ـ 'السفير'
الإصلاح في الطوائف؟
سليمان تقي الدين:
كانت السياسة اللبنانية تقوم على تيارات مدنية، وطنية، قومية، يسارية، وتنوّع في المصادر الثقافية. أدت الحرب المركّبة إلى انهيار التيارات المدنية لصالح التطئيف والتمذهب. لم تعد هناك مصادر عقلانية للسياسة. يتغذى الإسلام السياسي من العقائد الدينية الموروثة، ويفقد المسيحيون والدروز ثقافتهم الليبرالية. انشقت المؤسسة السياسية المسيحية على خيارين، الأول يستغرق في اللبننة التي تقود إلى الانعزال، والثاني يسعى إلى &laqascii117o;مشرقية" تحضنه وتحميه كتيار سياسي طائفي منفتح. أما الدروز فلم يستعيدوا توازنهم السياسي بعد الارتجاجات الناشئة عن وحدانية الزعامة وتقلباتها.
أنتجت ثقافات الطوائف في الماضي رؤى مشتركة للبنان تتقوى وتنمو على المصالح المدنية في إطار الدولة كمجال عام. ساهمت العقلنة السياسية، لا سيما الضغط المتمثل بالقوى العلمانية، في تعزيز المجال الوطني على حساب المصالح الفئوية. أما اليوم فقد فاضت المؤسسات السياسية الطائفية وألغت المساحات المشتركة وراحت تبحث عن إيديولوجيات هزيلة لتبرير هوياتها ومشاريعها.
لم تعد &laqascii117o;اللبننة" مفهومة أصلاً في ظل صمود الكيان الجغرافي وحدوده. ولم تعد &laqascii117o;العروبة" مفهومة في ظل خوائها كمشروع بعد أن تحولت الأنظمة التي حملت شعاراتها إلى ارتباط سياسي تفرضه موازين القوى. ولم تعد &laqascii117o;المشرقية" ذات معنى يتعدّى التكيّف مع محاولات تشكيل منظومات إقليمية غير محسومة، تتنازعها تيارات سياسية وثقافية واقتصادية كبرى.
في أزمة لبنان الوجودية اليوم تتحكّم الظرفية السياسية والبراغماتية (النفعية المؤقتة) بالتطورات فيه. فلا السنّية السياسية يمكن أن تتأصل خارج العروبة، ولا الشيعية السياسية يمكن أن تتحوّل إلى ثورة دائمة خارج الجغرافيا، ولا المسيحية السياسية يمكن أن تستمر كمشروع في زحمة الاضطراب الإسلامي السياسي والعقائدي، ولا الدرزية السياسية يمكن أن تعيش من دون التوازن بين هويتها الثقافية وليبراليتها السياسية.
في واقع الأمر تعيش الطوائف اللبنانية بتجلياتها السياسية المتكئة إلى محاولات التأصيل الثقافي الفئوي مأزقاً حاداً داخل صفوفها وفي ما بينها مجتمعة. ليس بين الجماعات مَن يملك مؤهلات للهيمنة الإيجابية الموحدة، ولا يمكن أن تشكّل الطوائف بهوياتها الطائفية المتجذرة والمتوترة الآن مشروع دولة واحدة. ما تملكه الطوائف من ميزات أو امتيازات أو مصادر قوة مادية أو معنوية لا يشكل في المدى اللبناني أفقاً لمركزية سياسية. العنف المعنوي والمادي الذي يندلع بين حين وآخر دليل على استحالات عدة منها التقسيم النهائي والتوحيد بالقوة. لبنان معلّق اليوم على مشاريع موهومة بقدرة الطوائف على العيش في مسالمة واستقرار على أساس من النظام الطائفي ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
كلما تأخر اللبنانيون عن إدراك هذه الحقيقة وقبولها، ابتعد احتمال خروجهم من الصراعات المتفجّرة. لا يستطيع الإطار الإقليمي أن يساعد اللبنانيين على مواجهة مشكلاتهم إذا لم يجدوا لأنفسهم وسيلة لإدارة عيشهم المشترك. لا يمكن التقدم في هذا الاتجاه إذا ظلت القضايا المطروحة في لبنان ملفات تخص الطوائف، من الدفاع الوطني والأمن إلى السياسة الخارجية والحرية والعدالة والاقتصاد. اللبننة والعروبة والمشرقية وحتى الأسلمة في أي نموذج مستقر تحتاج كل واحدة إلى الاشتراك في المواطنة أو الاشتراك في الحقوق والواجبات.
