- 'النهار'
ثالث رئيس إيراني يزور لبنان وسط ارتياب محدود.. فنيش: نستغرب افتعال قضية.. القصار: إيران حريصة على الاستقرار
تحقيق:عباس الصباغ:
ما بين مرحب ومرتاب بزيارته يفترض وصول الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد الى بيروت في 13 الجاري تلبية لدعوة من نظيره اللبناني العماد ميشال سليمان، الذي سبق وزار ايران في 25 تشرين الثاني 2008. وجرياً على عادتهم ينقسم اللبنانيون حول توصيف هذه الزيارة، خصوصاً انها تأتي في خضم أزمة سياسية حادة تنذر بتداعيات خطرة. لكن هل يجب إثارة كل هذا الصخب ازاء وصول رئيس دولة صديقة الى لبنان. وهل هناك ثمة مبرّرات للتخوف مما يمكن أن تحدثه من تداعيات؟!.
ليس الرئيس الايراني الحالي محمود أحمدي نجاد الرئيس الايراني الاول الذي يزور لبنان، اذ سبقه خصمه الانتخابي السابق الرئيس محمد خاتمي في العام 2005، في زيارة اتسمت بالحفاوة في عهد الرئيس السابق إميل لحود.
وأيضاً زار لبنان الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1957 عندما حلّ ضيفاً على الرئيس الراحل كميل شمعون. الا ان الزيارة المرتقبة لنجاد تثير تحفظات لبنانية، خصوصاً من بعض الشخصيات المسيحية المنضوية في قوى 14 آذار وسط تحذيرات اسرائيلية متكررة للحكومة اللبنانية مما تسميه تل أبيب عواقب غير حميدة لهذه الزيارة، في الوقت الذي يرحب 'حزب الله' وحلفاؤه بالزيارة.
'حزب الله': زيارة رئيس صديق
يعتبر 'حزب الله' معنياً بالزيارة الحدث، ووفق ما هو معلن فانه في صدد ترتيب استقبال شعبي حاشد للضيف الحليف، في الوقت الذي يستغرب وزير الدولية لشؤون التنمية الادارية محمد فنيش اثارة التساؤلات حول الزيارة المرتقبة للرئيس نجاد ويعتبرها زيارة رئيس دولة صديقة ويقول: 'استغرب افتعال قضية غير مبررة حول زيارة الرئيس نجاد، خصوصاً انه رئيس دولة كبيرة تدعم لبنان في تحرير أرضه وبالتالي هي زيارة طبيعية لأي رئيس دولة صديقة، وتندرج في اطار العلاقات الطبيعية بين شعبين لهما تاريخ مشترك ومصالح مشتركة، ما يجعل السؤال المطروح اصلاً عن تأخر مثل هذه الزيارة لأن حصولها أمر طبيعي في الوقت الذي نرى ان عدم حصولها يكون أمراً غير طبيعي'.
ويرى فنيش ان الزيارة تعزز حضور لبنان وتشكل دعماً له في مواجهة التهديدات والاخطار الاسرائيلية، ويشير الى المصالح المشتركة بين لبنان وايران ويضيف: 'لقد عرضت ايران تقديم المساعدات العسكرية وتسليح الجيش اللبناني وتلبية حاجاته في حال طلبت الحكومة اللبنانية ذلك. اضافة الى ان العرض الايراني لحل مشكلة الكهرباء في لبنان قائم وينتظر طلب السلطات اللبنانية عدا عن توفير الدعم الايراني في مشاريع انتاجية عدة (...)'.
ويذكر ان بين لبنان وايران اتفاقات اقتصادية عدة والزيارة تأتي لتضع بعضها موضع التنفيذ وتساهم في تطوير العلاقات المشتركة.
القصّار: إيران تقف إلى جانب لبنان
من جهته، يعتقد وزير الدولة عدنان القصار ان ايران ومن خلال علاقاتها الوطيدة بـ'حزب الله'، ومن خلال حلفائها الداخليين، تستطيع ضبط ايقاع التصعيد السياسي، وبالتالي يعوّل كثيراً على زيارة الرئيس الايراني الى لبنان.
ويضيف: 'للزيارة أهمية على المستوى السياسي، ولها أيضاً أهمية على المستوى الاقتصادي، خصوصاً انها سوف تشهد توقيع اتفاقات مهمة بين الجانبين اللبناني والايراني، سواء في مجالات الاستثمارات، الصحة، التجارة... الخ، وهو ما يعزز مجالات التعاون الاقتصادية، وينمي بالتالي حركة التبادل التجاري التي بلا شك تحتاج الى التطوير والتفعيل'.
ويذكر القصار ان لقاءات اقتصادية عدة استبقت الزيارة، ويشير الى أن الشخصيات الاقتصادية ورجال الاعمال اللبنانيين والعرب سيلتقون الرئيس الايراني في مقر اقامته من أجل تعزيز التعاون الاقتصادي بين لبنان وايران. ويرى 'ان كل الزيارات الرسمية مفيدة، لأن الاتصال الشخصي يقرب الناس من بعضهم وينسحب على التفاهم في ما بينهم. وافادة لبنان من زيارة الرئيس الايراني مقرونة بنتائج المباحثات التي سيجريها مع المسؤولين والقيادات اللبنانية. وهذا ما سيظهر تباعاً بعد الزيارة من خلال الخطاب السياسي الذي ستعتمده القوى السياسية على اختلاف اتجاهاتها. انما في شكل عام، كما ذكرنا، فان اي زيارة يقوم بها رئيس دولة عربية او اسلامية او اجنبية الى لبنان لها مردود ايجابي. والجمهورية الاسلامية في ايران وقفت ولا تزال الى جانب لبنان في محنه، وهذا برز جلياً في خلال العدوان الاسرائيلي في تموز 2006 سواء من خلال الموقف السياسي عبر دعم المقاومة، او من خلال تقديمها المساعدات العاجلة للمهجرين من الجنوب، وبلا شك فإن ايران حريصة على توفير الهدوء والاستقرار، وبعدم انفلات الأمور لدرجة تصعب السيطرة عليها في ما بعد، وهذا بالتأكيد ما سوف يحرص الرئيس الايراني على تأكيده الى المسؤولين اللبنانيين والقيادات السياسية التي سوف يلتقيها، من هنا فإن الزيارة التي تأتي في هذا الظرف الداخلي الدقيق سوف يكون لها افادة، خصوصاً ان هناك اجماعاً اقليمياً ودولياً على ان الفتنة في لبنان خط أحمر'.
