ـ 'السفير'
محاكمة سياسية
سليمان تقي الدين:
في كل هذا الضجيج السياسي هناك مَن يريد أخذ البلد بالقوة من غير حساب لمكوّنات شعبه ولمصالح ناسه وحقهم في الأمن والاستقرار والعدالة والعيش الكريم. الشعور بالقوة والمغالاة فيها من أي مصدر أتى هو خروج عن قواعد العيش المشترك مثلما هو خروج عن منطق الدولة. رضخ معظم اللبنانيين لإدارة الوصاية العربية المشتركة للعسكر والمال عقدين لأنهم كانوا يشترون الأمن كأولوية وطنية بعد تجارب الحرب الأهلية المريرة.
لأن منطقنا السياسي هو هذا المنطق تتعارض القضايا الوطنية والإنسانية إلى حد التناقض الرهيب. نمارس السياسة كأنها عملية تهريب ضخمة لممنوعات عند الفريق الآخر. المقاومة قيمة وطنية والعدالة الحقيقية كذلك، والإصلاح شرط ضروري وملحّ، لكن لا تتعايش هذه العناصر المهمة تحت سقف جمهورية الجمهور فيها مأخوذ إلى مخاوف وأوهام وعصبيات وأحقاد حتى صارت الحياة الوطنية مسلسلاً من النكايات والتزريك ومن المكائد المتبادلة. لقد صار الصراخ السياسي في وسائل الإعلام وسيلة لقتل الحرية. فلم يعد أحد يعرف حدوداً لجمهوره، ولم يعد أحد يدرك أن ما يعلنه يحرّك المشاعر في كل بيت، وأن الكلمة الخبيثة أكثر تأثيراً من صدى السلاح. إذا كنا فعلاً نقاوم الجريمة فهي في سياسات التحريض عليها، على ارتكابها بالعنف المعنوي والمادي الموصوفين بحق استقرار البلد ووحدته وسلامته الوطنية وتقدمه الاجتماعي.
كم نحن بحاجة اليوم لمحاكمة أربعة عقود من الأزمات الساخنة والباردة. &laqascii117o;الحقيقة" التي صارت ملهاة للناس تكمن في القراءة السياسية للارتكابات المتمادية بالانقلاب على الميثاق الوطني والدولة، بالتعامل مع العدو والاشتراك معه في جرائم ضد الإنسانية وضد الأمن الوطني، في المجازر الطائفية والنهب المنظم لموارد الدولة ومرافقها والتسلط على حقوق الناس بتزوير القانون أو بسلطة الميليشيا.
كم نحن بحـاجة للبــدء في ملاحقة شهود الزور في محاولة تزوير إرادة البلد عبر المشاركة في القرارات الدولية، والانضمام إلى محور الاجتياح الغربي للمنطقة، والتعاون على محاصرة سوريا والتدخل في شؤونها.
ولنسأل عمّا إذا كان ممكناً طرح شعار العدالة لو نجح الانقلابيون الأوائل في التغيير، وكم من الضحايا كانوا سيدخلونهم في المحرقة الأميركية ـ الإسرائيلية!؟
لو كنا في دولة قانون لحدثنا بلغته. أما وأن لا أحد من هذا الطاقم السياسي يعنيه القانون فمطلب الناس أن تُحترم عقولها ولا يعتدى على كراماتها ومشاعرها. تطلعوا إلى كل لبنان واللبنانيين فستجدون الحقيقة والعدالة والكرامة الوطنية والإصلاح.
ـ 'السفير'
غارة إلكترونية
ساطع نور الدين:
الاختراق كان أكبر مما أعلنت طهران رسميا حتى الآن. وأضراره لا يمكن حصرها او تقديرها بسهولة. وهو لم يكن من عمل هواة أجهزة كومبيوتر وشبكات إنترنت. الأقرب الى الواقع أنه كان جزءا من الحملة الأميركية والإسرائيلية المعلنة على إيران. وأداة من أدوات الحرب البديلة التي قررت واشنطن شنها في أعقاب التمديد للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في حزيران العام 2009.