لن يتقدم المشروع &laqascii117o;الوطني" اللبناني إلا من خلال نفاذ هذه الأسئلة إلى الطوائف وإنتاج تعددية سياسية ـ ثقافية حقيقية داخلها. هناك اليوم انشقاقات &laqascii117o;سياسوية" أي تتخذ طابع السياسة، وهي في العمق سطحية مصلحية لهذه أو تلك من القوى المهمّشة في الطوائف. هناك صراخ وضجيج لدى كل الطوائف واحتجاج على الحصرية، ولكن ليس على الأفق المرتجى للخروج من أزمة المشاريع كل المشاريع الطائفية. في ظاهر الحال تبدو هذه الظاهرات نوعاً من &laqascii117o;عمالة" بعض الفئات لطوائف أخرى. في معظم الأحيان، وفي غالب المواقع والممارسات هذه حقيقة عملانية وإن لم تكن مطلقة. على السطح السياسي يبدو غريباً أن تكون مستقلاً أو في موقف النعم واللاّ المشروطتين. في حين يجب أن تكون هذه قاعدة ذهبية من قواعد السياسة العقلانية. مع المقاومة بشروط، ومع العدالة بشروط، ومع اللبننة والعروبة، وطروحات الإصلاح والتغيير كذلك. إذا كان هناك من معنى &laqascii117o;للثوابت" فهي في تكاملها كمنظومة من القيم المشتركة. كل ما هو ثابت حصراً لفئة معينة هو نفي لثابت آخر لدى فئة أخرى. تسقط الثوابت حين تصير احتكاراً كما هو متداول في السياسات اليومية: أنا العدالة أو الحرية أو المقاومة أو السيادة أو التقدم. إذا كان الآخر في البلد الواحد لا يعرض عليّ شراكته في هذه القيم فهو لا يستطيع أن يفرضها كقيم مشتركة. ليس ما نقول ترفاً فكرياً بل هو الصعوبة في مواجهة المصاعب. لن نخرج من هذا النفق المتمادي إلا بعقلنة السياسة وإخراجها من &laqascii117o;المقدس" الديني والطائفي والشخصاني.
التعدد الطائفي والثقافي والسياسي معطى واقعي يجب الاعتراف به والتعامل معه وقبوله وإدارته بالحوار والديموقراطية. يبدأ العنف من لحظة الإلغاء المعنوي أو الإنكار أو التجاهل. وفي خطابنا وثقافتنا وممارستنا حجم هائل من مشاريع الإلغاء.
ـ 'السفير'
مبالغات الخوف المسيحي
ساطع نور الدين:
أغرب ما أثاره سينودس الشرق المنعقد حالياً في الفاتيكان هو ذلك التفجع على مصير مسيحيي لبنان تحديداً الذين بات وجودهم يقاس بالغالبية المفقودة والمهمة المفتقدة .. مع أنهم ما زالوا يمثلون الوعد المقبل والرجاء الآتي، بناء على أدوار يؤدونها اليوم، قد تبدو متواضعة بالمقارنة مع أدوارهم السابقة، لكنها ستثبت أنها حاسمة لاسترداد المستقبل من الغالبيتين الإسلاميتين اللتين تتنازعان عليه.
يجوز القول إن مسيحيي لبنان باتوا اليوم قوة فصل أو فك اشتباك بين السنة والشيعة، بالمعنى الحرفي، الأمني والسياسي، للكلمة، على الرغم من انقسامهم بين هاتين الغالبيتين. وهي وظيفة أسندت اليهم نتيجة مسؤولياتهم التاريخية عن البلد، أكثر مما هي نتيجة مؤهلاتهم السياسية، لعلهم في ذلك يحافظون على أنفسهم، ويحفظون الكيان من التفكك والزوال.. مع التسليم بأنهم في حالة استثنائية من الضعف والتردي بعد سنوات الحرب الأهلية التي دمرتهم أكثر مما دمرت المسلمين.