جنوب مرحب وشمال... معترض
يعيش لبنان هذه الايام انقساماً سياسياً حاداً محوره فريقان: الاول يحبذ ما يسمى معكسر الاعتدال الممتد من السعودية الى رام الله، في الوقت الذي يتحمس فيه الفريق الآخر لمعسكر الممانعة الذي يبدأ في سوريا وايران وينتهي في غزة. ومن هذا المنطلق يضع الطريق الاول زيارة الرئيس الايراني في خانة الدعم لخصمه السياسي بغض النظر عن مجاهرته بحقيقة موقفه، رغم التسريبات عن قيام تحركات احتجاجية على الزيارة في شمال لبنان، ولوحظ رفع لافتات غير مرحبة بزيارة الضيف الايراني. في الوقت الذي يتحضر جنوبه لاستقبال 'الحليف الكبير'.
ويعلق فنيش: 'الجنوب هو جزء من الوطن وايران نفذت مشاريع انمائية عدة في لبنان، وخصوصاً في الجنوب، بعد العدوان الاسرائيلي في تموز 2006، وزيارة نجاد الى الجنوب هي للاطلاع على تنفيذ هذه المشاريع، عدا عن ان هناك علاقة تاريخية بين جبل عامل وايران، علاقة دينية وثقافية ضاربة في التايخ بين الجنوب وايران (...)'.
ويرى وزير الدولة لشؤون التنمية الادارية ان الزيارة المرتقبة تضر كل من 'يراهن على اضعاف لبنان وافقاده لحلفائه واصدقائه ودفعه للتخلي عن قوته المتمثلة بالمقاومة، وجعل البلد جزءاً من مشروع النفوذ الاميركي. وبالتالي فان كل هؤلاء هم من المتضررين من زيارة الرئيس الايراني الى لبنان، في الوقت الذي نرى في زيارته تأييداً وتقديراً لمكانة ايران ووقوفها الى جانب بلدنا الذي واجه العدوان الاسرائيلي، وهي تشبه ايضاً زيارة امير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الى لبنان نهاية تموز الفائت.
وفي السياق عينه يسأل القصار: 'لماذا تسبب زيارة الرئيس نجاد الى الجنوب، اذ ما حصلت، تحدياً لأي فريق سياسي في الداخل؟، ومن هذا المنطلق لا يجب ان يعتبرها البعض موجهة ضده او استفزازاً له، لا بل على العكس فان كل القوى السياسية، في الموالاة والمعارضة، معنية بانجاح زيارة الرئيس الايراني الى لبنان، والى الجنوب تحديداً. اما بالنسبة الى اسرائيل التي اعتبرت ان هذه الزيارة تشكّل استفزازاً لها، فإن هذه التصريحات غير مقبولة على الاطلاق ومرفوضة شكلاً ومضموناً، وهي تشكل تدخلاً سافراً من قبل العدو الاسرائيلي في الشؤون الداخلية اللبنانية، تضاف الى تهديداته التي يمارسها بحق لبنان وخرقه الدائم للقرار 1701 براً وبحراً وجواً، وعبر شبكة عملائه الذين ينشرهم على الاراضي اللبنانية. من هنا فان لبنان كدولة مستقلة يرفض ان يملي عليه احد من يجب ان يستقبل من قادة دول العالم ومن لا يجب، او ان يحدد له المناطق المحظورة او المسموحة للرؤساء الذين سوف يزورونه، شرط ان تحصل تلك الزيارات وفق الاصول المتبعة بروتوكولياً بين مختلف دول العالم'.
سعيد: نجاد مع فريق ضد آخر
في المقابل يعارض منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار الدكتور فارس سعيد زيارة نجاد الى الجنوب لأنها تعبير عن الخروج من الاطر الرسمية للزيارة، ويقول: 'ليست المرة الاولى التي يزور فيها رئيس عربي او اسلامي لبنان، وسبق ان زاره الرئيس خاتمي العام 2003 وكانت زيارته محصورة في الجانب الرسمي، واللافت في خطابه امام البرلمان اللبناني تقديره واعجابه بالتجربة اللبنانية. كما انه في العام 1958 زار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لبنان وأصر على ان يلتقي الرئيس فؤاد شهاب في خيمة على الحدود ولم يقم بزيارة البسطة، على سبيل المثال، حرصاً منه على الخصوصية اللبنانية. وعبد الناصر كان حدد بالتوافق مع اللبنانيين موقع لبنان المساند في الصراع العربي - الاسرائيلي، اما الرئيس (الراحل) حافظ الاسد فنقل لبنان الى بلد مواجهة في هذا الصراع، ونجاد يعتبره بلد المواجهة الأول'. ويضيف سعيد: 'ليست ايران على حدود اسرائيل انما لبنان والجيش اللبناني، واذا كان هناك من رسائل يريد نجاد توجيهها الى المجتمع الدولي فليس لبنان ولا الجنوب هو المكان المناسب لتوجيه هذه الرسائل'.
ويسأل سعيد: ماذا كان ليحدث لو ان الرئيس الاميركي باراك أوباما او الرئيس المصري حسني مبارك او الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز زاروا لبنان واستقبلتهم جماهير 14 آذار في ملعب المدينة الرياضية في بيروت او جونية؟ ويشكك سعيد في ان رئيس الجمهورية قد وجه دعوة رسمية لنجاد لزيارة لبنان، ويعتقد ان الأخير أعرب عن امنيته زيارة لبنان.
علماً 'ان السفير الايراني في بيروت غضنفر ركن أبادي يؤكد ان الزيارة تتم بناء على دعوة رسمية وجهها سليمان لنظيره الايراني.
'أمل': ايران داعم دائم للبنان
تربط حركة 'أمل' والجمهورية الاسلامية في ايران علاقات طيبة. ويفاخر الحركيون بأن وزير الدفاع الايراني الاسبق مصطفى شمران كان في صفوف 'أمل'، وفي السياق يقول عضو الهيئة التنفيذية في 'أمل' حسن قبلان ان العلاقات اللبنانية - الايرانية التاريخية تترجم المحبة الكبيرة التي يكنها الشعب الايراني لنظيره اللبناني، وخصوصاً لجبل عامل الذي يحضر أعلامه الكبار في المشهد الثقافي والفكري والديني في ايران وفي أبرز معالمها ومراكزها وشوارعها التي تحمل اسماء شخصيات لبنانية مثل الشيخ البهائي والشيخ لطف الله الميسي والحرّ العاملي والمحقق الكركي... الخ'. اضافة الى جسور التواصل التي قامت في العصر الحديث بين الشعبين حين برز الامام السيد موسى الصدر والشهيد شمران.
ويرى قبلان ان تطوراً كبيراً وسم العلاقات الرسمية والشعبية بين ايران ولبنان وتجلى في الدعم الواضح للبنان في مواجهة الحروب الاسرائيلية منذ الاجتياح الشهير في صيف العام 1982. واستمر الدعم الايراني للمقاومة والشعب اللبناني وظهر جلياً خلال عدوان تموز 2006 وبعده.
