى غلبة التحول الى زعامة عائلية)؛ وفيما أبقت على شكل من التنوع والمشاركة موجوداً عند الطوائف الاسلامية الأخرى مع هيمنة عائلية؛ نجد انها انتهت عند الشيعة إلى إيجاد هيمنة متماسكة ومتسلطة بشكل متزايد للثنائية الحزبية الشيعية، 'أمل' و'حزب الله' مع غلبة واضحة لهذا الأخير. لكن ذلك لم يمنع بروز تململ في النسيج المحلي المكون من العائلات المتوسطة عبّر عن نفسه بخجل في الانتخابات البلدية الاخيرة، ولا نعرف إلى ماذا سيفضي.
لكن اعتبار غياب الأسعد كمحطة يكمن في أنه يطوي أحد آخر رجالات الدولة بالمعنى التقليدي الكلاسيكي ممن رفضوا اللجوء الى الميليشيات. فهو أحد أرستوقراطيي المرحلة السابقة على الحرب من ممثلي الاقطاع السياسي في السلطة التي ضمت إلى جانب الزعامات التقليدية ما عرف بالاوليغارشية المالية او البورجوازية الحاكمة او المارونية السياسية... والغريب (وبعد مراجعتي للمقالات التي وقعت تحت يدي عن الراحل خاصة مقابلته في 'الحياة') أنه وقع في تناقض عميق خلال ممارسته السياسية الحافلة والتي طالت لعقود؛ فهو سليل الإقطاعية بما تعنيه من صفات تقليدية وسلوك امتثالي وتمثيلي للجماعة، يبدو أنه لطالما تصرف انطلاقاً من قناعات وإطيقا فردانية بالمعنى الحديث للكلمة متأثراً ربما بدراسته المبكرة للحقوق في باريس. فالتنظيرات الحديثة حول بروز الدولة تأخذ هذه النواحي الشخصية بعين الاعتبار، فبالاضافة الى وزن العوامل الاقتصادية والتطور السياسي، هناك العوامل النفسية والتطور الذاتي للأفراد الذي يلعب دوره في إرساء مؤسسة الدولة - الحديثة جداً في التاريخ- ومن هنا يرجع البعض حلول الدولة الحديثة هذه، من بين عوامل أخرى، إلى بروز الكائن الفرد وانطوائه على نفسه وعدم تصرفه كحيوان اجتماعي على حد تعبير أرسطو في تعريفه للإنسان.
ربما هذ يفسر سلوك الأسعد في تغليبه لكونه جزءاً من 'الدولة اللبنانية' على تمثيله الحصري لمصالح الطائفة الشيعية وحاجاتها من إنماء وتوظيفات وما شابه. وربما هذا ما أحبط التوقعات التي كانت منتظرة منه، في وقت كانت هيمنة المارونية السياسية تمنع الإنماء المتوازن للمناطق من الجنوب الى الشمال، فعكار لا تزال ترزح تحت الفقر والتأخر في النمو الاقتصادي والاجتماعي حتى الآن. لا أقول أن كونه 'الفرد' هو العامل اليتيم في سلوكه، ذلك أن من عوامل هذه الفردانية أصوله الاريستوقراطية - الاقطاعية ونشأته كزعيم منذ صغره الأمر الذي يورث قدراً كبيراً من النرجسية ومن التناقض والتعالي في السلوك. ذُكر مؤخراً امامي في نقاش بين مثقفين أن ممارساته كانت 'ديموقراطية' مع غير الشيعة، وفي هذا إشارة إلى نوع من الازدواجية تطال سلوكه عامة، فهو  برلماني عصري في انتمائه الى الدولة، عمل على ترسيخها وإرساء قواعد سلوك برلمانية تحترم الأصول الديموقراطية في المناسبات الصعبة التي مرّ بها لبنان، وأريستوقراطي إقطاعي رجعي في تعامله اليومي وفي انتمائه الطائفي والاجتماعي. ففرديته مختلفة عن فردية المثقف المهجوس بفكرة العدالة الاجتماعية وحاجات المناطق الطرفية. فأهمل منطقته خاصة وغفل عن دوره في إنمائها كما درجت على فعل ذلك الزعامات الأخرى وبنسب متفاومة في ظل نظام طائفي. وللإنصاف ربما كان ضعف موقعه في التركيبة السياسية للنظام ، الذي تعدل في الطائف، هو سبب آخر.   