لكنه اختبار مهم لمسيحيي لبنان، الذين لا يحتاجون إلا إلى الالتزام بالحياد الإيجابي بين السنة والشيعة، الذين لم يعد بإمكان أي قوة أو هيئة في العالم أن تتوسط في ما بينهم، وتوقف سيرهم الحثيث نحو المواجهة التي يمكن لأي خطأ مسيحي في التعامل معها أن يكون قاتلاً. ليس المطلوب من المسيحيين في هذه المرحلة سوى أن يصمتوا قليلاً، ويفسحوا المجال للمسلمين لكي يحددوا أحجامهم ويرسموا الحدود في ما بينهم، ويشرعوا في محاولة تنظيم خلافاتهم وتقاسم حصصهم.. حتى ولو اقتضى الأمر التضحية أو التفريط بجزء من الحصة المسيحية.
لن يكون من الصعب التهكن أن المسلمين لن يتمكنوا من إدارة شؤونهم بأنفسهم، لأنهم يفتقرون إلى الثقافة والتجربة والرغبة، ولأنهم أيضاً يفتقدون الوحي والإلهام الخارجي الذي يمكن أن يقودهم نحو التعايش والتفاهم، ويبعدهم عن الفتنة المذهبية التي صارت قدر الدول والمجتمعات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم.. بناء على تطور سياسي طبيعي، يستحيل معه التفكير في عودة المسلمين إلى الحداثة، أو العلمنة على ما ينادي بعض الحالمين المسيحيين وبعض الواهمين المسلمين، في كتابات واكبت السينودس ودفعته خارج السياق الراهن للأحداث.
المواجهة حتمية، إن لم تكن بالسلاح فإن السنة والشيعة لن يعدموا وسيلة للعثور على أدوات أخرى للتعبير عن افتراقهم واختلافهم، الذي لم يكن يوماً يقتصر على العلماء والفقهاء بل كان على الدوام غواية العامة وهوايتها المفضلة. وإذا ظل المسيحيون خارج تلك المواجهة وبمنأى عنها فإن مستقبلهم سيكون واعداً أكثر من مستقبل أشقائهم في العقيدة الذين قادوا المسلمين أو ساهموا في إخراجهم من حقبات الانحطاط المتعددة التي مروا بها، وآخرها إبان الحكم العثماني، عندما كانوا شركاء فاعلين في حركة النهضة العربية في مطلع القرن الماضي.
وأي قراءة بسيطة للغد، تنبئ أن المسلمين، أو من يتبقى منهم بعد المواجهة بين أتباع المذهبين المتوترين، سيتوسل المسيحيين للبقاء وتولي إعادة بناء المخفر والمستشفى والجامعة والمصرف والوزارة، وإلا فإن لبنان سيكون مضطراً إلى استيراد مسيحيين من الخارج، لكي ينظموا المجتمع ويديروا الدولة.
لا خوف على مصير المسيحيين في لبنان.
ـ 'السفير'
لبنان وإيران: معاً أم مع من؟ (1)
إيـران و14 آذار : مـن كميـل شمعـون إلـى حسـن نصـر اللـه
توفيق شومان:
يقول المثل الإيراني المعروف &laqascii117o;لا يمكن أكل الخبز بشهية الناس"، ويُضرب هذا المثل لاستحالة استقرار الأمزجة والقناعات وأنماط التفكير على اتجاه واحد، ولو انقلبت دلالة المثل المذكور قولا سياسيا بمندرجات لبنانية بغية إيجاد مقاربة علائقية بين إيران وقوى الرابع عشر من آذار، لما خرج المعنى عن جادة صوابه إذا ما قيل إن الإيرانيين على إدراك مطلق بالفجوة السياسية التي حفرتها تجاههم قوى الرابع عشر من آذار، ومن دون أن يكون لطهران في هذه الفجوة نصيب ولا دور، فلا هي ابتعدت عن الآذاريين ولا هي أبعدتهم عنها، ولسان طهران حيال القوى الآذارية لسان شاعرها الكبير سعدي شيرازي، إذ يقول:
&laqascii117o;مع أن لي إسما طيبا
فإن خصمي لا يستحسن ذكره
لغاية في نفسه".
انطلاقا من أبيات سعدي شيرازي، يمكن استعادة لحظة الاحتدام اللبناني الداخلي مع صدور القرار الدولي 1559 في الثاني من أيلول 2004، فعلى الرغم من التغطية الإعلامية الإيرانية الواسعة لمرحلة ما بعد صدور القرار المذكور وتداعياته المحلية والإقليمية والدولية، يُلاحظ غياب إطلاقية الأحكام الإيرانية تجاه هذا القرار، فلا موقف حاداً، ولا خطاب مائلاً، بل إن مصادر المادة الإعلامية الإيرانية، مطبوعة ومرئية ومسموعة، كانت تعتمد على وكالات الأنباء الأجنبية، وعلى رأس هرمها وكالة الصحافة الفرنسية، الأكثر قربا آنذاك من مواقف المعارضة اللبنانية المؤيدة للقرار 1559 والرافضة لمعادلة التجديد للرئيس إميل لحود.