اما عن اهمية الزيارة فيعلق قبلان: 'تقدم ايران رسالة قوية تعبر عن دعمها للبنان ووقوفها الى جانب قضاياه المحقة في ظل مناخ اقليمي ودولي يشي بتصفية القضية المركزية في فلسطين ويحاول النيل من المقاومة في لبنان'.
وينفي عضو الهيئة التنفيذية في 'أمل' ان تكون للزيارة الايرانية اي تداعيات سلبية 'انما هي تأتي في سياق السياسة الايرانية المنفتحة والناشطة على محاور عدة'.
ويشير قبلان الى ان زيارة نجاد الى المنطقة الحدودية الجنوبية تشكل رسالة دعم للجنوبيين الصامدين في قراهم في مواجهة العدو الاسرائيلي، وهي أيضاً رسالة دعم للمقاومة والجيش اللبناني ومؤسسات الدولة.
عبيد
من جهته لا يخالف المدير العام السابق للاعلام محمد عبيد السياق العام لتوصيف فنيش و'رفيقه السابق' قبلان، ويضع الزيارة في موقعها الطبيعي باعتبارها 'زيارة لرئيس جمهورية دولة صديقة للبنان الى جانب العلاقات المميزة التي تجمع لبنان وايران، وخصوصاً لجهة المرجعية الدينية في ايران والتي تقلدتها شريحة اساسية في المجتمع اللبناني'. ويضيف: 'ايران تدعم لبنان في شكل كامل ودائم وفق ما يصرح به غير مسؤول لبناني، وآخرهم كان رئيس الجمهورية خلال لقائه نظيره الايراني على هامش اعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الفائت. ويذكر عبيد 'ان ايران دعمت الانتقال الهادئ للسلطة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005. وان ذلك تم عبر تسوية كانت ايران شريكاً أساسياً فيها'.
ويرى المدير العام السابق للاعلام ان 'ايران شريك اساسي ايضاً في النصر الإلهي الذي تكرس بعد عدوان 2006'. ويأمل ان 'تلقى الزيارة الاحاطة الايجابية من القوى اللبنانية كافة، وان يتم التعاطي معها بديبلوماسية عالية واحترام كامل، تماماً كما تعاملت ايران مع زيارة سليمان في تشرين الثاني 2008، وكما تتعامل الجمهورية الاسلامية مع زيارة اي وفد رسمي لبناني'.
* ليس خافياً على احد ان لبنان يمر في فترة حرجة من تاريخه الملّبد بالتناقضات، وان ايران لاعب اساسي على ساحته الداخلية من خلال علاقاتها المميزة مع 'حزب الله' وبالتالي في استطاعة الجمهورية الاسلامية لعب دور ايجابي في هذه المرحلة. ورغم الصخب العالي الذي يرافق زيارة الرئيس نجاد فان علاقة شريحة وازنة من المجتمع اللبناني بايران تثبت ان التشيع حركة لا مؤسسة وليس رفض الشيعة للحاكم المنحرف في ايران، حتى لو كان شيعياً، سوى دليل الى مأسسة العلاقة اللبنانية مع طهران.
ومن نافل التذكير ان الشاه الايراني الشيعي لم يكن موضع ترحيب شيعي لبناني... حتى لو قصد فاريا للتزلج العام 1957، في الوقت الذي يقصد نجاد بنت جبيل للتذكير بسقوط بيت العنكبوت الاسرائيلي.
- 'النهار'
تعليقان على محورعلاقة الشيعة بالكيان.. بدأ الكيان اللبناني مع الطائفة المارونية فهل يشهد نهايته مع الطائفة الشيعية؟
بقلم جمال القرى:
إن قلق الطائفة الشيعية في لبنان، لا يعدو كونه جزءاً من قلق الاجتماع الطائفي اللبناني عموماً، وهو قلق على الحاضر والمستقبل بدءاً من خضوعه لنظام سياسي طائفي، تسود فيه بورجوازية كولونيالية، أي طائفيات سياسية تقوم على دعامتين أساسيتين كضرورة لاستمرارها: السيطرة الاقتصادية من جهة، ووجود راعٍ إقليمي أو دولي لها من جهة اخرى. مما أدخل لبنان في صراع هويات دينية ومذهبية، وأزّم انتماءه إلى المحيط، وحضّ كل سياسية طائفية منها على البحث - ومن دون كلل - عن إطار مكاني تستقر فيه، وتطبق فيه منهجها الثقافي، ومعتقداتها الدينية، بأسلوب حكم سياسي يجعل تحقيق واثبات الذات القلقة دوماً عبر التاريخ حقيقة ممكنة.
لا تشكل وفاة الرئيس كامل الأسعد بحدّ ذاتها مفصلاً من التاريخ السياسي اللبناني، إذ أن حقبة حكمه التي تميزت بضعف الشيعة نتيجة النظام الطائفي وإهماله لهم، انتهت فعلياً عند بداية تحول الشيعة طائفية سياسية.
ففي حين لم يبدد إعلان فرنسا قيام دولة لبنان الكبير بصيغته الطائفية عام 1920 قلق طائفتيه الأساسيتين سياسياً واقتصادياً، الموارنة والسنة، الأولى بإزاء إقامة دولة مسيحية، والثانية الرافضة للانسلاخ عن سوريا، فقد كان قلق الطائفة الشيعية مختلفاً، فهي كانت تعتبر طائفة غير أساسية وهامشية، وتميزت بضعف اقتصادي وسياسي، حيث تنتمي جغرافياً إلى مناطق الأطراف الملحقة بالكيان: منطقة البقاع المضموم لدواع اقتصادية، ومنطقة جبل عامل الجنوبية التي نجحت فرنسا بضمها لسلطتها رسمياً، في فترة لاحقة على نشوء الكيان بقليل، وبعد صراع مع بريطانيا في محاولة منها لإلحاقه بفلسطين مع هضبة الجولان وجبل الشيخ وحوران السورية.
استمد الموارنة قوتهم من سلطتهم السياسية والإدارية على جبل لبنان وأمسكوا بمفاصل الاقتصاد الرئيسية بدعم فرنسي مباشر وبعد ضعف وتهميش دور الدروز فيه. أما السنة فتعود قوتهم - عدا أنهم سكان مدن رئيسية ساحلية تمسك بمفاصل اقتصادية مهمة - إلى امتدادهم المذهبي والجغرافي للسلطة السياسية التي حكمت وسيطرت في دول المشرق العربي.
في البحث عن الذات
مع بداية القرن العشرين، كانت مجموعات كبيرة من سكان جبل عامل التي عانت الظلم العثماني، تتفاعل مع التطورات الفكرية والسياسية الحاصلة في المحيط نتيجة النهضة العربية، وتطوّر وعي قومي عربي ينهل من الأفكار القومية والعقائدية والعلمانية، مما ساهم في انخراطها باكراً في القوى المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، والنضال من أجل تحقيقه. فانهيار هذه الدولة لاحقاً، أفقدهم غطاءها السياسي، ولكنهم سرعان ما استظلوا ثورة فيصل العربية والتحقوا بها. في هذا الوقت، برزت زعامة آل الأسعد بشخص 'كامل الجد' إذ عّينه الأمير حاكماً على المنطقة بعد انهزام الثورة العربية.