تتضمن خطط تلك الحرب المعروفة والمنشورة في وسائل الإعلام الأميركية، والتي بدا للبعض أنها طويت في أعقاب اعتراف إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، خلافا للموقف الاوروبي الغربي يومها، بفوز نجاد في الانتخابات الرئاسية، دعم الحركة الإصلاحية الخضراء التي كادت تقود المرشح مير حسين موسوي إلى الرئاسة، بالمال والسياسة والإعلام، عبر تعزيز البث الإذاعي والتلفزيوني الموجه إلى الجمهور الإيراني وشن غارات إلكترونية على المواقع الحكومية الإيرانية، لا سيما منها شبكات الاتصالات التي بنتها عليها شركة سيمنز الألمانية والتي اتهمت بأنها ساهمت في فرض الرقابة على هواتف وكومبيوترات الإصلاحيين خلال احتجاجاتهم على النتائج الانتخابية، فضلا عن مواقع الأمن والبنى التحتية والمنشآت الصناعية والنووية الإيرانية.
كل الدلائل تشير إلى أن ما تعرضت له إيران الأسبوع الماضي، كان غارة إلكترونية معادية، تمثلت في توجيه الفيروس &laqascii117o;ستوكس نت" إلى الشبكات الإيرانية الداخلية، والتسلل إليها والتأثير في عملها. وهو ما تم بالفعل، حيث اعترفت طهران صراحة بأن الفيروس أصاب عشرات آلاف الكومبيوترات، لكنها أشارت إلى أن معظم هذه الأجهزة شخصية وغير مرتبطة بالشبكات الرسمية، وبالتالي فإن الأضرار كانت محدودة جدا، ومعدومة بالنسبة الى البنى التحتية الرئيسية لا سيما النووية.
توقيت الغارة لم يكن عبثا، وهي جاءت في الوقت الذي كان فيه الرئيس نجاد في نيويورك يدعو العالم إلى الاستعداد للحظة سقوط الامبراطورية الأميركية وانهيار النظام الرأسمالي الغربي، ويوجه اتهاما عجيبا، ومسيئا إلى تنظيم &laqascii117o;القاعدة" وجمهوره، بأن الحكومة الأميركية كانت تقف وراء هجمات 11 أيلول العام 2001، لأنها كانت تريد احتلال العالم الإسلامي وتعزيز وضع الاقتصاد الأميركي... مع أنه ينسب للغزو الأميركي لأفغانستان والعراق الكثير من الأهداف، عدا عن هدف الاحتلال الذي لا يريده الأميركيون ولا يتحملون تبعاته، أو هدف الاقتصاد الذي تردى بفعل الإنفاق العسكري الهائل كما بفعل الخلل في التنظيم الداخلي.
لم تؤد الغارة إلى الاختراق الشامل الذي يؤدي إلى شل الشبكات المعلوماتية الإيرانية وربما ايضا الى التحكم بها من الخارج. لكن المؤكد انها كشفت عن استهداف جدي لتلك الشبكات ووسائل حمايتها، يتخطى تلك الاختراقات التي تتعرض لها الشبكات العاملة حتى في أميركا نفسها، ويشكل ترجمة حرفية للسياسة الأميركية الساعية إلى تغيير النظام في إيران من الداخل ومن دون حرب يتورط فيها الجنود الأميركيون الذين يخوضون معارك أشد إلحاحا وأهمية في مختلف الدول المتاخمة للحدود الإيرانية.
يصعب التخيل أن مثل هذه الغارة يمكن أن تهز استقرار النظام الإيراني، لكن الحروب الإلكترونية لم تعد خيالية أبدا.