وهذا الموقف &laqascii117o;اللامنخرط" في التداعيات اللبنانية الداخلية، عكس نفسه انفتاحا إعلاميا إيرانيا على مختلف القوى السياسية المحلية، فغدا العماد ميشال عون من منفاه الباريسي ضيفا دائم الحضور في الإعلام الإيراني، وكذلك هي حال أحزاب &laqascii117o;القوات اللبنانية" و&laqascii117o;الكتائب" و&laqascii117o;التقدمي الاشتراكي" وتيار &laqascii117o;المستقبل"، ولم يختلف أمر طهران مع نزوع اللبنانيين نحو مزيد من التشرذم والانقسام، بعيد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، فالتظاهرات المتضادة التي ألهبت العصبيات اللبنانية، لم تشكل عنصر إغراء طهراني مثلما كانت الحال في باريس وواشنطن، حيث الدعوات المياومة للانقلاب على الواقعين الرئاسي (إميل لحود) والحكومي (عمر كرامي) في لبنان، ولعل مراجعة تفصيلية للمواقف الإيرانية في المرحلة المذكورة، من شأنها أن تفضي إلى التزام إيراني صارم بعدم إطلاق مواقف اصطفافية، بل تتويج الصرامة الإيرانية بما يسميه أهل طهران بـ&laqascii117o;الصمت الذهبي"، أو الدعوة إلى الحفاظ على استقرار لبنان ووحدته. غير أن ذلك لا يعني وقوف الإيرانيين على الحياد من عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فقد تقاطعت التعليقات والمواقف الإيرانية لعملية الاغتيال عند التوصيف الإرهابي، وكتب حسن هاني زادة رئيس تحرير وكالة &laqascii117o;مهر" للأنباء في الخامس عشر من شباط 2005: &laqascii117o;إن حركة البناء والإعمار الاقتصادي في لبنان والتي يعود قسم منها إلى جهود المرحوم رفيق الحريري أدت إلى أن يستعيد هذا البلد مكانته الاقتصادية في المنطقة بسرعة".
سياسة العنق الطويلة
إن الابتعاد عن التشنجات اللبنانية الداخلية، صاغ الموقف الإيراني الرسمي في محطات التطاحن اللبناني اللاحقة، فلا عدوان تموز على لبنان في العام 2006، وما أعقبه من حدية تخوين متبادل أفرط به اللبنانيون وغالوا وأوغلوا، أخرج اللسان الإيراني عن انضباطه، ولا تشرذمهم بين ساحة رياض الصلح وأسوار السرايا الحكومية بعد ذلك، حرك مفردات الخطاب السياسي في إيران نحو إحدى الساحتين المنشقتين على خنادق لا تعوزها شراهة التلاعن، فالاعتصام الإيراني بصراط الصمت، بقي مقيما على حاله بالرغم من اصطناع قوى الرابع عشر من آذار خطابا مذعورا من &laqascii117o;تفريس" لبنان، وهو خطاب قام على الغلاظة والسذاجة (مع الاعتذار ...) لعدم إدراك مطلقيه الفارق بين ثابتة السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل كعدو مبين ورجيم، وبين ثابتة في الثقافة السياسية الإيرانية تجاه لبنان المتعدد الطوائف والثقافات، ومثل هذه الثابتة (مع التشديد على صلتها بالثقافة السياسية الإيرانية) يمكن التماسها بوضوح لدى رجل الشارع في إيران ولدى صانع القرار .