سياسياً كان تمثيل شيعة الجنوب والبقاع في البرلمان يتم عبر فرض زعماء العائلات الإقطاعية الغنية، بقوة المال والسلطة مقابل أن تلعب هذه الزعامات فيه دوراً إلحاقياً، أي داعماً لإحدى القوتين الأساسيتين، وأن تنخرط في صراع محاورهما الداخلية والخارجية مقابل دعم زعامتها. أما اقتصادياً، فغالبية الشيعة كانت ترزح تحت وطأة الجوع والحرمان ودفع الضرائب، إذ عملت أساساً في الزراعة - خاصةً التبغ الذي كانت تحتكره الشركات الفرنسية. فنخر الفقر حياة جبل عامل الاجتماعية نتيجة إهمال الزعامات له وتخلي الدولة كلياً عنه، والذي كان سبباً لتخلّف اعداد من أبناء أُسر علماء الدين عن التوجه إلى النجف لتحصيل العلم الديني، ناهيك عن أن أساليب التدريس فيه لم تعد تتناسب مع تطورهم الفكري ونزعتهم التحررية وتطلعاتهم السياسية. فاتجهوا نحو دراسة الأدب والشعر والفلسفة، وانخرطوا في الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية بأعداد فاقت أعداد الطوائف الأخرى، في محاولة منهم لإثبات الذات السياسية الطامحة نحو العدالة الاجتماعية، كما كان رائجاً. وانخرطوا في كل المحطات النضالية والمطلبية نتيجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة في الكيان، وفي تلك الساعية للاستقلال، وصولا إلى دعم ثوار فلسطين. وبدأ موسم الهجرة إلى الشمال، صوب العاصمة والى الخارج، ليستكمل لاحقاً - وبوتائر متسارعة - بنزوح شعبي كثيف استقرت غالبيته في ضواحي بيروت وشكل في ما بعد ما أُطلق عليه تسمية سكان مدن الصفيح، واضطرت فئات واسعة منه للعمل في مهن وضيعة لتأمين لقمة العيش، وتعرضت أخرى للممارسات العنصرية والفوقية في مجتمع قائم أصلاً على فروقات طبقية كبيرة، ناهيك عن التعصب الطائفي، السمة المميزة للنظام.
بدء المأسسة، بدء تحقيق الذات
مع عودة الإمام موسى الصدر(اللبناني الأصل) إلى لبنان عام1958، لخلافة المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين نظراً الى نضوب سلالات العلماء المحليين، بدأ بتأسيس تيار اجتماعي سياسي شيعي، يعلو فوق الفروقات الاجتماعية والثقافية، بهدف إنشاء كتلة شيعية تزعزع زعامة آل الأسعد وأحزاب اليسار، ووقف المد الناصري والقومي العربي الناشط حينها بين الشيعة. واستطاع تحت شعار رفع الظلم والحرمان والإهمال عن الطائفة، استقطاب علماء دين ومجموعات مهمشة ومنقطعة عن الدولة في الجنوب والبقاع والضواحي، وتأطيرها في كتلة طائفية سمّاها 'حركة المحرومين' تحاكي كتل الطوائف الأخرى. فانتزع بالتهديد والاعتصامات اعترافاً رسمياً بوجود الكتلة الشيعية كمؤسسة طائفية أساسية قائمة بذاتها، لها مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، أبرزها 'المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى'، الذي ترأسه شخصياً وأناط به الدفاع عن كل حقوق الطائفة، وحمّله برامج إصلاحية للنظام اللبناني، وكذلك أفواج المقاومة اللبنانية 'أمل'. وما لبثت الحركة أن رُفدت تباعاً بمجموعات من أغنياء الاغتراب الشيعي. وتحالف مع النظام السوري عام دخول قواته العسكرية إلى لبنان في 1976، لوقف المد العسكري الفلسطيني.
نجح السيد في تحويل الشيعة مؤسسة طائفية فاعلة، شاركت في الاقتتال الداخلي مع الفلسطينيين. وفي خضّم هذا الصراع، غُيِّب عام 1978 في ظروف لا تزال غامضة. خلفه في المجلس الإسلامي الإمام الراحل محمد شمس الدين، الذي دعا الشيعة إلى الاعتدال والمصالحة والاندماج مع المجتمعات لكي تنهض فكرة الدولة الوطنية الحديثة.
بعد تغييب الإمام ، توطد تحالف الحركة مع النظام السوري، عند رئاسة نبيه بري لها، إذ أبلى بلاءً حسناً في حصار المخيمات وحربها، واظهر بأساً في المعارك الداخلية مع باقي الميليشيات، ومكّن السوري من امتلاك أوراق داخلية مهمة يستخدمها في تحالفاته وصراعاته الداخلية والخارجية، فاستحوذ على ثقته زمن الحرب وبعد انتهائها.
طُبعت هذه المرحلة بمتغيرات داخلية مفصلية، أهمها الاحتلال الإسرائيلي للبنان حتى العاصمة والخروج الفلسطيني منه، وتهميش دور الإقطاع وتراجع اليسار. إقليمياً انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وضُربت لها جذور في لبنان على يد حزب الدعوة وعلماء دين إيرانيين.
نشوء 'حزب الله' وازدواجية الذات
كان لنجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بقيادة الخميني، بالغ الأثر على لبنان، فقد شكلت بنيته السياسية والطائفية والاجتماعية والجغرافية حاجةً لهذا النظام الوليد والطامح للعب دور عالمي. فوجود موطئ قدم له على ساحل البحر المتوسط أمر ضروري واستراتيجي لصوغ تحالفاته وصراعاته مع الدول الإقليمية والدولية. فبدأ بتصدير ثورته إليه في لحظة زمنية مؤاتية: لبنان ساحة حرب، الطائفة الشيعية تعاني من الفراغ الذي تركه غياب الإمام الصدر، القتال يتفاقم بينها وبين الفلسطينيين، وخوف من وقوعها فريسة للسياسات الإقليمية. فقد تم ذلك عبر إنشاء وتطوير حركات جهادية عرفت لاحقاً بـ'حزب الله'، وهو نواة دولة إسلامية شيعية تحاكي النموذج الإيراني، وتقوم على عقيدة ولاية الفقيه (لا فصل للدين عن الدولة، الحكم للفقهاء وتطبيق القانون الإلهي)، والحرب الداخلية لرفع القهر والمظلومية، والحرب الخارجية لمواجهة الاستكبار العالمي، وعبر بناء مجتمع الحكم الشرعي. لذلك أعدّ سلك علماء دين جديد بأعداد مضاعفة عما كانت عليه، لتنشط في التعليم الديني في الحوزات والحسينيات التي شكلت نقطة انتشار مشروعه السياسي، وأدخل ثقافات جديدة على الاجتماع الشيعي من ناحية الملبس والطقوس والتعليم، واستحضر لاهوت المعجزة للأئمة المعصومين لتسهيل خرقه للواقع الجديد، وأضفى القدسية على أعماله، واستكملها بتجمعات ومؤسسات صحية ومالية وعسكرية، كل ذلك بدعم مالي إيراني.