ـ 'السفير'
قلم من رصاص
عاصم ستيتيه:
ولي دم الشهيد ينتظر، وأولياء دماء الشهداء الذين سقطوا معه ومن بعدهم ينتظرون، والمقاومة المستهدفة تنتظر، وشعب لبنان بانتظار ما بعد القرار الظني وإثمه، والمعادلة خطرة، ولبنان على المحك، فإما البقاء في جنات النعيم أو الولوج إلى نار الجحيم، لا برزخ يفصل بينهما، فهما يلتقيان، وهذا الالتقاء ينتظر هو الآخر الصاعق الذي سيفجر لبنان، لأن المتهمين زوراً، لو اتهموا، سيقولون إن ما عجزت إسرائيل عن الوصول إليه حرباً تحاول الوصول إليه عبر القرار الدولي للمحكمة. فالقضية إذاً هي مسيسة حتى العظم والجريمة هي سياسية بامتياز. وبعد القرار وبه سيفرّق دم الرئيس الشهيد على القبائل، إلا اذا منعت ذلك معجزة من السماء الزرقاء. إن أبناء هذا الوطن المعذب لم يصلوا بعد إلى مرحلة النضوج السياسي التي تجعلهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وكأنهم بحاجة دائمة وملحة إلى دولة راشدة تحكمهم. لقد أنقذته سوريا من نفسه الأمارة بالسوء دائما وأبداً، وكان قائدها الحكيم يحكم دولتين في وقت واحد، لكن لبنان لم يعتبر وعاد إلى ما كان عليه مرة ثانية يصغي إلى نفسه الأمارة بفضل أبنائه، فيستنجد بالسين والسين لتهبا إلى نجدته مرة أخرى. واليوم شعب لبنان بكامله يناشد سوريا والمملكة العربية السعودية برئيسها وملكها لإنقاذه وشعبه من هذه المعادلة الخطرة التي ستجعله يصطدم بجبل جليد المحكمة الدولية، وكأن هذا الشعب ذاهب إلى المجهول على متن سفينة التايتنيك التي تشق عباب الأيام في محيط عميق يلفه الضباب وتسبح فيه أسماك القرش الكبيرة المنتظرة أسنانها بشغف لتعمل في نهش لحم شعبه، على الرغم من أن من يقود هذه السفينة اليوم قبطان متمرس يحاول جاهداً وبكل ما أوتي من قوة أن يجنب لبنان الاصطدام بجبل القرار الظني للمحكم الدولية.
من اتخذ القرار بقتل لبنان وشعبه ولماذا ولمصلحة من؟ وهل أصبحت الدول الصغرى تخيف الدول الكبرى وتهدد وجودها؟ هل أفغانستان والعراق يهددان وجود أميركا؟ وهل قتل الرئيس الحريري كان للقضاء على المقاومة؟ لأن وجودها في لبنان ومن لبنان يهدد وجود اسرائيل؟
إن شعب لبنان المبحر قسراً على متن تايتنيك إلى المجهول ينتظر ثمن دماء الشهداء كل الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عنه، فهل سيكون هذا الثمن اغراق لبنان وشعبه في محيط الدماء هذا؟ ان الرئيس سعد الحريري المعني الأساسي في هذه المأساة الكبرى وحده يملك قوارب النجاة للبنان وشعبه، لو صدمت السفينة لا قدّر الله جبل جليد المحكمة الدولية وغرقت!
ـ 'النهار'
هل حدّد سليمان موقفه النهائي؟
سركيس نعوم:
قد يكون رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان فاجأ اللبنانيين على وجه الاجمال وقِسْماً لا بأس به من متعاطي الشأن العام في البلاد. لكنه لم يفاجىء الكثيرين من متابعي سياسته والمواقف منذ انتخابه رئيساً بعد اتفاق الدوحة عام 2008، والكثيرين من متابعيه إبان قيادته للجيش وخصوصاً في السنوات الصعبة التي اعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فهؤلاء توصلوا الى استنتاجات وربما الى اقتناعات تشير الى الرئيس سليمان 'رجل آدمي' كما يقال في العامية، ويميل الى الحكمة والتعقّل، ولديه رغبة كامنة في تغيير الكثير من الممارسات التي شهدها وعاشها، واخرى شهد عليها منذ توليه قيادة المؤسسة العسكرية، اي اثناء ما عرف بـ'الوصاية السورية' وبعد انتهائها رسمياً ثم عودة ملائكتها بعد نحو سنتين في ظروف محلية واقليمية ودولية معروفة.
لكن هؤلاء عرفوا من زمان ان الرجل لن يواجه ربما الا في حال الاضطرار. وقد برروا له ذلك بسبب عدم امتلاكه الإمكانات التي تدفعه الى اتخاذ قرار المواجهة، وبسبب عدم قدرته على الاستناد الى المؤسسة التي قاد والتي منها خرج الى بعبدا لمعرفته بأوضاعها وتركيبتها غير المختلفة عن تركيبة البلاد. وعرفوا ايضاً انه لا يحاور او لا يستطيع ان يحاور رغم رغبته في ذلك، او بالأحرى لا يستطيع ان يقود حواراً ناجحاً أو ان يفرض حواراً كهذا. ولا يعود ذلك الى نقص في اهليته كما يتصور البعض، بل الى حاجة الحوار الناجح الى اقتناع الاطراف المشتركين فيه به، والى التزامهم نتائجه ومبادرتهم الى تطبيقها او مساعدة الدولة على تطبيقها، وحاجته ايضاً الى 'قوة' ما معنوية او مادية او معنوية ومادية معاً يستعملها الرئيس لدفع الحوار نحو خواتيم ايجابية. والواقع يؤكد ان الطرفين المحليين في الصراع الداخلي الدائر غير راغبين في التفاهم فعلياً، وان كلاً منهما يعتمد سياسة كسب الوقت والتمهيد في السياسة والشارع وفي المنطقة كما في العالم لفرض رأيه وسياسته ومواقفه على الآخر. وهذا الصراع الذي هو ايضاً اقليمي – اقليمي واقليمي – دولي، لا مجال فيه لتسوية الآن وفي المستقبل المنظور على الاقل. وعندما يحين اوان تسوية الجوانب الخارجية منه بتفاهم يؤمن مصالح جميع اطرافه فان التسوية الداخلية التي ستعقبه ستكون مختلفة، ذلك انها ستكرس في شكل او في آخر غلبة فريق على آخر في الجوهر والمضمون رغم 'اجتهادها' للمحافظة على التوازن في الشكل.
انطلاقاً من ذلك كله تكوّن عند المتابعين المشار اليهم اعلاه انطباعان. الأول، ان همّ الرئيس سليمان صار مركّزاً على إكمال ولايته، رغم انها لا تزال في اول ثلثها الثاني، بحد ادنى من الهدوء ومن دون احراجات كبيرة، وبعيداً من العنف والفتن المذهبية التي يمكن ان تطلق حروباً بين الاشقاء في الشوارع والأزقة والزواريب، كما بين المناطق. اما الانطباع الثاني فهو انه 'سيصفّ' مع الفريق الذي يخرج رابحاً من الصراع الدائر في لبنان سواء في شقّه الداخلي او في شقّه الخارجي، وبذلك ينقذ نفسه وربما ينقذ الجمهورية وتحديداً مظاهرها في رأيه.
هل وصل رئيس الجمهورية سليمان الى اقتناع بأن مرحلة محاولات الحسم في الداخل اللبناني قد بدأت، وتالياً بأن مرحلة اتخاذه المواقف التي تنقذه او تحميه او تحمي الجمهورية قد صارت على الابواب، وبأن عليه الاستعداد لها؟
يؤكد المتابعون انفسهم ان سليمان لا يخوض في هذه الأمور مع أحد ربما باستثناء قلة قليلة من القريبين منه. ولذلك فانهم لا يملكون جواباً جازماً عن هذا السؤال. لكنهم يلفتون الى ان ما في مضمون المقابلة التي اعطاها الرئيس سليمان الى تلفزيون 'الجديد' والتي بثها اول من أمس ما يشير الى انه صار قاب قوسين أو أدنى من انهاء استعداداته لاتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً له وللبلاد. ففي ذلك الكلام دعا المحكمة الدولية الى 'استعادة صدقيتها من خلال اظهار استقلاليتها وابتعادها عن التسييس والتحقيق في كل الاحتمالات المطروحة والتدقيق بروية وتمهّل في كل الوقائع'. ويظهر ذلك في وضوح ان المحكمة صارت بلا صدقية في رأيه، وانه لا يؤمن باستقلاليتها أو انه يعتقد انها فقدتها كما يعتقد انها صارت مسيّسة. فضلاً عن انه بدعوتها الى 'التحقيق في الاحتمالات المطروحة...' انما يتبنى مطالب احد فريقي الصراع الدائر والذي يحصر تقريباً تهمة اغتيال الحريري الأب باسرائيل.
وفي الكلام نفسه يرد سليمان ما حصل في المطار اثناء استقبال المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد بأنه 'طريقة اعتراضية على ما حدث' (استدعاء السيد للتحقيق). علماً ان قسماً مهماً من اللبنانيين اعتبر ما حصل هناك انتهاكاً لحرمة المطار. ومن هؤلاء الزعيم المسيحي الشمالي النائب سليمان فرنجيه الذي قال ذلك على شاشة التلفزيون وإن مع تأكيده وقوفه بجانب حلفائه الى الآخر.
وفي الكلام نفسه انتقد سليمان 'غطرسة 'اليونيفيل' في التعامل مع الجيش اللبناني'. واذا كان ذلك صحيحاً لماذا سكت عن هذه الفوقية طوال هذه المدة؟ وماذا يقول لـ'اليونيفيل' واللبنانيين الذين يعتقدون ان الجيش لا يتعاون كفاية مع 'اليونيفيل'؟ وأين ذهبت شهادات حسن السلوك التي اعطاها للـ'اليونيفيل' سواء يوم كان قائداً للجيش او بعدما اصبح رئيساً للدولة؟
في اختصار نحن نخشى تسييس المحكمة الدولية مثل الرئيس سليمان ونتمنى ان تكون عادلة ونزيهة. وقد اثبتت مرتين وإن متأخرة انها كذلك. الأولى عندما اطلقت الضباط الاربعة من السجن الذي دخلوه من غير وجه حق، والثانية عندما اعترفت بحقها (أي المحكمة) في إطلاع السيد على مستندات تخص قضيته. لكن هل هذا ما يريده الخائفون منها اليوم والعاملون على التخلّص منها والآخرون المتمسكون بها الى الآخر؟ وهل يستطيع الفريقان ان يمنعا تسييسها، اذا فرضته تسويات خارجية معينة؟ وهل يربح من يريدون الغاءها اذا ورَّطهم موقفهم في حرب أهلية تؤذيهم وتدمر البلاد؟ وهل يربح من يتمسكون بها اذا اوقع ذلك البلاد تحت حكم 'اعدائهم' في الوطن واذا أعادها الى وصاية 'اعدائهم' في الخارج؟
ـ 'النهار'
هل استعدت النخب العربية المشرقية لاحتمال زلزال انفصال جنوب السودان ؟
جهاد الزين:
وُلدت دولتان كاملتا الشخصية في القانون الدولي في السنوات الاخيرة، إحداهما بقرار من مجلس الأمن هي تيمور الشرقية والثانية باعتراف دولي واسع هي كوسوفو.
كانت 'الحرب الباردة' بعد الحرب العالمية الثانية قد جمدت 'اللعب' بالخرائط الدولية، وكان آخر قرار خرائطي في منظمة الأمم المتحدة هو قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي قضى بانشاء دولتين لكل من اليهود والعرب على أرض فلسطين التابعة للانتداب البريطاني.
بعد ذلك دخل النظام الدولي بقطبيه الاميركي والسوفياتي في توازن طويل جعل منع المساس بالحدود الدولية قاعدة ثابتة رئيسية في العلاقات الدولية إن بالمعنى الانفصالي، أي منع تقسيم الدولة الواحدة أو بالمعنى التوسعي أي منع امتداد حدود دولة الى مناطق تابعة لدولة أخرى.
بين 1948 و1990، مدة 'الحرب الباردة'، حصل بعض الاستثناءات، أهمها استقلال بنغلادش عن باكستان عام 1971 بعد الحرب الهندية - الباكستانية، مع العلم ان الحدود الدولية بين الهند وباكستان لم تتأثر جراء ذلك، بل تحول الاقليم الشرقي من دولة باكستان والذي يبعد عن الاقليم الجنوبي حوالي ألفين وخمسماية كيلومتر (!) الى دولة مستقلة.
انتهت هذه الحقبة مع توحيد المانيا بعد 1990، ثم مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ليس فقط عبر استعادة دول أوروبا الشرقية استقلالها، بل مع تفتيت الاتحاد نفسه عبر استقلال روسيا البيضاء وأوكرانيا ومولدافيا ودول آسيا الوسطى الخمس واذربيجان وأرمينيا وجورجيا في القوقاز... (ولاحقاً وحدة اليمنين الشمالي والجنوبي).
إذن في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، المرحلة المستمرة، لم تشهد أي منطقة في العالم العربي انفصالاً في احدى دوله. على العكس كانت اليمن السباقة الى توحيد الشطرين، ولو بعد حرب دامية ولكن سريعة.
هذه المرة، مع الاستفتاء المنتظر في 9 كانون الثاني المقبل حول مصير جنوب السودان، ستكون النخب العربية أمام موسم من تجدد الهواجس الانفصالية، بل أمام 'زلزال' لطالما 'انتظرته' هذه النخب كجزء لا يتجزأ من ثقافتها السياسية المعاصرة التي تحتل فيها فكرة 'المؤامرة لتفتيت العالم العربي' حيزاً ثابتاً منذ الكشف عن اتفاقية سايكس بيكو.
فخطر تصويت الجنوبيين السودانيين بأكثرية لصالح الانفصال عن السودان خطر حقيقي بل هو يمثل حتى الآن الاحتمال المرجح، والظاهر ان الطبقة السياسية في السودان، لاسيما السلطة الحاكمة، بدأت تهيئ نفسها لاحتمال من هذا النوع إن لم تكن قد 'هضمته' رغم تباين اتجاهاتها بل رغم صراعاتها المريرة.
ومع ان السودان لا ينتمي الى منظومة سايكس - بيكو التي تتعلق بالمشرق وخصوصاً مناطق داخل 'الولايات العربية' في الامبراطورية العثمانية إلا ان مصيره، أولاً بالعلاقة مع مصر إذ كان تابعاً ولو اسمياً لخديوي مصر، وثانياً من حيث وحدته الداخلية، كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من مشاغل وتطلعات الوعي القومي العربي في جيله الثاني بعد الحرب العالمية الثانية، مع العلم ان 'الثورة المصرية' بعد 1952 وبقيادة الرئيس جمال عبد الناصر هي التي اعترفت باستقلال السودان عن مصر، كجزء من عملية انهاء الاحتلال البريطاني؟!
بعيداً عن الفجائعية، التي تميز بعض أهم خطوط ردود الفعل العربية المعاصرة على المخاطر الانفصالية داخل كل كيان عربي، لا تبدو النخب العربية مستعدة كغاية في الوضع الراهن لتلقي، بل للتعامل، مع احتمال تقسيم السودان وولادة دولة في جنوبه تعادل مساحتها مساحة فرنسا وتبني دعوى انفصالها اساساً على الاختلاف الاتني والديني لأكثريتها المسيحية والوثنية عن الشمال المسلم (بما فيه دارفور المسلمة).
ستكون السودان قطعاً أول دولة عربية مستقلة في القانون الدولي تتعرض للتقسيم.
وإذا كان السؤال حول مدى استعداد النخب العربية لتلقي هذا الوضع الجديد ذا طابع ثقافي سياسي، فإن السؤال السياسي الصرف هو المتعلق بمواقف الحكومات العربية حيال احتمال هذا التطور البالغ الخطورة.
فالنقطة الجوهرية التي نريد الوصول اليها هي ان تقسيم السودان سيجعل مصير بلد مثل العراق مطروحا على بساط البحث بشكل عملي ودستوري في ظل الوضع 'الانفصالي' الديناميكي الذي بلغته الحالة الكردية بعد العام 2003 والتي 'تأسست' عملياً كحالة انفصالية بعد العام 1991 ونتائج حرب الكويت.
لا شك ان انفصال جنوب السودان – وضمن القانون الدولي اي ضمن الشرعية الدولية – سيعزز بل سيوجد دينامية انفصالية في العديد من دول المنطقة حيث التأزم الكياني دينامي اصلاً.