وهذا ما أسس لبروز الامام موسى الصدر في وجهه ووجه زعامات العائلات الاخرى وانتهى به الأمر إلى تأسيس حركة 'أمل' التي آلت الى الرئيس بري الذي، ومع كونه رجل دولة في مناسبات معينة، إلا أنه مارس سلوكاً معاكساً لسلوك الأسعد بإعطائه الأولوية للولاء للطائفة من جهة وللانخراط في سلوك السياسة الغنائمية بعد أن صار جزءاً من الطبقة الحاكمة اللبنانية.
الأمر الذي يقودنا إلى عقد مقارنة بين الزعامتين ، فماذا نجد؟ أن الحرب الأهلية أفضت في خاتمتها في نهاية الثمانينات وبعد إرساء اتفاق الطائف إلى حلول الزعامة الجديدة، القائمة على الحزبية الجماعية ، محل القديمة الاقطاعية المتفردة. لكن حركة 'أمل'، التي تأسست كحركة للمحرومين وكانت جزءاً من الحركة الوطنية التقدمية في بداية الثمانينات، تحولت لتصبح في نهايتها جزءاً من 'السيستام' السياسي اللبناني، الذي أرادت تحسينه، فانخرطت فيه بكل مساوئه بما في ذلك الفساد والزبائنية وانطبعت بكل الممارسات التي تأسست حركة الإمام الصدر لمحاربتها فأقامت نوعا من الهيمنة البديلة من هيمنة العائلات الاقطاعية التقليدية وصارت أحد ركنين وحيدين للتمثيل السياسي الشيعي. الأمر الذي يعني استبدال هيمنة تقليدية تترك هامشاً للتعددية ولنوع من المشاركة مهدت لبروز تيارات علمانية ويسارية من شباب وشابات الطائفة إلى هيمنة أخرى، إضافة الى كونها مسلحة، مطبوعة بطابع ديني مذهبي تحتكر التمثيل السياسي وتستبعد الآخر وتمنع أي مشاركة  لغير محازبيها.
الشريك الآخر في هذه الهيمنة هو 'حزب الله'  الذي انخرط في السياسة الداخلية بعد التحرير في العام 2000 الذي ازداد بعد حرب تموز في العام 2006 وبرز كلاعب أساسي في البلد تلتحق به 'أمل'. وبعد أن كان متفرغاً للمقاومة انتهى به الأمر إلى الإمساك الفعلي بالقرار السياسي الحصري للطائفة الشيعية مع إعطائه لنفسه صفة القداسة والتنزيه عن الخطأ بالرغم من كل ممارساته المتأخرة التي أقل ما يقال فيها بعدها عن القيم الدينية الحقيقية التي استرشدها الامام الحسين الذي يحاول احتكار تمثيله.
واللافت أنه ومع ازدياد حصة الشيعية السياسية في السلطة ومشاركتها الفعلية في القرار إلى حد محاولة مصادرته في مناسبات عدة وتحت أغطية واهية، ازداد بعد الشيعة عن الدولة كما برز الإعلان عن الشعور بالحرمان كشعار لتبرير كل الممارسات غير المؤسساتية واللادولتية التي يقوم بها الثنائي الشيعي. وصار تخويف الجمهور من العودة إلى سابق عهد الحرمان والتهميش هو المبرر للحفاظ على التماسك والعصبية المذهبيين في مواجهة الشركاء الآخرين وفي حماية الدويلة داخل الدولة.
لكن السؤال كيف تحول التيار الذي بدأ مع الامام الصدر، من منضوٍ تحت سقف الدولة ومدافع عنها، إلى تيار يساهم في إضعاف هذه الدولة وتهديدها؟
يسود الخطاب التنظيري الشيعي السائد مقولات عدة منها أن احد اهم أسباب الأحداث التي مرت بلبنان تكمن في الحرمان المزمن لمناطق الأطراف وضواحي بيروت والى الخلل القائم بين القوى الطائفية المكونة للسلطة في حينها، في إشارة الى مشكلة التهميش في ما يتعلق بالعلاقة بالدولة؛  وأن حركة الاعتراض الشيعية حصلت أساساً من أجل رفع الغبن والحرمان عن الطائفة الشيعية والمطالبة ببرامج الانماء المتوازن في السلطة من اجل بناء دولة تؤمن بحقوق مواطنيها وتساهم ببناء دولة عادلة...