استهل نشاطه العسكري بضرب المصالح الغربية في لبنان، وبتحضير مسرحه الجغرافي الداخلي، فطهّر أماكن وجوده من المعارضين، وخاض معارك عسكرية وجودية مع حركة 'أمل' في محاولة من كليهما لاحتكار تمثيل الطائفة، وأعاق نشاط مقاومي جبهة المقاومة الوطنية التي نفذت بين 1982 و1986، اكثر من 1000 عملية عسكرية ضد العدو الاسرائيلي وجيش لحد حيث كبدتهما 386 قتيلاً، واكثر من 2000 جريح، فيما قدمت هي اكثر من 200 شهيد، وليصبح لاحقاً المقاوم الوحيد للاحتلال.
بعد انتهاء الحرب، وبموجب اتفاق الطائف الذي حافظ على النظام- الصيغة، ولكن بموازين قوى شبه انقلابية على تلك في عام 1920، إذ منح المسلمين - بقوة شيعية - الغلبة وهمّش المسيحيين، جرى تقسيم سلطة الشيعة بين نبيه بري الذي حصد الحصة السياسية عبر ترؤسه مجلس النواب، وحكم عبر 'الترويكا'، والحزب الذي لُزّم تحرير الجنوب. أما الفئات الشيعية الأخرى وغير المنضوية تحت عباءة احدهما، وجلّها من المثقفين والمفكرين والمدنيين، فقد أُلغيت سياسياً واجتماعياً، ما عدا مجموعة منهم اختارت طوعاً الانضواء لأسباب تبدو مصلحية أو دينية أو سيكولوجية.
بعد التحرير عام 2000، وبدخول الحزب الحياة السياسية الداخلية، بقوة استمدها من سلاحه ومن تحريره للأرض ومن كتلته الشعبية المتراصة والمتماثلة، بدأ بابراز معارضته الشرسة لصيغة الحكم القائم، ومن دون تقديم رؤية سياسية واضحة لصيغة أخرى يرتئيها بديلاً، سوى قبوله الديموقراطية التوافقية وإلغاء الطائفية السياسية ( من شروط تحقيق إلغائها لهدف إصلاحي، وجود نظام مدني لا طائفي)، وهذا التباس يستكمل مع التباس آخر، هو تعريفه لفريقه 'السياسي'، بـ'المقاومة'، هذا الجمع بين الصفتين لايستقيم، لأن المقاومة أساساً ليست حزباً أو مشروعاً قائماً بذاته، ولا يمكن فصلها عن الدولة، بل تشكل عند الحاجة، مشروعاً تحمله سياسات الدولة لتحرير أرضها عند الاحتلال وتنتهي بانتهائه، أما تعمّد تظهيرها كفريق سياسي من ضمن الدولة، فيشي بأنها تحتمل في جنباتها مشروع دولة لن تتضح معالمه إلا بعد انهيار مؤسسات الدولة الحالية.
بعد اغتيال الرئيس الحريري والخروج العسكري السوري من لبنان (صمام الأمان)، تعاظم دور الحزب على حساب دور الرئيس بري (حامي الصيغة)، إن لجهة ملء الفراغ وإن لجهة حل الخلافات، لتأتي حرب تموز وتفيض في قوته لصموده العظيم فيها. هذا الفائض الذي أصبح أكبر من أن تتحمله الطائفة الشيعية ولبنان، فجّرته جماهير الحزب في الاعتصامات التي شلّت البلد ما يقارب العام والنصف، واستلحقه هو مع حلفائه بعملية 7 أيار الجراحية. وانتهت بعد ذلك باتفاق الدوحة الذي استكمل انقلاب الطائف وكرس صيغة للنظام معكوسة تماما عن تلك لعام 1920، إذ أصبحت الغلبة للشيعية السياسية بقيادة 'حزب الله'.
الآن، ومن دون الدخول في تفاصيل الخلافات الحالية حول المحكمة والقرار الظني وغيرها، يبدو أن الوضع في لبنان ينحو منحىً خطيراً وجديداً، إذ أن التهديد وصل إلى إسقاط مؤسسات الدولة المتبقية، فما النيّة وراء ذلك؟ انهيار الدولة، حسناً، ولكنه انهيار يضعنا أمام خيارات أحلاها مرّ، فإما حرب داخلية لا يوقفها سوى تدخل دولي وإقليمي مباشر، على غرار 1976 وإعادة ترميم الصيغة، وإما حرب إسرائيلية لا تبقي ولا تذر، وإما وهذا الأخطر، سقوط الدولة الضعيفة تكوينياً وحكم الأقوى فيها، 'حزب الله'، يحكمها بدولة إسلامية؟ سياسياً، هذا يعني انتفاءً لـ'النظام-الصيغة'، أي يعني انتفاء 'الكيان'، كون الصيغة والكيان متلازمين بالضرورة، وهذا لن يحصل إلا إذا انتفت الضرورات التي أدت إلى نشوئه. لقد علمنا تاريخنا أن محاولة إجراء أي تعديل على الصيغة كانت تنتهي دوماً بإلغاء التعديل وإلغاء حامل لوائها، والشواهد واضحة: فقد اغتيل كمال جنبلاط بعد أن حاول تنفيذ مشروعه الإصلاحي، واغتيل بشير الجميل عند عزمه إقامة وطن قومي مسيحي، كما اغتيل رينيه معوض عندما أفصح عن مشروع رؤيته لوطن موحد، وليس بعيداً اغتيل رفيق الحريري لحمله مشروعاً ليبرالياً.
فهل انتفت ضرورات استمرار الكيان؟ هل يعاد إنتاج النظام الطائفي بصيغة جديدة؟ وهل من متعقلين؟
مراجع:
1- 'تاريخ لبنان الحديث'، فواز طرابلسي.
2- 'دولة حزب الله'، وضاح شرارة.
3- 'بين فقه الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه'، وجيه كوثراني.
4- 'أبعاد التاريخ اللبناني الحديث'، نقولا زيادة.
5- 'في الدولة الطائفية'، مهدي عامل.
- النهار بقلم سامي الجواد ( قيادي في الحزب الديموقراطي الإشتراكي): الشيعة من العلاقة الظرفية بالكيان إلى العلاقة النهائية؟
لعل توازن الظروف أو على الأقل تشابهها بين الحالات في بحث أو مناقشة أي مسألة تاريخية من شأنه أن يكون مدخلا أو ضمانة لبحث موضوعي ومناقشة علمية نسبيا حول حقبة معينة من تاريخ أي بقعة. فمناقشة او تقويم أداء رئيسين حاليين أو رئيسين سابقين أو متوفيين قد تكون أكثر دقة وانصافا من مناقشة أداء رئيس سابق مع أداء آخر حالي، لأن موقع الرئاسة والسلطة الحاضرة قد تضع صدقية الباحث أو على الأقل حياده على المحك.هذا من جهة موضوعية الباحث، أما الجهة التي لا تقل أهمية فهي معرفة الباحث أو صاحب الرأي و بالأحرى إحاطته بالحد الكافي وليس الأدنى بالظروف والمعطيات التي يتشكل منها او فيها موضوع البحث.
لاستغرابي بعض الأساليب والمسميات وحتى المعطيات العلمية التي جاءت في متون بعض المشاركات السابقة، ورغبة في المشاركة حول محور جدلي في مناسبة قيمة، أردت أن أدلي بدلوي حول الواقع الشيعي من زاوية شيعية مختلفة.
كان الشيعة يشكلون أقلية تاريخية في المشرق العربي كما في العالم الإسلامي، ضمن هذه الأقلية كان الشعور بالغبن والحرمان والظلم جزءا لا يتجزأ من واقع الشيعة وثقافتهم الموروثة منذ نشأة المذهب المؤسس على المظلومية. كانوا دائما في موقع الممانعة والمعارضة لدائرة الحكم 'العربسلامي' مع ما ترتبه المعارضة على صاحبها من ظلم واضطهاد.
ولعل الفرصة الأولى التي حاول الشيعة اللبنانيون اقتناصها للخروج من دائرة الظلم كانت تحقيق سوريا الكبرى، الأمر الذي من شأنه تعزيز الدور الشيعي نتيجة لما يفرضه تقليل مساحة الحكم جغرافيا من تراجع نسبي للسيطرة الديموغرافية فالسياسية للطائفة الأوسع انتشارا. هذا بالإضافة إلى الضمانة التي كان يشكلها وجود الملك فيصل لناحية احتضانه للحركة السياسية الشيعية وضمان حريتها.
وفي التاريخ القريب أدى نشوء دولة لبنان الكبير في العام 1920 إلى نسف فكرة الدولة العربية أي سوريا الكبرى،فتجلت هنا الفرصة الثانية للشيعة اللبنانيين للدخول في كيان يعطيهم نسبة أكبر في التمثيل ويلحقهم بالدولة المدنية بعيدا عن حكم العائلات والقبائل والخلافة الإسلامية (السنية).
انخرط الشيعة في الدولة الناشئة متخلفين عن اللبنانيين الأوائل على صعيد الوعي المدني الدولتي بالمقارنة مع الوعي العقيدي السائد لديهم، فساهم تواجدهم في الاطراف في تأخير اندماجهم عملياً في هذه الدولة الوليدة والإستفادة من مكتسباتها على غير صعيد. في حين أن اللبنانيين الآخرين الآتين من لبنان القديم أو الصغير وهم المسلمون السنة والمسيحيون والدروز كانوا قد حظوا بحراسة ودعم الإرساليات على اختلافها وعناية الدولة أو السلطة بأشكالها منذ قرون سبقت قيام لبنان الكبير.
وفي محاولة منهم للدخول في مشروع دولة،اتجه الشيعة بعد مؤتمر وادي الحجير الذي عقد بدعوة من الزعيم الجنوبي الشيعي آنذاك كامل خليل الأسعد وبرعاية المجتهد الشيعي الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين قُدس سره، اتجهوا بخطى صادقة إلى الحضن العربي المتمثل بسوريا الكبرى. بيد أن هزيمة العرب في معركة ميسلون فرضت على الشيعة العمل على تثبيت لبنانيتهم واندماجهم بالمجتمع اللبنانيين كشركاء مؤسسين في وطن حديث النشوء. لم تستطع هذه الشراكة أن تكون شراكة متوازنة مع الشركاء الآخرين الذين يملكون قوة سياسية واقتصادية أقوى من الشيعة، بالإضافة إلى عراقتهم في العمل المؤسسي للدولة بمفهومه السائد آنذاك من السلطة والرئاسة والحكومة ومراكز الخدمة وغيرها، لكن الحضور الشيعي الذي التزم الإنتماء اللبناني دون التنكر لدوره العربي بدأ بالرسوخ والتقدم في المعادلة اللبنانية. ولعل المطلوب هنا وبالتحديد في دراسة وضع الشيعة في تلك المرحلة أن لا يقارن مع وضعهم اليوم بل مع وضعهم قبل الدخول إلى لبنان الكبير فقياس التقدم يكون مع السابق وليس مع اللاحق.
ففي تلك المرحلة كانت سلطة العشائر هي الفيصل قبل قيام لبنان الكبير لكنها لم تضمحل كسلطة وكقوة شعبية بل انتقل تأثيرها من الحكم المباشر إلى غير المباشر، وذلك عبر الإنتقال إلى العمل السياسي الديموقراطي أو الإنتخابي تحديداً إذ تمثل الشيعة في حكومات قبل الاستقلال وبرلماناته وشاركوا في صناعة ذلك الإستقلال بأدوار مختلفة (أحمد الأسعد – صبري حماده – محمد الفضل – عادل عسيران - رشيد بيضون وغيرهم).
وفي مراحل لاحقة استطاعت القوى والعشائر المسيطرة ولن أسميها الإقطاع – لتعدد معاني هذا المصطلح واستعمالاته – استطاعت ولو نسبياً أن تستجلب الدولة ومؤسساتها إلى المناطق النائية بصورة خجولة.
ويطيب لبعض أصحاب الغايات أن يربط تأخر الجنوب والبقاع على الصعيد الإنمائي بسياسة العائلات المسيطرة (الإقطاع) ويحملها المسؤولية عن هذا التأخر دون النظر إلى ما سلف عرضه من واقع الظروف ودون البحث في الأسباب البنيوية الإقتصادية وحتى الإجتماعية التي تفسر وجود الفوارق الإقتصادية التي أخذت في نهاية المطاف مظهراً سياسياً.
فكما هو ثابت في الواقع، بيروت للسنة في معظمها مع جزء للمسيحيين، جبل لبنان للمسيحيين، الشوف للدروز، الجنوب والبقاع للشيعة، الشمال للمسيحيين والمسلمين السنة.
إنطلاقاً من تناغم التوزيع الديموغرافي للسكان مع الإنتماءات الطائفية والمذهبية، ومن حقيقة سوء التوزيع الرهيب للدخل القومي الوطني كما لقطاعات الإقتصاد، نرى ان الفئة المستفيدة بشكل أكبر من النظام الإقتصادي ثم السياسي هم أهل الجبل وبيروت.
بعد نشوء الكيان الصهيوني عام 1948 بدأت عملية تصدير المؤامرة على لبنان فكان الجنوب مدخلاً أساسياً لها بحكم الواقع الجغرافي والسياسي فكان مسرحاً للعمليات العسكرية وللقصف المستمر مما أدى إلى حدوث المجازر، الوقائع التي ساهمت في هجرة ونزوح أهالي الجنوب عنه فأفرغت المنطقة الحدودية لمصلحة المنظمات المسلحة ومن بعدها للإحتلال.
لم يكن الشيعة بعيدين عن الخط العربي الناصري حيث ناصروا قيام الوحدة بين سوريا ومصر وهنا يظهر جليّاً تجذر الإنتماء العربي لدى الشيعة بالذات مع التمسك بالإستقلالية اللبنانية.ولعل الشاهد الأكبر على ذلك يوم الجنوب في دمشق عام 1958 حين ذهب الجنوبيون بزعامة المرحوم أحمد بك الأسعد لموافاة الرئيس جمال عبد الناصر.
الواقع الجنوبي لم يكن بحال أفضل بعد الدخول العسكري الفلسطيني على الخريطة العسكرية السياسية الداخلية لاسيما بعد توقيع اتفاقية القاهرة التي عارضها الرئيس الأسعد خوفاً من ضياع الجنوب ومن ثم لبنان من جرائها.
تجاوزات ومضايقات الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي زادت وضع الجنوبيين سوءاً وأدت إلى تهجيرهم بشكل أوسع.
إزاء الواقع الأمني والسياسي المستجد والمتمثل بالتهديد الإسرائيلي المباشر انخرط بعض الشباب الشيعي في العديد من المنظمات السياسية والميليشيات المحلية وغيرها وذلك بهدف مقاومة الإحتلال من جهة وسعياً للكسب المادي من جهة أخرى كما لا يمكن التنكر للدور الذي لعبته الأحزاب اليسارية في الإستقطاب السياسي تحت شعارات الإصلاح الإقتصادي ومحاربة الإقطاع، هذه القوى التي تحركت في ظل حالات المد الشيوعي ووجود الإتحاد السوفياتي كقوة داعمة لحركات التحرر ولبعض الدول العربية، ولا يغيب عن بالنا بأن الزعامات الشيعية لم تدخل عالم التسلح مما أفسح المجال لبروز قوى إستقطاب جديدة.
جاءت الحرب الأهلية اللبنانية (1975) لتهدم أسس الدولة ومؤسساتها، مما جعل الوطن ككل بين فكي الإحتلال من جهة وانهيار الدولة من جهة أخرى وكان للشيعة بحكم تواجدهم في الجنوب الحصة الأكبر من الأذى.
إن وجود الشيعة في منطقة النزاع وفي قلب الجبهة الوحيدة المفتوحة في الصراع العربي - الإسرائيلي جعل منهم محل تجاذب واستقطاب من قبل كل القوى الطامحة والساعية إلى دور في المنطقة (ليبيا – مصر – منظمة التحرير – الجزائر – سوريا وغيرها) وهذا ما فسّر وجود الشيعة في العديد من المنظمات بعكس التفسير الذي يرد ذلك إلى الحرمان ومحاربة الإقطاع.
عام 1976، دخلت قوات الردع العربية إلى لبنان بطلب من السلطة اللبنانية. لم يلبث الوجود العسكري أن تحول إلى تأثير سياسي. رئاسة مجلس النواب كانت الكرسي الأول للطائفة الشيعية وكانت علاقة السلطة السورية بالزعامة الشيعية المتمثلة بالرئيس كامل الأسعد قوية جداً حيث كان هناك تفاهم بين الرئيسين الأسد والأسعد على الخطوط العريضة وطنيا وقوميا.
شكل تأسيس حركة أمل كقوة عسكرية شيعية مجالاً جديداً للإستقطاب سواء في الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان الإنقسام سائداً بين المعسكرات، أم من حيث الفرصة التي وجدها البعض لمقاتلة إسرائيل علما أن حركة أمل أُعلنت في 1975 إي قبل 7 سنوات من الإجتياح 1982.
شكلت حاجة الجنوبيين والشيعة تحديداً إلى الحماية والدعم جراء الإجتياح وبعد انهيار الدولة اساساً لدخول الفلسطينيين والسوريين في حركة استقطاب داخل الصف الشيعي تحديداً حيث كانت حرب المخيمات أحد أوجه الصراع الفلسطيني السوري.
شكلت الثورة الإسلامية في إيران 1979 العامل الأبرز في شد عضد الشيعة ومساندتهم في مجالات شتى، فإيران الشاه المتفاهمة مع الولايات المتحدة هي غير إيران الخميني التي حاربت الولايات المتحدة لتصبح راهناً القطب الذي قد يعيد الثنائية إلى النظام الدولي. لكن الأهمية والحذر في تقويم الواقع الشيعي بعد الثورة الإسلامية في إيران يكمن في نوع العلاقة التي ربطت بينهما.
قبل الثورة الإيرانية كانت حوزة النجف الأشرف هي المرجعية الوحيدة للبنانيين الشيعة في أمورهم الفقهية والعقيدية، لكنها كانت محصورة في هذا الإطار، ودخول الحوزة الإيرانية ساهم في نشوء حالة عقيدية متميزة،مختلفة،تسير بالتوازي مع المرجعيات الأخرى لكن باستراتيجية أعمق وأبعد مدى.
بعد تنامي حركة المقاومة وظهور 'حزب الله' المدعوم والمدرب إيرانياً جاءت الثورة الإسلامية لتشكل رافداً إضافياً لحركة الشيعة في لبنان. لكن الأهم في تلك المرحلة هو تميز علاقة 'حزب الله' بإيران عن علاقة الزعامات الشيعية كالرئيس الأسعد وغيره من القيادات كالسيد موسى الصدر وسائر الأحزاب بسوريا كراعٍ إقليمي.
وهنا لا بد من تصويب البوصلة بقصد الإنصاف والتفسير، فعلاقة 'حزب الله' بإيران وإن كانت علاقة عقيدية عميقة تتعدى الحدود ولا تعترف بالكيانات، فإن ثمة استفادة لبنانية من قوة هذه العلاقة تمثلت بالدعم العسكري الذي قدمته إيران للمقاومة اللبنانية.
إن علاقة الحزب الآخذ في الإتساع والتعمق داخل البيئة الشيعية، مع الجمهورية الإيرانية هي علاقة عضوية، فالحزب بالمفهوم العقيدي هو جزء من النسيج الإيراني الشيعي وتحت امرة القائد الواحد الذي هو الولي الفقيه. إذن، رغم اختلاف المراحل وتعدد الصراعات ظلت حركة الشيعة حركة لبنانية ذات علاقات مع الجوار إلى حين بروز العلاقة مع الجمهورية الإيرانية.
