- 'الحياة'
إسقاط المحكمة... إسقاط التسوية
وليد شقير:
يتخبط لبنان في اضطراب سياسي ينذر بمزيد من التأزم الآتي حكماً، والمتصاعد في شكل متدرج، وفق المقومات التي يحبل بها المشهد السياسي اللبناني.
لم يعد النقاش في بيروت، وسط الطبقة السياسية، أو الرأي العام والمواطنين العاديين، حول ما اذا كان البلد يتأرجح بين التهدئة والتوتير السياسي، بل حول ما اذا كان يتأرجح بين الأزمة السياسية وصولاً الى فراغ حكومي يقود الى وضع اليد من جانب المعارضة على مقاليد الدولة عبر تفجير حكومة الوحدة الوطنية من الداخل، وبين انتقال الأزمة السياسية الى الشارع على شكل انتشار &laqascii117o;حزب الله" بالتعاون مع حلفاء له في الكثير من المناطق اللبنانية، إما احتجاجاً على صدور القرار الاتهامي عن المدعي العام الدولي في المحكمة الخاصة بلبنان، أو استباقاً لصدوره من اجل الضغط على المجتمع الدولي لإلغائه أو لحمل رئيس الحكومة سعد الحريري على رفضه قبل ان يصدر...
حالة التأرجح الأولى - بين التهدئة والتصعيد – كانت سائدة قبل أسابيع، استناداً الى اطمئنان الوسط السياسي اللبناني الى التفاهم السعودي – السوري على اعتبار الاستقرار والأمن خطاً أحمر، لكن قطاعاً واسعاً من الرأي العام والأوساط السياسية أخذ يستبعد احتمال التهدئة وانتقل الى التأرجح بين التأزيم السياسي والتأزيم الأمني. وزادت من قناعته بهذا الانتقال عراضة الدخول الأمني من قبل &laqascii117o;حزب الله" الى مطار رفيق الحريري الدولي باسم الدفاع عن أحد الضباط الأربعة إزاء احتمال مساءلته القضائية، بعد هجومه بتغطية سورية بعد انتقال رموز المعارضة وأبرزهم رئيس البرلمان نبيه بري، من موقف التمييز بين القرار الاتهامي وبين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وانضمام رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الحليف الجديد لدمشق، الى التخلي عن هذا التمييز، ورفض المحكمة بذاتها، الأول عبر رفضه مشاركة لبنان بتمويلها تحت شعار عدم دستورية طلب لبنان إنشاءها، والثاني بحجة الاختيار الأكثر سهولة بينها وبين السلم الأهلي.
أما المؤشر الذي زاد قناعة اللبنانيين بأن خيارهم بين التهدئة والتأزيم السياسي سقط لمصلحة إجبارهم على الاختيار بين التأزيم السياسي والتأزيم في الشارع وعلى الصعيد الأمني في المرحلة المقبلة، فهو صدور مذكرات التوقيف السورية في حق فريق الحريري، تحت عنوان محاكمة شهود الزور كملف هدفه تفعيل الحملة على صدقية المحكمة قبل صدور قرارها الاتهامي.
وإذا كان صدور هذه المذكرات عزز صدقية تأكيد &laqascii117o;حزب الله" أن من يعتقد بأن هناك اختلافاً بين سورية و &laqascii117o;حزب الله" واهم، فإنه كان مؤشراً إضافياً الى اهتزاز التفاهم السعودي – السوري حول لبنان، الذي بدأت بشائره تظهر من خلال هجوم المعارضة العنيف على الحريري منذ مطلع الشهر الماضي.
ومقابل رفض الحريري الاستجابة لمطالبته بإسقاط المحكمة بصفته ولي الدم، عبر إعلانه أن الاتهام الذي سيصدر عنها إسرائيلي وفق الإملاءات التي سربت في هذا الصدد، وإعلانه تمسكه بالمحكمة لأن العكس يعني سقوطه السياسي، فإن إسقاط التهدئة السياسية كان جواباً طبيعياً. وهو أمر احتاط له &laqascii117o;حزب الله" منذ أشهر برفضه طلب الحريري لقاء الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله منذ بداية شهر تموز (يوليو) الماضي، لرفضه أي حوار قبل أن يعلن الحريري ما يعتبر الحزب ان عليه ان يعلنه.
وفي حين شكّل إعلان الحريري في 6 ايلول (سبتمبر) الماضي إسقاطه الاتهام السياسي لسورية باغتيال والده وإدانته شهود الزور إيذاناً بإمكان حصول تسوية حول تداعيات الاغتيال، بعد صدور القرار الاتهامي، فإن مطالبته بإسقاط المحكمة هو إسقاط لاحتمال هذه التسوية، وبالتالي إسقاط للتهدئة... وللحوار الذي لا يتوقف كثر عن المطالبة به لمعالجة التشنج الناجم عن الحرب على المحكمة.