وعلى أي حال، يمضي النزوع الإيراني نحو سياسة &laqascii117o;العنق الطويلة" إلى ما بعد &laqascii117o;اتفاق الدوحة" في العام 2008 حين تعلب القادة اللبنانيون في طائرة واحدة نقلتهم إلى العاصمة القطرية، وما تلى ذلك من محطات صراخية لبنانية، من مثل الانتخابات النيابية في العام 2009، وما رافقها من سجالات مقيتة أدت إلى إنتاج حكومة &laqascii117o;اختلال وطني" تعكس عجز الطبقة السياسية عن إدارة البلاد وقصورها عن اجتراح الحلول، وفي كل هذه المحطات كانت السياسة الإيرانية حيال لبنان مجردة من الاستغراق في التباين (التصارع) المحلي، وصولا إلى المحكمة الدولية الغارقة في التسييس، والمتأبطة اتهامات متنقلة ذات اليمين وذات اليسار، وهنا يمكن الحديث عن موقف إيراني واضح، إذ يقول وزير الخارجية الإيرانية السابق ومستشار الإمام الخامنئي للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي: &laqascii117o;إن المحكمة الدولية التي تنظر في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أصبحت أداة مسيسة في يد الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي" (قناة العالم ـ 5ـ 8ـ 2010).
ربما من حق الإيرانيين أن يختزنوا في دواخل أنفسهم مرارة التساؤل عن دواعي إغراقهم من قبل فريق الرابع عشر من آذار بسهام &laqascii117o;تفريس" لبنان أو &laqascii117o;تشييعه" تطبيقا لـ&laqascii117o;حلم إمبراطوري"، ومثل هذا التساؤل يستدعي فتح الذاكرة الإيرانية ـ اللبنانية على عقود زمنية خلت، وبالتحديد مرحلة الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون (1952 ـ 1958)، وعلاقة الأخير الإستراتيجية بشاه إيران محمد رضا بهلوي، فابتداء من منتصف خمسينيات القرن الماضي، أي في ذروة عهد الرئيس شمعون، تحولت العاصمة اللبنانية بيروت إلى أحد أهم مواقع الاستخبارات الإيرانية (سافاك) في العالم، كما أن تدفق السلاح الإيراني عبر الأردن إلى حزبي الوطنيين الأحرار و الكتائب اللبنانية في العام 1957 لمواجهة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، شكل (تدفق السلاح الإيراني) إحدى أبرز سمات المرحلة المذكورة، مع ضرورة استحضار مجموعة مفارقات حول هذه المرحلة:
ـ الأولى: أن بوابة الدخول الإيراني السياسي إلى لبنان كانت عن طريق قيادات من المسيحيين الموارنة.
ـ الثانية: أن إدخال لبنان في المحاور الإقليمية جاء من خلال سعي الرئيس شمعون إلى الدخول في حلف بغداد.
ـ الثالثة: أن الشيعة اللبنانيين ما كانوا إيرانيي الهوى آنذاك، ولو كان احد أبرز زعمائهم في تلك المرحلة (أحمد الأسعد) على خصام مع الرئيس شمعون.
ـ الرابعة: أن حكم الشاه كان يقوم بالفعل على إيديولوجيا قومية متطرفة متناقضة مع القضايا العربية، التي ذهب الشيعة اللبنانيون للدفاع عنها حتى العظم، من خلال التماهي أولا مع الرئيس عبد الناصر، وتاليا مع العمل الفدائي الفلسطيني، وأخيرا مع سوريا وإيران بعد سقوط الشاه.
ـ الخامسة: أن الانحسار الأمني والسياسي الإيراني الذي بدأ مع الرئيس فؤاد شهاب (1958ـ 1964) قابله الشيعة اللبنانيون بلا مبالاة لكونهم خارج أطره، في حين أن علاقة الرئيس شمعون وحلفائه السياسيين استمرت على وثاقتها حتى العام 1979، تاريخ إسقاط الشاه ونظامه.
سقط الشاه فتغير الحلفاء
وما يمكن أن يقال بعد هذا الإيجاز التاريخي ـ السياسي، إن سنوات ثلاثاً فقط مرت بها العلاقات اللبنانية ـ الإيرانية بفراغ أشبه ما يكون بمرحلة انتقالية، وهذه السنوات تقع بين الأعوام 1979و1982، ففي السنة الأخيرة، كانت إسرائيل تجتاح لبنان وتحتل عاصمته بيروت، والذي حدث، أن الانقلاب الجذري في السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية بعد سقوط الشاه، أفضى إلى تغير الحلفاء والأصدقاء في لبنان، فبعدما كان الرئيس شمعون وجبهته اللبنانية من ضمن المدعومين إيرانيا، مالا وسياسة وسلاحا، غدا حزب الله ومقاومته وحلفاؤه من ضمن المشهد اللبناني ـ الإيراني ـ الإقليمي الجديد.