لكن ما يعلق في ذهن الفرد الشيعي المتوسط، حتى غير المستفيد مباشرة من مكاسب الثنائية الشيعية، أن علاقة الشيعة بالدولة كانت دائماً واهية، ويعطيك أمثلة على ذلك: الطفّار في البقاع، إهمال الجنوب والنقص في تنميته، وجود السلطة القامعة عبر الدركي والضابط الذي 'يدعس الناس' بسبب أن الجنوب ظل طويلاً منطقة طوارئ ومنطقة حرب يمتلئ بحواجز الجيش. والمثل الآخر على إهمال الجنوب إهمال تنفيذ مشروع الليطاني الذي كان يمكن أن يجعل من الجنوب جنة. كذلك من مآخذ الجنوبي على الدولة اللبنانية عدم وضوح سياستها تجاه إسرائيل، فهي من ناحية هادنت الفلسطيني وأعطته أرضاً لبنانية بسبب اتفاق القاهرة وجعلت منه 'فتح لاند' وتسببت بحرمان الجنوب من الدولة. هذا ما ترك الجنوبي وحيداً في قتاله ضد إسرائيل خلال 22 سنة. في إغفال تام بأن هذا التقدمي الشيعي، الذي يعترض الآن، كان من ضمن الحركة الوطنية التي ساهمت بإدخال السلاح الفلسطيني إلى لبنان وبإضعاف الدولة، لكن هذا نقاش آخر.
 فما هو تفسير  ذلك؟ وما أصل هذا الشعور بالغبن والاضطهاد عند الشيعي؟
لقد تأثرت علاقة الشيعة بالدولة بعدة عوامل، منها الخلفية التاريخية التي راكمت مشاعر الغبن عبر حقب التاريخ، منذ ايام الخلافة الاولى والنزاع الذي حصل حول أحقية الامام علي بها الى مصرع الحسين؛ إضافة الى الاضطهاد الذي عانى منه الشيعة ايام العثمانيين والذي شكل الخلفية الأولى لتواصل علماء الشيعة من جبل عامل مع الصفويين وساهم بتشييع إيران نفسها؛ مثلما ساهم استبداد صدام وقمعه للشيعة في العراق على إعادة انفتاحهم على إيران الإسلامية. من هنا مراكمة الشعور بالاضطهاد والحرمان والخلط بين أنواع الحرمان التاريخي القديم والحديث وتكوينهما الخلفية النفسية والاجتماعية لمشاعر الحرمان بعد الاستقلال اللبناني، كما التماهي مع الشيعة المضطهدين في الدول العربية الأخرى.
فماذا حصل عند لحظة الاستقلال؟ وإذا كانت الدولة اللبنانية ساهمت في حرمان الشيعة، فعلياً وعن غير قصد، في سياساتها غير المتوازنة، فهل ساهمت حقاً في اضطهادهم خصوصاً كما يشيّع الآن؟
في لحظة الاستقلال كان الشيعة في معظمهم في الاطراف، أي الريف، بما يعنيه ذلك من نمط ومستوى عيش مختلفين عن العاصمة والمدن الكبرى. بينما السنة كانوا تجارا في المدن مع ما يعنيه ذلك من فائدة ومكاسب. وجاء احتلال فلسطين في لحظة لم تكن الدولة اللبنانية الحاصلة حديثاً على استقلالها في العام 1943 قد دعمت ركائزها. وكان لهذا الاحتلال أكبر الأثر على الجنوب وسكانه لجهة انقطاعهم عن المجال الحيوي، الاجتماعي والاقتصادي، في تواصلهم التاريخي مع ولاية عكا الذي كان ربما يفوق صلتهم  بولاية بيروت. ساهم هذا الانقطاع من ناحية، واللجوء الفلسطيني الى لبنان والجنوب خاصة من ناحية أخرى، في إحداث موجات هجرة متتابعة بحثاً عن الرزق، إما إلى بيروت كعمال غير مهرة و'على البور'، أو إلى المهاجر من إفريقيا الى الخليج والأميركيتين. الهجرة الأولى ساعدت في تعميق شعور التهميش والحرمان بسبب تعرضهم للاستغلال و للمعاملة الفوقية؛ فيما ساهمت الثانية في تحسين أوضاع الشيعة وإضعاف علاقتهم بالاقطاع السياسي وبالعائلات التقليدية.  كذلك نتج عن الهجرة الأولى وظروف مختلفة، وبسبب الطفرة العلمانية، انضمام الجيل الشاب الى الاحزاب العلمانية والمنظمات الفلسطينية ما أحدث تغيرات راديكالية في الجماعة الشيعية ساهم في ابتعادها عن الاقطاع السياسي والتمييز الطائفي. انطبع إذن الحراك الشيعي في الستينات بالعلمانية والتحرر مستفيدين من المشاركة بالأحزاب ومن الإنماء المتوازن الذي قامت به الشهابية في نشر المدارس في الارياف.