العراق في المقدمة، بل العراق هو الحالة 'الجاهزة' لتلقف حيوية من هذا النوع، ايا تكن التطمينات التي سنسمعها – لياقة – من الاطراف الكردية. لكن كيف استعدت النخب العربية – الشيعية والسنية – في بغداد وبقية العراق لهذا الاحتمال السوداني المرجح؟ ثم ماذا ستفعل حكومات الجوار العراقي ولاسيما تركيا وسوريا وايران المعنية مباشرة وداخليا بالمسألة الكردية؟ ناهيك عن المملكة العربية السعودية اذا قررت قيادة المملكة ان تعطي الاولوية مرة اخرى في استراتيجيتها للمسألة الكردية في العراق وليس للمسألة الشيعية – السنية... والمسألتان من حيث مصير خارطة العراق متداخلتان، وان تكونا مختلفتين على اصعدة اخرى؟
والسؤال الذي يتعلق بتركيا وايران، هل ستواجه الدولتان الاقليميتان الكبيرتان الخطر الانفصالي الكردي في مرحلة ما بعد تقسيم السودان كما فعلتا حتى الآن اي بالتكاتف الفعلي مع دول الجوار العراقي العربية بما فيها مصر اضافة طبعا الى سوريا والسعودية والكويت لمنع اي انفصال لاقليم كردستان عن الدولة العراقية ام ان تركيا وايران ربما عزز لديهما الانفصال الجنوب – سوداني معادلة لا تزال 'تحت الطاولة' وهي ابعاد خطر الانفصال الكردي عن اراضيهما – اي عن اراضي تركيا وايران – مقابل القبول بمعادلة 'كردستان صغرى' في العراق تحل العقدة التاريخية لوطن قومي كردي على غرار 'ارمينيا الصغرى' القائمة منذ 1990 او 'فلسطين الصغرى' التي تجري محاولة ترتيبها دولياً على 20 بالماية من ارض فلسطين التاريخية (او الانتدابية!)؟
...والدولة الثانية التي ستكون – ولو بالحاح اقل ومخاطر اقل – تحت بساط الضوء بعد العراق، في مرحلة التقسيم السوداني... هي لبنان على الرغم من الاختلاف النوعي بين الخطر الانفصالي الكردي في العراق والآتي من مسألة قومية، استندت اليها الفدرالية الدستورية القائمة في العراق بعد 2003 وبين الخطر 'الانفصالي' الآتي من مسألة طائفية دينية في لبنان، وهي مسألة لم تحظ تقليدياً بأي مشروعية ثقافية او سياسية جدية بعكس الحالة الكردية في العراق التي اكتسبت كطرح فدرالي (لا انفصالي) مشروعيتها حتى في عهد البعث الصدامي الذي كان – ولو نظرياً - اقر نظام الحكم الذاتي لمناطق الاكراد العراقيين؟
النقطة الثانية التي نصل اليها هنا في مجال هذا الرصد – التوقعات، هي النتائج السلبية جدا التي سيؤدي اليها انفصال جنوب السودان – ولو ضمن الشرعية الدولية – على 'سمعة' الثقافة الفدرالية في العالم العربي. اذ ستترسخ مع المخاطر العراقية قناعة ان 'الفكرة الفدرالية' حيثما طبقت عربياً ستكون مقدمة لانفصال محقق، وبهذا الانفصال السوداني تتلقى 'الفكرة الفدرالية' – وهي اصلاً لم تترسخ بعد في الثقافة السياسية العربية – ضربة جديدة تجعلها تظهر على عكس سمعتها وتاريخها وحاضرها الاوروبي والغربي والتي هي سمعة وتاريخ وحاضر توحيدي وديموقراطي. بينما في العالم العربي ستظهر كفكرة انفصالية على الصعيد العملي. اذ كان بالامكان لنجاح تطبيق فدرالي في السودان، كما في العراق ان يعيد تهيئة الثقافة السياسية العربية المعاصرة لقبول بل اعتماد الفكرة الفدرالية كقوة استيعاب واحترام توحيد لمجتمعات متنوعة اثنياً. بطبيعة الحال، هذا لا يعني اي تسليم بالاساس الطائفي والمذهبي للفكرة الفدرالية، فحتى في العراق لم يحصل هذا الاساس على مشروعيته حتى بعد عام 2003 ولا بد من التذكير بما قاله لي في النجف في أوائل الصيف المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني في لهجة فخورة بأن المرجعية 'هي التي منعت امتداد الفدرالية الى المناطق الشيعية'... رغم وجود تيار شيعي لا زال يدعو الى هذا النوع من الفدرالية المذهبية.
نحن امام احتمال زلزال كبير في الواقع السياسي لدولة هي جزء من المنظومة العربية... لا يمكن كسابقة الا ان 'يطرح نفسه' كزلزال سياسي عربي ومشرقي لأن الانفصال السوداني يأتي ضمن آليات النظام العالمي الجديد. ويبدو – وهو كذلك – جزءاً من قرار هذا 'النظام'؟