وإذا ما تم طي صفحة الماضي على قاعدة تسليط الضوء على الوقائع المستجدة، تتقدم إلى الواجهة علاقة الرئيس سعد الحريري بإيران، وهي علاقة لا تبدو قائمة على الربط والوصل بين ما كانت علاقة أبيه الشهيد بطهران، وهذه بحد ذاتها مثار تساؤل، ذلك أن القول لا يعني كثيرا، إذا ما تم الحديث عن الزيارات المتكررة للرئيس رفيق الحريري إلى إيران، بينما الحديث عن زيارة الرئيس سعد الحريري إليها يقف عند الموقف الذي أطلقه في العاصمة القطرية الدوحة (28 ـ 2ـ 2010) عن استعداده لزيارة العاصمة الإيرانية، ليتبين لاحقا ان طهران تنتظر &laqascii117o;غودو" في وقت تتفاوت استفهامات الإيرانيين وغيرهم عن مسببات وموجبات التراجع في العلاقات التجارية بين بيروت وطهران منذ العام 2005 بالرغم من توقيع الطرفين على مجموعة من الاتفاقيات والبروتوكولات منذ العام 2000، فعلى سبيل المثال تراجع حجم التبادل البيني من 79,3 مليون دولار في 2004 إلى 51,9 مليوناً في 2005 و60 مليوناً في 2006 و72 مليوناً في 2007، وكان لبنان يصدّر بقيمة 21 مليون دولار في 2004، ونما التصدير سنوياً إلى 40 مليون دولار في 2007، ولكنّه سجّل ارتفاعاً كبيراً في 2008 وبلغ 100,8 مليون دولار، إلا أن المنحى كان عكسياً بالنسبة إلى وارداته من إيران، فبلغت 58,4 مليون دولار في 2004 وانخفضت إلى 33,4 مليوناً في 2007 ثم ارتفعت قليلاً في 2008 إلى 43,2 مليوناً.
وبناء على ما تقدم قد يقول قائل من قوى الربع عشر من آذار، إن التحسن في العلاقات اللبنانية ـ الإيرانية في مرحلة ما قبل العام 2005، مرتبطة بوجود الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي على رأس السلطة التنفيذية في إيران، وفي الواقع فإن هذه القناعة تدفع إلى الاستعانة بحكمة إيرانية تقول &laqascii117o;إن الوهم يمزق اليقين"، فصناعة القرار الإيراني ليست نتاج رئيس الجمهورية، ولا انعكاسا لسياسته الأحادية، بل هي عملية متبلورة خاضعة لإستراتيجيات يقف الولي الفقيه في صدارة صانعيها، بمعية العديد من المجالس والأطر والهيئات، ليس رئيس الجمهورية إلا واحداً منها.
ووفقا لذلك، لا يمكن ملاحظة أي متغير في السياسة الإيرانية تجاه لبنان إذا ما تم عقد مقارنة بين ولايتي الرئيسين محمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد، لا من حيث العلاقة مع المقاومة في لبنان، ولا من حيث العلاقة مع التعدد اللبناني والتنوع الثقافي والسياسي فيه، ولعل ما يزيد التساؤلات الإيرانية حيال بعض الأطراف اللبنانية، ذاك الاندفاع غير المبرر لمناصرة ما يُعرف اصطلاحا بـ&laqascii117o;الثورة الخضراء" التي أعقبت نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية في العام الماضي، فقد تحولت ندا آغا سلطاني، الفتاة التي قتلت في خلال التظاهرات المعترضة على النتائج إلى &laqascii117o;شهيدة الحرية" في وسائل إعلام فريق الرابع عشر من آذار، ومن دون أن يلتفت الإعلام ذاك، إلى علاقة خطيب ندا سلطاني بالإسرائيليين وذهابه إلى تل أبيب واجتماعه مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز (الحياة 25 ـ 3ـ 2010).
ختاما، يمكن القول إن الحضور الإيراني في لبنان هو حضور تقليدي، ويمتد رجوعا إلى اكثر من خمسين عاما، والمتغير الطارئ عليه يكمن في الانتقال من كونه امتدادا للسياسة الأميركية في زمن الرئيس كميل شمعون، إلى كونه خصما لهذه السياسة في زمن السيد حسن نصر الله.
[ كاتب من لبنان ]