وإذا كان ما سيواجهه اللبنانيون نتيجة لكل ذلك هو احتمال الحد الأدنى، أي التأزيم السياسي وصولاً الى تفجير الحكومة للإتيان بأخرى تضم من يرون إسقاط المحكمة، لتطلب من مجلس الأمن إلغاءها (وهو لن يستجيب)، فإن في ذاكرة اللبنانيين الكثير لاستعادته، عن قيام حكومة تستبعد قوى وازنة، تشن حرباً على رموزها في الدولة والمسرح السياسي. فالذي حصل عام 1998 حين استُبعد رفيق الحريري كان له مفعول عكسي زاد من شعبيته أضعافاً.
اما إذا رجح احتمال التأزيم في الشارع وعلى الصعيد الأمني، فلهذا حديث آخر.
الأخبار داوود خيرالله(أستاذ في القانون الدولي بجامعة جورجتاون في واشنطن):لبنان لا يعرف معنى السيادة
لبنان بمعظم مسؤوليه ونخبه المثقّفة لا يعرف معنى السيادة ولا يعي أهمّية ممارستها للحفاظ على أمنه واستقلاله وحقوقه بين الدول. ليس الهدف هنا الغوص في مفهوم السيادة وتطوّرها عبر التاريخ أو في النظريات حول كيفية تطبيقها في مجالات مختلفة، بل نرمي إلى اعتماد تعريف مبسّط يساعد القارئ في فهم مقوّمات السيادة وأهمّية ممارستها بفاعلية في ما يتعلّق بلبنان.
السيادة في وجهها الداخلي هي الاستئثار بالحكم الذاتي، أي التعبير عن الإرادة العامة للشعب في ممارسة سلطة حصرية على مساحة معيّنة من الأرض وعلى المقيمين عليها. وفي وجهها الخارجي، أي في العلاقة مع الدول الأخرى، وفي إطار النظام الدولي السائد حالياً، هي ممارسة القدرة على الدفاع عن الحقوق والمصالح. فمدى الاستئثار بالحكم الذاتي والقدرة على الدفاع عن الحقوق والمصالح يرسمان حدود السيادة التي يمارسها الشعب المكوّن لدولة ما. وكيفية ممارسة السيادة ترسم أبعاد الحريّة والاستقلال والنضج السياسي التي يتمتّع بها هذا الشعب.
لذلك، على الرغم من أنّ المواثيق الدولية، وفي طليعتها ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتمد &laqascii117o;مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها" لا تزال قواعد شريعة الغاب في وضع مهيمن في ما يتعلّق بممارسة السيادة بين الدول، ومبدأ المساواة لا يعدو كونه حبراً على ورق. فهناك الكواسر من الدول التي تتمتّع بسيادة مطلقة ولا روادع ولا حدود لممارستها القوّة في حماية ما تراه حقّاً أو مصلحة لها ولو كان اللجوء إلى القوّة يخالف مواثيق دولية أو حتّى يمثّل جرائم حرب أوجرائم بحق الإنسانية. وهناك دول لا تتمتّع بالقوّة الاقتصادية أو العسكرية التي تتمتّع بها الدول العظمى، لكنّها تتصرّف كالجوارح في فرض مشيئتها اغتصاباً لحقوق الضعفاء من الدول والشعوب، وذلك لأنّها تتمتّع بحماية الدول المقتدرة وتشجيعها، وإسرائيل مثال على هذه الدول.
وهناك دول وشعوب، وخاصة في العالم العربي، هي في وضع المتلقّي وليس في سلوكها ما يدلّ على الحدّ الأدنى من ممارسة السيادة في الدفاع عن حقوقها ومصالحها. القوّة بوجهيها المادي والمعنوي، أي العسكري والاقتصادي من جهة، ودرجة النضج السياسي خاصة في ما يتعلّق بإدراك العوامل التي تعزز الوحدة والتعاضد داخل المجتمع وتفرض احترام الدول الأخرى من جهة ثانية، هذه القوّة هي من أهمّ العناصر التي ترسم حدود النجاح في ممارسة السيادة. ترتيباً على ما تقدّم، نحاول الآن تقويم ممارسة لبنان لسيادته، إن لجهة الاستئثار بحكم ذاته، أو لجهة الدفاع عن حقوقه ومصالحه.
الاستئثار بالحكم الذاتي هو في الواقع الاستئثار باختيار القوانين التي ترعى حياة المواطنين والمقيمين على أرض الوطن واختيار المؤسسات التي تتولّى تطبيقها. نلاحظ بداية ما أصبح أمراً عادياً مميزاً للحكم في لبنان، وهو أنّه كلّما واجه البلد صعوبة في توحيد الإرادة الوطنية تجاه أمر على قدر من الأهمّية، يدخل الوطن في أزمة حكم ولا يرى حكّامه وأولياء الأمر فيه حرجاً في اللجوء إلى أطراف خارجية للتقريب بين أصحاب البيت اللبناني والمساعدة على الخروج من الأزمة. من الصعب إيجاد دليل أكثر وضوحاً من هذه الظاهرة على الشحّ في إدراك معنى السيادة وأهميّة التمسك بها، وخاصة من دعاة الحرص على السيادة والاستقلال. أمّا التعبير عن السيادة المتمثّلة بالإرادة الوطنية في اختيار ممثلي الشعب في وضع التشريعات والقوانين الراعية لمصالحه والحافظة لحقوقه، فهو في الغالب من خلال آلية تحضنها ثقافة سياسية قوامها الفساد والرشوة وشراء الذمم، وفي ذلك تعبير كاف عن مدى احترام الإرادة الوطنية. هذه الإرادة التي تمثّل ركناً أساسياً من أركان السيادة.
ومهما بلغت الحاجة إلى قوانين وأنظمة لمعالجة إشكاليات وتذليل عقبات تهدد المجتمع في وحدته وفي توفير الحدّ الأدنى من التماسك حول المصالح المشتركة وهي من البديهيات التي تميّز مجتمعاً يتطلع إلى تكوين دولة مستقلّة، فإنّ المجتمع ومؤسسات الحكم في لبنان تبقى في حالة شلل وعجز يكاد يعكس مقدار الحاجة إلى اتخاذ الاجراءات الملائمة. مثال على ذلك الحاجة إلى قوانين ومؤسسات تساعد في التخلّص من الثقافة الطائفية والمذهبية الضامنة لتمزيق المجتمع وتهديد أمنه. أو اتخاذ إجراءات وتبنّي قوانين للحدّ من انتشار الفساد وفتكه بجميع مؤسسات الدولة ومعظم المسؤولين فيها. وإذا وجدت قوانين تعالج مثل هذه المواضيع، مهما كان حظّها من الملاءمة لعلاج إشكاليات كبرى، تبقى دون تطبيق أو تعديل، ولو كانت جزءاً من أحكام الدستور اللبناني، كالنصوص التي هدفها إضعاف الطائفية أو إنشاء مجلسين تمثيليين، أو قانون من أين لك هذا الهادف إلى ردع المسؤولين عن الإثراء غير المشروع وإفساد مؤسسات الدولة.
ولا يتصورنّ أحد أنّ تبنّي قوانين ملائمة للتغلّب على التحدّيات الكبرى وحده بقي عصيّاً على مسؤولي الحكم في لبنان وخارج اهتمام نخبه المثقّفة، وخاصة الصانعة للرأي العام. فالدولة وأولياء الحكم فيها عاجزون حتّى عن قانون ناجح للسير يضع حدّاً للفواجع التي تشهدها الطرق يومياً في كل أرجاء لبنان أو تطبيق الموجود من قوانين السير على شحّتها وعدم ملاءمتها.
من الأمثلة التي تتحدّى العقل، لكنّها ذات مدلول مهمّ جدّاً، دشم الاسمنت المزروعة على جوانب بعض الطرقات بهدف منع ركن السيارات، وذلك بسبب عدم قدرة الدولة على تطبيق قوانين أو قرارات تمنع ركن السيارات في شوارع معيّنة أو خلال أوقات معيّنة، ما يؤدّي إلى تضييق الشوارع ومفاقمة أزمة ازدحام السير ويؤكّد عجز الدولة والمجتمع عن إدراك أهمّية تطبيق القوانين حتى في الأمور غير الخلافية.
ولعلّ تبنّي السلطات الوطنية للقوانين الجزائية وتطبيقها حصرياً هما من أهمّ مظاهر ممارسة السيادة. قد تجيز قوانين الدول أن تحكم بعض العقود المدنية أو التجارية التي تطبّق على أرضها قوانين أجنبية، أو أن تفصل سلطة قضائية أجنبية بقانونية عمل يتعلّق بتطبيق تلك العقود، لكن ما من دولة تتمتّع بحدّ أدنى من السيادة تقبل بأن تتولّى سلطات أجنبية التحقيق بجرائم تقع على أرضها أو أن يطبّق على أرضها القانون الجزائي لدولة أخرى. فالقوانين الجزائية هي سيادية بامتياز لما لها من تأثير على الأمن الوطني ومصلحة المجتمع. أمّا في لبنان، فإنّ أكثر المتظاهرين بالحرص على السيادة والاستقلال هم أوائل الذين يمارسون التخلّي عن السيادة لجهة تطبيق القوانين الجزائية، ولنا في عمل لجنة التحقيق الدولية والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان أسطع دليل على مدى فهم السيادة والحرص على ممارستها.
وقعت جريمة مروّعة على الأرض اللبنانية ذهب ضحيّتها رئيس وزراء سابق، وهو شخصية لها مكانة خاصة لدى معظم اللبنانيين، وسقط فيها عدد من المواطنين. على أثرها شاعت اتهامات حيال المسؤولين عن هذه الجريمة، يتبيّن الآن أنّها صنيعة أطراف لا تريد خيراً للبنان. مهّدت تلك الاتهامات لتعيين مجلس الأمن الدولي لجنة تحقيق دولية لمساعدة السلطات اللبنانية في اكتشاف الجناة. وبالنظر إلى أنّ شكوكاً سرت بأنّ أطرافاً خارجية قد تكون وراء هذا العمل الجرمي، فقد وافقت جميع الأطراف اللبنانية على إنشاء اللجنة الدولية، مع الملاحظة أنّ قرار مجلس الأمن المنشئ للجنة التحقيق الدولية قد حفظ ـــــ بصورة تلقائية وبنصوص صريحة ـــــ السيادة اللبنانية على التحقيق، مؤكّداً أن دور اللجنة هو دور مساعد للسلطات اللبنانية. انتهكت لجنة التحقيق الدولية، تحت إمرة رئيسها الأوّل ديتليف ميليس، قواعد أساسية في التحقيق الجنائي الدولي وقواعد منصوصاً عليها في القانون اللبناني، وخاصة لجهة الحفاظ على سرّية التحقيق وبلوغ استنتاجات قطعية بدون دليل وإعلانها، فيما التحقيق كان لا يزال في مراحله الأولى، فضلاً عن التوصية بتوقيف مسؤولين أمنيين كبار في الدولة بناءً على إفادات شهود زور. فما كان من القضاء اللبناني المسؤول إلاّ أن انصاع لمشيئة لجنة التحقيق الدولية، على الرغم من المعرفة التامة بالوقائع، أو التمتع بالسلطة لمعرفتها كشرط لأي قرار يمكن أن يصدر عنه، وعلى الرغم من السلطة السيادية التي يتمتّع بها في تطبيق القوانين اللبنانية لجهة التوقيف وإخلاء السبيل. هل يعقل أن يحصل مثل ذلك في دولة تعرف معنى سيادة القانون تعبيراً عن إرادة شعبها.
ثم قامت أصوات تطالب بإقامة محكمة دولية لمحاكمة الجناة قبل انتهاء التحقيق. فكان هناك إجماع وطني على طاولة الحوار لإقامة محكمة دولية بحجّة أنّ القضاء اللبناني ليس باستطاعته محاكمة الجناة على أرضه لأسباب أمنية أو سواها. وهذا بحدّ ذاته اعتراف بأن الدولة لا تتمتّع بسيادة كاملة. من أهمّ مبررات إقامة المحاكم الدولية الخاصة التي أقامها مجلس الأمن هو أنّ الجرائم التي ستتولّى هذه المحاكم النظر فيها قد وقعت في دول فاشلة منقوصة السيادة.
وبشأن الأزمة القائمة حالياً بصدد مذكّرات التوقيف الصادرة عن القضاء السوري في دعوى أقامها مواطن لبناني لجأ إلى مراجعة القضاءين السوري والفرنسي بعدما أوصدت بوجهه أبواب العدالة في لبنان، فلو احترمت السلطات اللبنانية سيادة القانون على أرض الوطن لما استسهل مسؤول، أو مواطن عادي، رعاية شهود الزور وعرقلة مجرى العدالة وإدخال لبنان في فتنة طائفية أو مذهبية، ولما اضطرّ مواطن إلى أن يطرق باب العدالة لدى دول أخرى.
ما تقدّم لا يعدو كونه عيّنة عن أدلّة عديدة على أن لبنان لا يعرف معنى السيادة في ما يتعلّق بالاستئثار في الحكم الذاتي داخليّاً. أمّا بالنسبة إلى السيادة بما هي ممارسة القدرة على الحفاظ على الحقوق والمصالح إزاء الدول الأخرى، فحدّث ولا حرج. وسنقتصر على مثال واحد، لكنّه عظيم الدلالة.
بعد سنين قليلة على استقلاله كدولة، ابتلي لبنان بقيام إسرائيل على حدوده الجنوبية التي ما فتئت تمثّل تهديداً مستمرّاً لحقوقه ومصالحه، وبالتالي لسيادته منذ نشأتها. بداية اقتلعت إسرائيل العديد من سكّان الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها ودفعت بهم قسراً إلى الأراضي اللبنانية. وهي منذ ذلك الحين لم تكفّ عن الاعتداء على لبنان جوّاً وبرّاً وبحراً. وعوضاً عن أن يدفع ذلك بلبنان إلى التوحّد حول تنمية قدراته الدفاعية كي يتمكّن من الدفاع عن أرضه وشعبه، لجأت النخب الحاكمة فيه إلى ما لا يمكن وصفه إلا بالهذيان السياسي عبر مقولة أن &laqascii117o;قوّة لبنان تكمن في ضعفه". سياسة الضعف هذه قضت على ما بقي من مظاهر السيادة في لبنان، فاستباحت إسرائيل أرضه وشعبه ومياهه، وخاصة في صراعها مع تنظيمات من الفلسطينيين الذين حرمتهم إسرائيل العودة إلى ديارهم وأرضهم في محاولاتهم لتحرير الأرض والعودة إليها. وضعف الدولة هذا شجّع المنظمات الفلسطينية على اختيار الأرض اللبنانية قاعدة للعمل المسلّح من دون تنسيق مع الدولة، ما أطاح المؤسسات الأمنية جميعاً وأدخل لبنان في حرب أهلية استمرّت خمس عشرة سنة أدت إسرائيل والمنظمات الفلسطينية المسلحة خلالها دوراً أساسياً إن لجهة الدمار في الحجر والبشر أو لجهة التفكك الداخلي. وما لم تدمّره الحرب الأهلية تولّت آلة الحرب الإسرائيلية القضاء عليه خلال أعمال عدوانية متكررة واحتلال مباشر استمرّ اثنتين وعشرين سنة، فغابت مظاهر السيادة جميعاً.
ولمّا أيقنت فئات من الشعب اللبناني، وخاصة تلك التي كانت أكثر تعرّضاً للاعتداءات الإسرائيلية، غياب الدولة الكلّي في الدفاع عن أرض الوطن وشعبه وعجزها عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، انتظمت في مقاومة الاحتلال وتمكّنت بجهود وتضحيات عزّ نظيرها من تحرير الأرض وإرغام الجيش الإسرائيلي، لأول مرّة في تاريخه، على الانسحاب بلا قيد ولا شرط، فذاق لبنان لأول مرّة منذ أن استقلّ طعم السيادة. القدرة الردعية التي تمكّنت المقاومة اللبنانية من فرضها على إسرائيل، وباعتراف كبار قادتها العسكريين، هي التي منعت وتمنع إسرائيل من الاستمرار في أعمالها العدوانية والتمادي في غطرستها المعهودة في لبنان بالرغم من رغبتها الجامحة في القضاء على سلاح المقاومة. بالنظر لما حققته المقاومة من نجاح في تحرير الأرض وردع العدو وممارسة سيادة فعلية تجاه إسرائيل بالرغم من مناصرة أقوى دول العالم لها، ما هو الموقف المتوقّع من الشعب اللبناني ومسؤوليه تجاه ثقافة المقاومة والتنظيم الذي أثبت جدارة في الدفاع عن الحقوق والمصالح الوطنية؟ المنطق يقضي بأن يرى جميع اللبنانيين في التنظيم المقوم وسيلة ناجحة للدفاع عن أرض الوطن وشعبه وتمكينه من ممارسة سيادة فعلية تجاه المطامع الخارجية فيسعى الجميع إلى تبنّي ثقافة المقاومة والمشاركة الفعلية في كل ما يعزز قدرة لبنان في الدفاع عن أرضه وشعبه. لكنّ الحاصل على الأرض هو عكس ذلك. فقد انطلقت قيادات سياسية ذات إمكانات مالية ونفوذ طائفي توظّفها جميعاً في السعي إلى نزع السلاح وحلّ التنظيم الذي لم يمكّن لبنان من تحرير أرضه من الاحتلال الصهيوني فقط، بل من ممارسة سيادة فعلية في الدفاع عن حقوقه ومصالح شعبه تجاه المصالح والمطامع الإسرائيلية. أعلى الأصوات التي تدّعي الحرص على السيادة والاستقلال هي عينها التي تطالب بنزع السلاح الذي تخشاه إسرائيل. ولهذه الأصوات مواقف ومطالب تتماهى كلّياً مع المواقف والمطالب الإسرائيلية. فهل من شك ـــــ في ضوء هذه الوقائع المريرة ـــــ في أن لبنان لا يعرف معنى السيادة، وهو في غفلة تامة عن أهمّية ممارستها للدفاع عن حقوق ومصالح شعبه؟ وعندما تدعو دول صديقة، وأخرى تدّعي صداقة لبنان، أطرافاً خارجية إلى احترام السيادة اللبنانية، أليس جديراً بهذه الدول أن تدعو أوّلاً المسؤولين اللبنانيين إلى إظهار الحد الأدنى من وعي أهمّية هذه السيادة وممارستها؟.
- 'المستقبل'
الخوف وهم
فيصل سلمان:
حالة الخوف التي يصرّ بعض اللبنانيين على تعميمها وتعميقها في نفوس الآخرين تشبه السكين بحدّين.لا يلهو العاقل عادة بسكين بحدّين فإن فعل جرح نفسه لا محالة، وإن لم يجرح نفسه جرح غيره وهذا سينتظر فرصة للانتقام.تعوّد اللبنانيون على التسويات لكنهم كانوا دائماً يساقون إليها بعد اقتتال وبعد افتراض فئة منهم قدرتها على الغلبة. يشبه اللهو بما يسمى 'شهود الزور' اليوم، تلك السكين بحدّين، ولا بد أن اللبنانيين بعدما 'يتجارحوا' ذاهبون الى تسوية. يعتقد هذا الفريق أنه يستقوي بما عنده من 'شهود زور' وهو يعلم أن الفريق الآخر ينام على شهود زور آخرين.إذن، سيدرك الإثنان أنهما سيصابان بجروح لن تندمل وأنهما سيضطران الى القبول بتسوية.حتى ذلك الحين تكون البلد قد تفتتت واهترأت وتكون الناس قد كفرت بكل دين.
الآن، نحن دخلنا في عنق الزجاجة، انتهت مرحلة عض الأصابع. لن يقول طرف 'آخ' أمام الطرف الآخر. ما العمل؟ سيكون على فريق أن يقهر الآخر! هل يستطيع؟ ربما ليوم، لشهر، لسنة، وماذا بعد؟ نسمع تهديداً وتهويلاً وصراخاً. هل هذا هو الحل؟ تخرج إليك وجوه نكرات في ثياب 'نيرون' كانت حتى الأمس القريب ترتجف خوفاً. الآن هي تهدد! بئس هذا الزمان.غالبية اللبنانيين لن تخاف شيئاً.. لم يخفها الاحتلال الإسرائيلي.
- 'السفير'
وضع لبنان قضائياً تحت الوصاية الدولية (3)
عدنان عضوم:
بعد مناقشة الفقرة الأولى من المادة الثالثة التي نصت على أن &laqascii117o;يتحمل الشخص مسؤولية فردية عن الجرائم الداخلة ضمن اختصاص المحكمة الخاصة إذا كان الشخص ضالعاً في أفعال محددة"، كارتكاب الجريمة أو المساهمة بأي طريقة في الارتكاب، يناقش القاضي عدنان عضوم الفقرة الثانية من المادة الثالثة المتعلقة بأحكام المسؤولية الجنائية الفردية.
باء: الفقرة الثانية من المادة الثالثة
نصت الفقرة الثانية من المادة الثالثة المتعلقة بأحكام المسؤولية الجنائية الفردية على ما يلي:
- في ما يتصل بالعلاقة بين الرئيس والمرؤوس، يتحمل الرئيس المسؤولية الجنائية عن أي من الجرائم المنصوص عليها في المادة 2 من هذا النظام الأساسي والتي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين، نتيجة لعدم سيطرته سيطرة سليمة على هؤلاء المرؤوسين حيث:
أ- يكون الرئيس، إما عرف، أو تجاهل عن عمد أية معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو هم على وشك أن يرتكبوا تلك الجرائم؛
ب- تتعلق الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس،
ج- لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب مرؤوسيه لتلك الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والملاحقة القضائية.
تعليقاً على هذه الفقرة، نبدي الملاحظات التالية:
A: مفهوم قاعدة مسؤولية القادة والرؤساء الجنائية عن أفعال مرؤوسيهم وإطار تطبيقها.
إن مسؤولية الرؤساء الجنائية عن الأفعال الجرمية التي يرتكبها مرؤوسوهم هي مسؤولية &laqascii117o;مفترضة" &laqascii117o;Pr&eacascii117te;sascii117m&eacascii117te;e" لا تحتاج إلى إثبات، أو على الأقل هي ناتجة عن إهمال جرمي وهي ليست بالتالي مسؤولية شخصية ناتجة عن اشتراك أو تدخل في الجريمة ارتكبه الرئيس. وقد وصف الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره رقم S/25704 تاريخ 3/5/1993 المتعلق بإنشاء المحكمة الدولية ليوغوسلافيا هذه المسؤولية بعبارة:
&laqascii117o;Responsabilit&eacascii117te; implicite oascii117 n&eacascii117te;gligence criminelle".
وقد اعتمد مجلس الأمن مسؤولية القادة والرؤساء في نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا سابقاً (المادة السابعة) ونظام محكمة رواندا (المادة السادسة) المنشأتين تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبرَّر في حينها الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره المشار إليه أعلاه وجوب تطبيق مسؤولية القادة والرؤساء على جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي تدخل في اختصاص هاتين المحكمتين على أساس أن هذا المفهوم للمسؤولية الجنائية طُبِّق سابقاً في المحاكم العسكرية الدولية لنورمبرغ ولطوكيو عام 1945 و 1946 التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية آنذاك.
أما نظام روما لعام 1998 للمحكمة الجنائية الدولية فقد أعتمد أيضاً هذه القاعدة الجنائية الاستثنائية المتعلقة بمسؤولية القادة والرؤساء (المادة 28) إلى جانب مفاهيم المسؤولية الجنائية الفردية العامة، لأن الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص هذه المحكمة هي جرائم الإبادة والحرب والجرائم ضد الإنسانية، وذلك نظراً لطبيعة هذه الجرائم وعناصرها وظروف ارتكابها وهوية مرتكبيها: فهي جرائم شاملة ومتمادية تحصل في إطار حروب وهجمات مسلحة بين جماعات وجيوش متقاتلة بقيادة، أو تنفيذاً لأمر، أو بعلم وتغاضي قادتهم العسكريين أو رؤسائهم غير العسكريين، وحتى لا يتمكن أي شخص من التملُّص من مسؤولية المشاركة أو الفشل في منع أعمال إبادة أو تصفيات جماعية كما هي الحال في الجرائم ضد الإنسانية التي حصلت في يوغوسلافيا ورواندا. وهذه الجرائم تختلف بطبيعتها وعناصرها عن الجريمة الإرهابية التي استهدفت الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، والجرائم الأخرى المتلازمة والمماثلة لها وفقاً لتحديد نظام المحكمة الخاصة، والتي هي جرائم إرهابية فردية كما جرى توصيفها من قبل مجلس الأمن ونظام المحكمة كونها لم تحصل في إطار اقتتالات مسلحة أو أعمال قتل وإبادة جماعية أو منهجية، وليست بالتالي جرائم ضد الإنسانية ولا جرائم حرب أو إبادة.
B: مدى شرعية قاعدة مسؤولية الرؤساء عن مرؤوسيهم ومدى قانونية تطبيقها على الجرائم التي هي من اختصاص المحكمة الخاصة بلبنان.
إن المسؤولية الجنائية التي يتحملها الرئيس عن الجرائم التي يرتكبها العاملون تحت سلطته نتيجة لعدم ممارسة سيطرته عليهم ممارسة سليمة مبنيَّة على تجريم الرئيس لارتكابه إهمالاً أو قلة احتراز في ممارسة سيطرته على المرؤوسين، وإن اعتمادها يستحدث نصاً تجريمياً لأفعال تُرتِّب على مرتكبها مسؤولية جنائية غير ملحوظة في القوانين الجزائية اللبنانية ولا في المعاهدات التي أبرمتها الدولة اللبنانية وأصبحت بقوة القانون الوطني. وهناك استثناء فيما يتعلق بالمسؤولية الجزائية للهيئات المعنوية عن أعمال مديريها وأعضاء إدارتها وممثليها وعمالها عندما يأتون هذه الأعمال باسم الهيئات المذكورة أو بإحدى وسائلها (المادة 210 عقوبات فقرة 2). مع الإشارة إلى أن العقوبة بهذا الخصوص هي الغرامة والمصادرة ونشر الحكم، وهذه المسؤولية هي استثناء لقاعدة أساسية تقوم عليها التشريعات في لبنان وفرنسا، ومضمونها أن الأفعال التي تجرمها النصوص يفترض صدورها عن الإنسان أي الشخص المادي &laqascii117o;Personne physiqascii117e"، ولا يمكن اعتبار هذه المسؤولية للهيئات المعنوية مماثلة لمسؤولية الرؤساء عن مرؤوسيهم، كما لا يمكن التوسع بتفسير هذا النص لعدم جواز القياس في القانون الجزائي.
أما لجهة ما أورده الأمين العام في الفقرة 26 من تقريره رقمS/2006/893 تاريخ 15/11/2006 المرفوع إلى مجلس الأمن مع مشروع نظام المحكمة لتبرير اعتماد مسؤولية الرئيس الجزائية عن فعل مرؤوسيه بالقول إن مبدأ مسؤولية القادة معتمد في قانون العقوبات والقوانين العسكرية الوطنية ومبادئ القانون الجنائي العام، (منها أحكام الاتفاقية الدولية لقمع الهجمات الإرهابية بالقنابل لعام 1997 والمادة 28 من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية) لا يجد سنده في القانون اللبناني، لأن لبنان لم يكن بتاريخ إنشاء المحكمة الخاصة قد أبرم الاتفاقية الدولية المذكورة ولا نظام روما، كما أن قانون العقوبات وقانون القضاء العسكري اللبناني لا يتضمنان أحكاماً تتناول مسؤولية القادة والرؤساء عن جرائم ارتكبها مرؤوسوهم مماثلة لتلك الواردة في نظام المحكمة الخاصة. ونتساءل هنا من ضلَّل الأمين العام وأعطاه هذه المعلومات الخاطئة، ألم يكن من واجبه التأكد من صحتها وذلك حفاظاً على مصداقيته؟
بناءً عليه، وبما أن الشريعة اللبنانية لا تتضمن لا في قوانينها الجزائية الداخلية ولا في الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها وفقاً للأصول الدستورية والتي لها قوة القانون الوطني نصوصاً تُحمِّل الرؤساء مسؤولية الأفعال الجرمية التي يرتكبها مرؤوسوهم، كما ورد في المادة الثالثة من نظام المحكمة الخاصة، وعملاً بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات وقاعدة عدم رجعية النصوص القانونية الجنائية الموضوعية، لا يجوز اعتماد أحكام قانونية مستحدثة بموجب هذا النظام الأساسي وتطبيقها على جرائم تدخل في اختصاصها ارتكبت قبل بدء نفاذ أحكام هذا النظام وفقاً للأصول الدستورية اللبنانية المعمول بها.
وتأكيداً لوجوب احترام قاعدة عدم رجعية النصوص القانونية الجنائية الموضوعية، واستناداً لمبادئ العدالة الجنائية الدولية التي تتبنى ذات القواعد المشار إليها أعلاه، تقتضي الملاحظة أن نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية الذي اعتمد مسؤولية القادة العسكريين والرؤساء عن الجرائم المرتكبة من مرؤوسيهم، لحظ في المادة الحادية عشرة منه أن ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ النظام الأساسي. أما بالنسبة للمحاكم الجنائية الدولية الخاصة ليوغوسلافيا ورواندا فإن وضعها مختلف عن وضع المحكمة الخاصة بلبنان، لأن هذه المحاكم أنشئت ومارست مهامها بموجب قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع وطُبِّقت أحكام نظام هذه المحاكم على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة المرتكبة قبل إنشائها باعتبارها شُرِّعت بموجب قرارات قسرية &laqascii117o;Mesascii117res Coercitives"، ملزمة للدول المعنية التي كانت أنظمتها السياسية والقانونية والقضائية منهارة أو معدومة الوجود.
وهذا الوضع يختلف عن ظروف وأسس إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، حيث أن النظام القضائي والقانوني في لبنان لا يزالان يعملان بصورة طبيعية، والدليل على ذلك أن مشروع الاتفاقية الدولية بين لبنان والأمم المتحدة، اعتمد إنشاء محكمة مختلطة من قضاة دوليين ولبنانيين، تطبِّق وفقاً لنظامها القوانين الجنائية الموضوعية اللبنانية ومعايير العدالة الجنائية (يراجع ما ورد بهذا المعنى في البند الثامن من تقرير الأمين العام رقم S/2006/176 المشار إليه أعلاه).
وتقتضي الملاحظة أن المسودة الأولى للنظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان التي وضعت من قبل فريقي التفاوض، اعتمدت أحكاماً تعتبر أن اختصاص هذه المحكمة يتناول الجرائم ضد الإنسانية، وترفع الحصانة بالتالي عن الرؤساء، وتعتبر الرؤساء مسؤولين عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم الذين يخضعون لسيطرتهم، إلا أنه بعد تدخل بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن المعارضة لهذه الأحكام، تم إلغاء بعضها وهي تلك المتعلقة باختصاص المحكمة للنظر بالجرائم ضد الإنسانية ورفع الحصانة عن الرؤساء من نص المشروع النهائي للنظام. أما مسؤولية الرؤساء عن الجرائم المرتكبة من مرؤوسيهم فقد بقيت في هذا النص بالرغم من إلغاء اختصاص المحكمة للنظر بالجرائم ضد الإنسانية الذي كان قد يبرر اعتمادها. وإن بقاءها يشكل تحايلاً على المبادئ القانونية عن طريق إدراج مضمون قواعد ومفاهيم جرمية متعلقة بالجريمة ضد الإنسانية في أوضاع قانونية مختلفة، اعتمدها نظام المحكمة عندما اعتبر أن جريمة اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه تدخل ضمن الجرائم الإرهابية وفقاً للمادة 314 من قانون العقوبات اللبناني.
جيم: الفقرة الثالثة من المادة الثالثة
نصت هذه الفقرة على ما يلي:
لا يعفى مرتكب الجريمة من المسؤولية الجنائية لكونه تصرف بأمر من رئيسه إلا أنه يجوز للمحكمة الخاصة أن تنظر في تخفيف العقوبة إذا رأت في ذلك استيفاءً لمقتضيات العدالة.
تعليقاً على هذه الفقرة، نبدي ما يلي:
إن هذه القاعدة مأخوذة كما هي الحال بالنسبة لمسؤولية الرؤساء عن أحكام نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية (المادة 33) ونظام المحكمة الدولية الخاصة ليوغوسلافيا سابقاً ولرواندا التي تنظر بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة والحرب، مع الملاحظة أن أحكام المادة 33 المذكورة تضمنت حالات معينة يعفى فيها من تصرف بأمر رئيسه من العقوبة، في حين أن نظام المحكمة الخاصة بلبنان ونظام المحاكم الدولية ليوغوسلافيا ولرواندا المنشأة بموجب الفصل السابع لم تلحظ مثل حالات الإعفاء هذه.
تنص المادة 226 من قانون العقوبات اللبناني على أنه لا يعاقب الموظف العام أو العامل أو المستخدم في الحكومة الذي أمر بإجراء فعل أو أقدم على فعل يعاقب عليه القانون إذا اعتقد لسبب غلط مادي أنه يطيع أمر رؤسائه المشروع في أمور داخلة في اختصاصهم وجبت عليه طاعتهم فيها.
لذلك، لا يجوز قانوناً ولذات الأسباب التي أوردناها أعلاه فيما يتعلق بمناقشة مسؤولية الرئيس عن جرائم مرؤوسيه، اعتماد نص تجريمي مستحدث في نظام المحكمة الخاصة، وتطبيقه على جرائم ارتُكبت قبل بدء نفاذ هذا النظام.