بالعودة إلى محور الحلقة وهو رمزية رحيل الرئيس كامل الأسعد،آخر وأهم السياديين والكيانيين والإستقلاليين، نشير إلى تمتع كامل الأسعد اللبناني الشيعي بميزات رجل الدولة، وممارسة تلك الميزات ممارسة انعكست وحدة وطنية حقيقية في اكثر المراحل دقة وحراجة، حيث ثبت لبنانيته من موقعه الشيعي وبإسم الشيعة، محافظا بذلك على وحدة المؤسسة الدستورية الأم ومن خلالها على وحدة الوطن ككل. لم يؤمن كامل الأسعد بالمطالب الفئوية على أحقيتها، معتبرا أن قيام الدولة الحقيقية يحقق مطالب الجميع، في حين تحمل المطالب الفئوية اسباب فشلها من خلال استقدام مواقف فئوية مضادة من موقع رد الفعل. هذه الميزة التي التزم بها كامل الأسعد، ميزة رجل الدولة، كانت ضمانة بقاء لبنان من جهة والطريق إلى أخصام كامل الأسعد للنيل من زعامته وحضوره الشعبي في آن واحد، وذلك عبر مقابلة سلوكه المدني العقلاني بالسلوك الفئوي الديماغوجي.
كما نؤكد بأن رحيل هذا الرمز تحديداً هو بمثابة رحيل للإستقلالية اللبنانية التي كان يمثل كامل الأسعد آخر وجوهها. ولعلني اتفق هنا مع الدكتورة منى فياض في أن دخول كامل الأسعد المعترك السياسي كزعيم عزر في نفسه إمكانية الإستقلال ونزعة العنفوان التي لا تتفق مع التبعية.ما يهمني تأكيده هو أن الزعامات الشيعية التقليدية لم تلعب لعبة الإلغاء ولم تمارس دور الإكراه السياسي بمعنى التسلط الملحوظ راهناً واستشهد هنا بمجيء المحامي ابرهيم حلاوي وزيرا في العام 1983 في حين كان آل حلاوي الكرام لا يوالون الرئيس الأسعد. هذا بالإضافة إلى عدم احتكار القدرة على تأمين الخدمات فكان للمواطن فرصة التوجه إلى ابن الأسعد أو ابن عسيران أو ابن الزين أو ابن الخليل كممثلين عن الجنوب مثلاً أما اليوم فالواقع الشيعي مختزل وممسوك في إقطاعية مستجدة انتجتها الميليشيا لا الوراثة السياسية وغذتها حمية الطائفة واستفتاءات حمايتها. الآحادية لم تكن موجودة في عملية تمثيل الشيعة ولا حتى في خياراتهم، الرئيس أحمد الأسعد ونجله الرئيس كامل الأسعد كانا ممثلين في المجلس الذي رأسه الرئيس عادل عسيران الأمر نفسه تكرر مع الرئيس صبري حمادة وكامل الأسعد. الرئيس أحمد الأسعد عارض الرئيس شمعون بينما حالفه الرئيس عادل عسيران، والنائب كاظم خليل الذي كان نائباً لرئيس حزب الوطنيين الأحرار.
الشيعة لم يكونوا هامشيين قبل الطائف ولا قبل السيد موسى الصدر، الظروف الإقليمية والدولية تغيرت فانعكست على الواقع اللبناني. ولو لاحظنا دور الرئيس الأسعد في منع التجديد للرئيس شهاب وفي انتخاب الرئيس حلو ومن ثم فرنجية إلى سركيس والجميل، لوجدناه دورا محوريا ورياديا مسؤولا يتحرك من العمل الدستوري انطلاقا من اقتناعات شخصية في ضوء المصلحة العامة، وذلك رغم القيود الكثيرة التي كانت تحد من سلطة رئيس المجلس قبل الطائف وفي ظل سلطة شبه مطلقة تتمركز بيد رئيس الجمهورية.
في الختام لفت انتباهي التصوير الخاطئ والمختلق للعلاقة بين الرئيس كامل الأسعد والسيد موسى الصدر وكأنها حالة عداء أو كأن قضية السيد الصدر كانت محاربة كامل الأسعد، أو أن مطالبه الإنمائية كانت في مواجهة كامل وليس بالتنسيق معه.
لا أنفي وقوع الخلاف بين الرجلين لكنني أستطيع أن أؤكد على دور الرئيس الأسعد في تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ومن ثم في دعم مسيرة السيد الصدر والتنسيق معه في مسائل عديدة. وكانت وثيقة الإستراتيجية الوطنية التي صدرت عن اللقاء النيابي الذي ضم نواب الطائفة الشيعية وذلك بالتنسيق الكامل مع السيد موسى الصدر أعاده الله. وهنا أود أن اذكر بأن مقررات الإجتماع النيابي الذي عقد في العام 1972 في بلدة جويا الجنوبية على أثر التوغل الإسرائيلي الذي حصل آنذاك، نصت على تسليح الجنوبيين وعلى رفض العمل العسكري الفلسطيني وكان السيد الصدر إشترط إعلان هذين القرارين بالتنسيق مع الرئيس الاسعد الذي لم تسمح تركيبته المدنية بالمشاركة في لقاء شيعي بحت وهو في رئاسة مجلس النواب.
الشيعة اليوم وبعد رحيل كل من الرئيس كامل الأسعد والمرجع المجدد السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وبعد ابتعاد أو ابعاد الرئيس حسين الحسيني وغياب السيد موسى الصدر، الشيعة اليوم يمثلون عدديا وماليا وعسكريا قوة شيعية كبيرة تتعدى حدود الوطن بل وقدراته، هذه القوة نخشى أن يصبح مدى خطورتها أكبر من هامش الإستفادة منها. وإذا كان لبنان وطنا نهائيا لجميع أبنائه على اختلاف طوائفهم، فإن من الشيعة اليوم وإن كانوا يمثلون جزءا اساسيا من مكونات الإجتماع اللبناني، من يعتقد ويدعو للعمل من اجل الدولة العالمية التي ستطبق العدل في العالم والتي سيقودها الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر). إزاء هذا الإعتقاد تعتبر علاقة الشيعة بالدولة والكيان علاقة ظرفية عابرة ودورهم فيها ليس إلا خطوة في الطريق إلى الدولة المهدوية العالمية.
هل هناك ثمة قوة شيعية لبنانية تستطيع ان ترجح كفة نهائية الكيان اللبناني بالنسبة للشيعة على كفة ظرفيته؟ يبقى هذا السؤال هو الأساس لما ستؤول إليه كل التطورات المتصلة بالوضع اللبناني القائم والمستقبل المنتظر.