في موازاة ذلك برز الامام موسى الصدر أيضاً منذ الستينات وقد تحدث باسم الشيعة كفئة وقام بتأسيس حركة المحرومين و نشط في السبعينات من أجل رفع الحرمان عن الأطراف المحرومة  وخاصة الطرفين الشيعيين فيها أي البقاع والجنوب.
إذن تتلخص العوامل التي ساهمت في بروز الشيعية السياسية بالتالي:الاحتلال الإسرائيلي والواقع الاجتماعي والسياسات المحلية غير المتوازنة في محطات 48 و70 والطفرة الديموغرافية والانتساب الى الاحزاب العلمانية والتعليم او الطفرة الثقافية والاعتداءات الاسرائيلية المتكررة مع اهمال الدفاع عن الجنوب وعقد اتفاق القاهرة ما أدى إلى مجيء المنظمات المسلحة الفلسطينية الى لبنان وخلق 'فتح لاند'، ما ساهم باندلاع الحرب الاهلية، إلى جنب الاعتداءات الإسرائيلية بين 76 و78 و79 إضافة إلى اغتيال جنبلاط ودخول النظام السوري على الخط وإيجاد الظروف لهيمنته اللاحقة مع تدخل المحاور الاقليمية، وتغييب الامام الصدر وتأثير الثورة الايرانية ومن ثم اجتياح اسرائيل... هذه جميعها عوامل اكثر من كافية لإحداث التغير الذي حصل على مستوى الطائفة الشيعية.
حول الثنائية الشيعية، وفي ما يتعلق بحركة 'أمل' نجد أن أهم ما نتج عن اختفاء الإمام الصدر كان تصليب عودها والالتفاف حولها بالاضافة الى الدور الذي لعبه الاعتداء الاسرائيلي في العام 78 والاجتياح في العام 82 في ما بعد. اما الدعم الخاص الذي عرفته الحركة فكان من قبل الطبقة الوسطى الشيعية الصاعدة، ومن قبل الأعداد الكبيرة من الشيعة التي ساهمت الاعتداءات الإسرائيلية في تهجيرهم  ووجدوا انفسهم محصورين بين اسرائيل من جهة والمنظمات الفلسطينية (والذي عبر عن نفسه تأهيلا خجولا بالإسرائيليين سرعان ما تحول الى مقاومة شرسة لهم). وشكلت الضاحية بشكل خاص مكان تجمعهم ، لكنها سرعان ما أصبحت معقلا لـ'حزب الله'. فبدأت منذ الثمانينات موجة انحسار اليسار واخراج المنظمات المسلحة الفلسطينية وبرز 'حزب الله' الذي لعب دوراً في القضاء على قيادات فكرية شيعية علمانية وحصلت المنافسة بين الحزب وحركة 'امل' بعد قيام الأخيرة بحرب المخيمات لضبطها ولعدم السماح للمنظمات الفلسطينية بالعودة الى لبنان. وحتى قبل حرب المخيمات كانت قد برزت تناقضات مع المسلحين الفلسطينيين الذين شكلوا نوعا من تهديد للشيعة بسبب سلوكهم الذي شكل نوعا من تعد

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد