ـ 'الأخبار'
الموت المجنون العابر للطوائف
ابراهيم الأمين:
لبنان مشغول بالمحكمة الدولية والفتنة وسرقة المال العام والاستنفار الطائفي والمذهبي وحروب التجسّس والتحريض، وأهله ينصتون بين موقف وتصريح إلى خبر بات يومياً: قتلى في حادث سير مروّع. شاحنة تجتاح عائلة وتبيدها. سيارة مسرعة تنهي حياة فتى أو كهل أو امرأة أو طفل ذنبه أنه كان يجتاز الشارع مثل أي كائن طبيعي. تهرع الشرطة إلى المكان، وكذلك سيارات الإسعاف والدفاع المدني. يتجمع المارة ومن حضر من الأهل. دقائق قليلة ثم تسكن المصيبة منزلاً فيما يتابع الآخرون السير على الطريق نفسها، ويتابع المتهوّرون قيادة السيارات بالسرعة نفسها، وتتابع الشرطة مطاردة فقراء يحاولون كسب عيشهم من عربة خضار أو فواكه لا تحمل رخصة أو إذناً بالسير. لكنّ الشرطة لا تملك وسيلة لمنع أهل، أو أبناء، أو أي كان، من قيادة سيارة بسرعة مجنونة. والخبر يمر كأن شيئاً لم يحصل. فقط، تقبع عائلة خلف المصيبة، تبكي وتولول ولا من يشرح لها سبب ما يحصل.
بعد هذا النوع من الموت، الذي تبرره الأديان فقط، لا يعود ينفع شيء. لا كلام في السياسة، ولا بحث عن حق، ولا سؤال عن المستقبل. لا يبقى للأم أمل بعدالة. ولا يبقى لها سوى بقايا صوت، وبقية صور، وثياب وروائح من أصدقاء لا يجيدون البكاء. أما الآخرون، الذين ارتكبوا الجريمة بمراحلها المختلفة، فيلفّهم الذهول والصمت، لكن من دون استعداد لمحاسبة الذات. الأهل لا يتوقفون عن شراء السيارات، ولا يتوقفون عن دفع الرشى لموظف يسهّل الحصول على رخصة سوق مزوّرة. ولا يتوقف الأبناء عن النق والضغط، كأن لا حياة من قبلهم ولا تجارب ولا من يحزنون. ولا
دوريات الشرطة لا تجيد إلا تعقّب الفقراء يتوقف مسؤول في الحكومة أو الوزارة أو الشرطة عن قلب الشفاه ورمي المسؤولية على آخر لا هوية له ولا اسم ولا عنوان. فلا تكون هناك محاسبة، ولا من يحاسب، فيما تبقى دوريات الشرطة تطارد وتجيد في تعقّب الفقراء أنفسهم، تقاسمهم بقايا لقمة عيش حصلوا عليها بعناء الذل والتوسل.
برهة هي، مرت سيارة تسابق الصوت والضوء معاً. وفي برهة أيضاً، حاول الفتى العبور، لكن برهة الاصطدام حوّلته إلى لاشيء، وأفقدت عائلة الأمل بشيء أفضل، في بلد مخصّص للموت والنهب والقتل المنظم. هي برهة، تشبه برهة الوقوف على حافة الهاوية. ولعبة الحظ تتيح لك فرصة العودة إلى الخلف قليلاً، أو الذهاب نحو اللامكان، حيث لا نطق ولا إحساس بشيء. وحيث الصمت الذي يشبه صمت المعزّين وهم يحاولون الاحتيال على عجزهم الفاضح.
أمس، على الروشة، وقبله بساعات في جبيل، وقبله بساعات أخرى على طريق في الشمال والجنوب والبقاع والجبل، وفي كل مكان من هذا البلد المسكون بجنون عام، يصيب حكماً وحكومة ومسؤولين وطوائف فيحوّل الشارع إلى مقبرة يومية، لمن عليه الموت قتلاً بالرصاص، أو دهساً بغير أوان، أو رمياً بقوت الفقراء.
أليس هناك من عنوان نتوجّه إليه للشكوى؟ فقط للشكوى والبكاء والصراخ. أليس هناك من عنوان نرمي عليه تعبنا وقهرنا ومصيبتنا التي لا يعوّضها شيء؟
ـ 'النهار'
أي صفقة وراء كواليس النزاع ؟!
راجح الخوري:
بدت زيارة جيفري فيلتمان الى بيروت كاريكاتورية تماما، إن من حيث التوقيت وإن من حيث المضمون.
من حيث التوقيت، بدا مساعد وزير الخارجية الاميركية وكأنه وصل على عجل ليعاين مزرعة تحظى بعناية خاصة من واشنطن، لكنها كانت على غير توقع(!) مسرحا لزيارة صاخبة قام بها الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد، واعلن في خلالها انضمام هذه 'المزرعة' الى 'جبهة مقاومة الشعوب' التي تناهض اميركا العداء.
من حيث التوقيت ايضا، وصل فيلتمان فجأة في وقت لم يتسع جدول مواعيد، وربما صدر الرئيس نبيه بري للقائه، ولم يكن الرئيس سعد الحريري في بيروت، وقد قيل انه التقاه في الرياض... اما المفاجأة فقد كانت عندما استقبله الرئيس ميشال سليمان على الطريقة الايرانية اي بلا ربطة عنق، وقد بدت معالم الاستغراب على وجه المستر جيف.
اما من حيث المضمون، فقد كان واضحا تماما ان فيلتمان، الذي زار عددا من عواصم المنطقة، في اطار السعي الاميركي الدائم لتسويق الاعذار الاميركية عن العجز على الزام اسرائيل بشروط الفلسطينيين، اي وقف الاستيطان للاستمرار في المفاوضات، وجد ان من الضروري جدا النزول في لبنان للوقوف على آثار 'الاعصار النجادي' الذي حمل بشدة على اميركا واسرائيل ومن موقع استراتيجي متقدم على شاطئ المتوسط.
ولكن فيلتمان الذي يمثل الدولة الاقوى، بدا عمليا وكأنه يدخل البيوت من النوافذ لا من الابواب، وخصوصا ان نزوله في بيروت جاء في وقت يتقاطع استعجالا مع القمة بين الملك عبدالله والرئيس بشار الاسد، التي احتلت الازمة اللبنانية حيزا اساسيا فيها لجهة معالجة الاحتقان ومنع الانفجار على خلفية القرار الاتهامي والمحكمة الدولية.
ولماذا نقول من النوافذ لا من الابواب؟
على الاقل لأن اللبنانيين لم يكن لديهم قبل استبيان نتائج القمة السعودية – السورية ما يقولونه لفيلتمان، الذي لم يكن لديه الكثير مما يمكن ان يقوله للبنانيين او لغيرهم في هذه المنطقة، التي جاء عليها الآن حين من الدهر لترى انقلابا في الادوار والمواقف، حيث تبدو الادارة الاميركية من باكستان الى غزة مرورا بافغانستان والعراق ولبنان، وكأنها تخسر 'الشرق الاوسط الجديد'، الذي بشرتنا به كوندوليزا رايس قبل اربعة اعوام، امام شعارات 'جبهة مقاومة الشعوب'، وإن كانت ستبقى مجرد شعارات، بينما تذهب واشنطن الى شعارات الصمود والتصدي لمواجهة هذا التحول المثير!
❐ ❐ ❐
وكما بدا فيلتمان وكأنه يدخل 'المنازل' من النوافذ لا من الابواب، ربما لاستراق الاسماع اكثر من الاستغراق في الحديث، كذلك تبدو السياسة الاميركية في الشرق الاوسط عموما وكأنها تتسلل من المداخن، عندما تواصل حماقة التغاضي عن الاحتلال الاسرائيلي وسياسة التوسع والعدوان.
وعندما لا تنظر واشنطن جيدا في اعلان قمة عبدالله والاسد: 'ان ما تقوم به اسرائيل من اجل يهودية الدولة ومواصلتها حصار غزة يقوّض اي مسعى للسلام والاستقرار في المنطقة'، وتمضي ادارة باراك اوباما في الرضوخ لابتزاز بنيامين نتنياهو في مسألة الاستيطان كما في الاقرار المعيب بـ'يهودية الدولة'، عند كل هذا ليس غريبا ان يكون الحصاد الاميركي السيئ في المنطقة نتيجة طبيعية للزرع السياسي السيئ الذي دأبت عليه واشنطن منذ زمن بعيد.
ففي خلال ستة عقود من الزمن تقريبا، لم يدخل السوفيات الى المنطقة الا على ركام الاخطاء الاميركية والانحياز الاعمى الى اسرائيل، ولم تكتسح الانقلابات العسكرية دول المنطقة التي غرقت في الانقسام والتشظي، الا بسبب هذه السياسات والاخطاء. اما الرئيس محمود احمدي نجاد فقد امتطى صهوة هذه الاخطاء الاميركية ليصل الى 'مواقعه' في غزة ولبنان وليقارع اميركا ويهدد اسرائيل بالزوال.
ولو صنعت اميركا سلاما عادلا وشاملا في المنطقة منذ مؤتمر مدريد مثلا، اين كنا الآن واين كانت هي واين كانت ساحات الصمود والتصدي، التي يختلط فيها المشهد على نحو كاريكاتوري صارخ، فليس من الواضح من يتصدى لمن ومن يمانع من، بعدما صارت اميركا جبهة مقاومة ضد 'جبهة مقاومة الشعوب'، وهو ما يفسح في المجال لابرام الصفقات الكبيرة وراء كواليس النزاع!
ـ 'السفير'
عدالة الأمم المتحدة في تقرير أمينها العام
فواز طرابلسي:
تصعب قراءة التقرير الأخير للأمين العام للأمم المتحدة عن الوضع في لبنان دون الشعور بمقدار لا بأس به من الاستفزاز. فمع انه تقرير &laqascii117o;دولي"، تجده يركز تركيزاً مبالغاً فيه على الاوضاع الداخلية اللبنانية، الأمنية خصوصاً، وعلى العلاقات السورية اللبنانية، فيما تحضر إسرائيل على نحو هامشي. بل يصعب تصوّر مناسبة أسوأ من هذه المناسبة للإدلاء بخطاب يغلق الانحياز والكيل بمكيالين والانصياع للارادة الامبراطورية بالتورية والباطنية والتدليس.
يدور القسم الأكبر من التقرير مدار ثلاث قضايا: أهمية تنفيذ ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان (حسب قرار مجلس الأمن لعام 2006) ووقف تدفق السلاح عبر الحدود بين البلدين وضرورة سيطرة الدولة على الميليشيات المسلحة. وهي ثلاث قضايا تنعقد في قضية واحدة هي سلاح حزب الله. لكن منوعات التبرير لضرورة ترسيم الحدود ووقف تدفق السلاح ولنزع سلاح حزب الله، ولو بإيثار الوسائل السياسية لذلك، تستدعي التفافات وحيلاً وتبريرات مدهشة حقاً.
بيت القصيد في التقرير ان إسرائيل تواصل خرق سيادة لبنان القرارات الدولية 1559 و1701 لاستمرارها في &laqascii117o;احتلال الجزء الشمالي من قرية الغجر ولمنطقة محاذية شمال الخط الأزرق" ولطلعات الطيران الإسرائيلي شبه اليومية في الأجواء اللبنانية. ولكن لا يبدو أن إسرائيل تهدّد أمن اللبنانيين بشيء. وهي قطعاً ليست تهدد أمن المنطقة من قريب أو بعيد.
في المقابل، ثمة طرف واحد يهدد أمن اللبنانيين وأمن المنطقة هو سلاح حزب الله. يقول التقرير ان ترسيم حدود لبنان &laqascii117o;عنصر حرج لضمان وحدة أراضي البلاد والسماح بسيطرة حدودية ملائمة" وهو من جهة أخرى &laqascii117o;خطوة جوهرية في اتجاه تثبيت سيادة لبنان ووحدة أراضيه". يصعب تصوّر كيف ان الحدود الدولية بين سوريا ولبنان، الموضوعة عام 1920 والتي لم يطعن بها طرف، باتت مسألة دولية مرتبطة بسيادة لبنان والأفدح &laqascii117o;وحدة أراضيه"، فجأة بعد حرب 2006. بل يتمنى المرء لو يشرح له الوزير المختص ما هي تلك الانتهاكات على الحدود السورية اللبنانية التي تعرّض وحدة الأراضي والسيادة. فإذا كان الأمر يتعلق بالتهريب، فأي انسان يمكن اقناعه بأن مجرد ترسيم الحدود سوف يمنع تدفق السلاح وتهريب الحليب والمازوت والبضائع المستوردة والمخدرات واللاجئين العراقيين والسودانيين، ناهيك عن مقاتلي &laqascii117o;القاعدة" ذهاباً وإياباً عبر الحدود؟
على سبيل المقارنة والإلحاح الزمني: يوجد في المنطقة دولة رسمت الأمم المتحدة حدودها منذ العام 1947 وهي منذ ذلك الحين تتوسع حدوداً وتخرق حدود الدول الأخرى وتكاد تنفرد في العالم لكونها الدولة الوحيدة التي لا حدود دستورية ثابتة ونهائية لها. فكم مرة طالبت الأمم المتحدة إسرائيل بترسيم حدودها؟ وكم مرة طالب السيد بان كي مون بذلك في تقاريره؟ ولا يفيد هنا التذرع بالقول إن الأمم المتحدة تدعو باستمرار الى العودة الى حدود الرابع من حزيران 1967. وذلك لسببين. الأول لأن القرار 242 لا ينص صراحة على ذلك عندما يتحدث عن &laqascii117o;أراض" محتلة عام 1967 وليس عن &laqascii117o;الأراضي" المحتلة. والثانية لأن إسرائيل لم تعترف بحدود 4 حزيران 1967 أصلاً ولأن هذه الحدود ليست في كل الأحوال الحدود التي رسمتها لها الأمم المتحدة وفق قرار التقسيم.
يشير تقرير الأمين العام الى &laqascii117o;وجود ميليشيات خارج سيطرة الدولة" داعياً الدولة الى &laqascii117o;احتكار استخدام القوة في كل أنحاء لبنان". ويطالب حزب الله بنزع سلاحه والتحول الى حزب سياسي. إذ يرى التقرير الى سلاح المقاومة على انه &laqascii117o;ظاهرة خطرة" لها ثلاثة انعكاسات على الأقل: انها تناهض &laqascii117o;التطلعات الديموقراطية للبنان" و&laqascii117o;تهدد السلم الأهلي... وأمن المواطنين" بل تهدد أمن المنطقة كلها.
الإشارة الأخيرة عن تهديد أمن المنطقة تثير التساؤل. لفهمها تجب العودة الى نص القرار 1701 وتعريفه الأصلي لحرب تموز 2006. وخصوصاً التعابير المنحازة المستخدمة بصدد طرفي القتال في تلك الحرب. في بنده المتعلق بوقف العمليات العسكرية، يدعو القرار الدولي في عبارة واحدة الى &laqascii117o;الوقف الفوري من قبل حزب الله لكل الهجمات والوقف الفوري من إسرائيل لكل عملياتها العسكرية الهجومية". ولا حاجة لكبير تفكّر لاكتشاف الاختلال الفادح بين الطرفين: يرد ذكر حزب الله في مطلع الجملة، ما يوحي انه البادئ بالهجوم. وهو الى ذلك مطالب بوقف كل عملياته، بغض النظر عما إذا كانت هجومية أو دفاعية. أما إسرائيل فمطالبة بوقف عملياتها العسكرية الهجومية فقط، ما يعني ان العمليات العسكرية الدفاعية ليست ممنوعة. يوجد جيش مطالب بوقف عملياته الهجومية لا الدفاعية رغم وجوده على أرض الغير! ما يعني انه مهدّد وهو على أرض الغير!
فهل نستغرب والحالة هذه ان يكون تهديد أمن المنطقة الاسم السري لتهديد أمن إسرائيل؟
يتفتق التقرير عن تهمة إضافية لا بد من الاعتراف بأنها تحوي مقداراً من الطرافة المدلّة على حالة إدارة العلاقات الدولية من طرف الأمم المتحدة وصلاحيات تلك المنظمة وحدود دورها داخل البلدان ذوات السيادة.
الى كل التهم التي يكيلها تقرير الأمين العام للأمم المتحدة لحزب الله تهمة إضافية هي التكتم على تفاصيل قدراته العسكرية. وهي سابقة تقتضي التوضيح: هل القوى المسلحة الحكومية وغير الحكومية في العالم تمارس الشفافية على قدراتها العسكرية ونوعية أسلحتها، بما فيها الأسلحة المحرّمة دولياً، فلم يبقَ في ميدان الشفافية العسكرية غير المقاومة اللبنانية لم تصرّح عن سلاحها؟ ولمن يجب ان يجري التصريح أصلاً؟
وكل هذا والحديث عن تكتّم حزب الله على سلاحه يجري قاب صاروخين أو أدنى من حدود دولة تمارس علناً &laqascii117o;الغموض النووي" على قدراتها الحربية بل ترفض حتى التوقيع على اتفاقية وقف انتشار السلاح النووي... الدولية!
في تلك الدولة ألوف مؤلفة من المستوطنين المسلحين لا يشكلون خطراً افتراضياً أو محتملاً على السكان المدنيين، بل يمارسون خطراً يومياً على حرية وسلامة وأمن وحياة مليون ونصف من السكان الفلسطينيين العرب. بل هم يشكلون، وفق مقاييس الأم المتحدة على الأقل، &laqascii117o;خطراً حرجاً" على أمن المواطنين الإسرائيليين اليهود وعلى &laqascii117o;سيادة" إسرائيل ذاتها طالما انهم اغتالوا أحد رؤساء الوزارة فيها! كثيرون لا يستسيغون اقامة المقارنة بين عصابات من القتلة وبين مقاومين وطنيين. ليس هذا هو الموضوع. الموضوع هو كشف مبلغ الكيل بمكيالين من قبل مؤسسة دولية تقدم نفسها على انها الملجأ الأخير للعدالة الدولية: كيلة تجعل السلاح القاتل الذي بيد المستوطنين شأناً داخلياً، لا يستحق حتى ان يرد في تقارير وبيانات وقرارات الأمم المتحدة، وكيلة تجعل من سلاح المقاومين المقاتل ضد الاحتلال خطراً لا على مواطنيهم وحسب وإنما على دولتهم وأمن المنطقة!
وهذا كله لا علاقة له بموضوع المحكمة الدولية.
ـ 'السفير'
على هامش زيارة أحمدي نجاد إلى بيروت وجنوب لبنان: لماذا يستذكر الناس جمال عبد الناصر؟
طلال سلمان:
أعظم ما افتقده اللبنانيون خلال زيارة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد هو دور مصر الذي كان مصدر أمان جدي باعتبارها قيادة الأمة وحاضنة أطرافها جميعاً، بأكثرياتها وأقلياتها الدينية والطائفية والعرقية.. ومع مصر، وبعدها، المقاومة الفلسطينية التي استقبل شهيدها الأول بتظاهرة امتدت من الحدود إلى قلب العاصمة بيروت.
والحقيقة ان لبنان الجريح يفتقد مصر منذ عهد بعيد، وتحديداً منذ أوائل السبعينيات. فلقد تزامن انفجار الحرب الأهلية في لبنان مع توقيع مصر اتفاق فك الاشتباك مع العدو الإسرائيلي (1974).. ثم تصاعدت الحرب شراسة وعنفاً ملغمة الأرض تحت أقدام المقاومة الفلسطينية التي أخذت تغرق تدريجياً في المستنقع اللبناني بخلافاته السياسية التي لا تتورع عن استخدام الطائفية والمذهبية لتحسين مواقع هذا الطرف او ذاك في السلطة.
وعندما قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارته للقدس المباغتة والخارجة عن أي سياق سياسي في المعتمد من قواعد العمل الوطني عربياً في 19/11/1977، كان حتمياً ان تتجدد الحرب الأهلية، ودائماً على قاعدة طائفية، بحيث يستدرج الجيش السوري ليكون طرفاً فيها، بكل ما في ذلك من خروج على مهمته الأصلية كقوة ردع وفصل بين الأطراف المقتتلة، لبنانية وفلسطينية.
وبعد عام وأربعة شهور من تلك الزيارة اجتاح جيش العدو الإسرائيلي جنوب لبنان وصولاً الى مشارف صيدا... ثم ما لبث ان انشأ فيه &laqascii117o;جيشاً" من عملائه بعد استمالة مجموعة من الضباط والجنود فضلاً عن بضع مئات من &laqascii117o;الرهائن" والمرتزقة.
ولسوف تتردى الأوضاع أكثر فأكثر، ويتحول لبنان الى غابة من السلاح، قبل ان يتقدم العدو الإسرائيلي الى اجتياح الوطن الصغير وصولاً الى عاصمته بيروت، متكئاً على &laqascii117o;تحالف" شبه معلن مع بعض أحزاب &laqascii117o;اليمين" اللبناني لإيصال بشير الجميل، ابن مؤسس حزب الكتائب وقائد ما سمي آنذاك &laqascii117o;القوات اللبنانية" الى رئاسة الجمهورية في عملية انتخاب تحت ضغط السلاح والمال وقوة الاحتلال وفي ثكنة عسكرية كانت تطوقها الدبابات الإسرائيلية. لكن بشير الجميل سرعان ما اغتيل، فكانت المذابح في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين اللذين تحولا الى مقبرة جماعية وقد ذهب ضحيتها أكثر من ألف وخمسمئة شهيد.
كان خروج المقاتلين الفلسطينيين (او الثورة الفلسطينية) من لبنان نتيجة بديهية للاجتياح الإسرائيلي... وبعدها سوف تتجدد الحرب الأهلية، ولو متقطعة، حتى يتم تفويض الجيش السوري، مرة أخرى، بإعادة الهدوء، والإشراف على تنفيذ اتفاق الطائف، الذي جاء خلاصة تفاهم عربي (اميركي)... ثم سيتحول هذا التفاهم الى تفويض مطلق لسوريا بالإشراف على إعادة صياغة النظام السياسي في لبنان، وكانت مغامرة صدام حسين في غزو الكويت نقطة الختام في حياة النظام السياسي القديم في لبنان، وإعادة إرساء دعائم &laqascii117o;دولته الجديدة" ودائماً بإشراف سوري مباشر، ومع رعاية اميركية معلنة.
.. وكذلك فإن تلك المغامرة هي التي فتحت باب التفاوض المغلق مع إسرائيل، لكن فلسطين لم يكن لها ذكر إلا كعضو في الوفد الاردني... ولعل هذا الإهمال هو الذي دفع ياسر عرفات الى الذهاب منفرداً للقاء الإسرائيلي في اوسلو، تحت الرعاية الاميركية المضمرة.
[[[[[[
كانت إسرائيل قد غدت ـ باحتلالها العسكري معظم الجنوب ـ &laqascii117o;طرفا" ضاغطاً على التركيبة اللبنانية، تحاول استمالة بعض المتضررين من المقاومة الفلسطينية او من التدخل السوري.
وكان طبيعياً أن تنشأ مقاومة وطنية للاحتلال الإسرائيلي. وهكذا بادر العديد من الأحزاب السياسية الى فرز مجاميع من أعضائها ومناصريها لتشكل فصائل مقاتلة في الجنوب، ولم تكن مصادفة ان كثيراً من هؤلاء انما كانوا قد قاتلوا في صفوف المنظمات الفلسطينية، لا سيما أبناء الجنوب منهم.
كان بينها أحزاب شيوعية وتقدمية ووطنية، كما كان بينها &laqascii117o;تنظيم شيعي" له شعبية عريضة هو حركة &laqascii117o;أمل" بقيادة الإمام موسى الصدر الذي اختفى في ظروف غامضة خلال زيارة الى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي في أواخر آب (أغسطس) 1978.
في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران 1979، بدأ تنظيم سري جديد له طابعه الإسلامي يتنامى برعاية خاصة منها، ليقاتل ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد مسانديه الكبار وتحديداً الاميركيين والفرنسيين الذين أرسلوا قوات عسكرية الى لبنان لتأمين انسحاب هادئ لقوات الاحتلال الإسرائيلي. وكانت البداية دموية ومدوية، عبر هجومين ناجحين الأول على قاعدة عسكرية فرنسية متقدمة، والثاني على السفارة الاميركية في بيروت.
كان التنظيم الجديد غاية في العنف، في بداياته... وستمضي سنوات قبل أن يستقر على صيغة حزب سياسي له برنامجه المعلن، وله قيادته المعروفة، ومهمته الأولى والأخيرة العمل لطرد العدو الإسرائيلي من الأرض اللبنانية المحتلة. واتخذ هذا التنظيم اسم &laqascii117o;حزب الله" استناداً الى الآية الكريمة &laqascii117o;ألا إن حزب الله هم الغالبون".
على ان هذا الحزب سرعان ما اكتسب رصيداً شعبياً عظيماً عبر بطولات مجاهديه في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، حتى كان النصر المؤزر في 25 أيار (مايو) 2000 بجلاء إسرائيل عن الأرض اللبنانية، ما عدا بعضها المتصل بالجولان السوري.
[[[[[[
وهكذا فإنه إذا كان المصريون قد استذكروا ـ قبل ايام ـ الرجل الذي جعل من القاهرة عاصمة عربية للعالم جمال عبد الناصر، فقصد بعضهم ضريحه للتحية، فإن الناس في عواصم عربية أخرى قد استذكروه لأنهم لا يرون للأمة بعد غيابه مرجعية سياسية تقول فتكون كلمتها قراراً، ويصير القرار سياسة معتمدة يحترمها العالم، حتى لو كانت بعض دوله الكبرى لا تقره او تحاول التقليل من أهميته او الطعن في حق القاهرة بأن تكون مركزه.
أما الفلسطينيون الذين يستشعرون اليتم ويرون أنهم متروكون للريح، في حين تحظى إسرائيل بالتنازلات العربية عن حقوقهم في أرضهم، وبضياع &laqascii117o;سلطتهم" في غمرة انهماكها بالحفاظ على ذاتها، فإنهم عادوا يحتمون من الضياع بموقف عبد الناصر الحاسم الذي قبل المفاوضات في لحظة محددة، كسباً للوقت في انتظار استكمال الاستعداد للعودة الى الميدان بجهوزية أفضل وقدرة على تجاوز الدفاع الى الهجوم مهما سمت التضحيات.. وهذا ما تم بجيشه، وبعد غيابه ـ في العاشر من رمضان (6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973).
لقد كانت التحية لجمال عبد الناصر أمراً له دلالة مهمة جداً، وهو يصدر في بيروت وعلى لسان قيادة المقاومة التي يحفظ لها اللبنانيون وسائر العرب أنها حققت إنجاز التحرير بالدم حين أجبرت العدو الإسرائيلي على الجلاء عن الأرض اللبنانية المحتلة منذ العام 1978، ثم واجهت الحرب الإسرائيلية ـ بالقيادة الأميركية على لبنان في العام 2006، فانتصرت بصمودها العظيم.
ففي الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لـ&laqascii117o;حزب الله" ترحيباً بزيارة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الى بيروت، الأسبوع الماضي، استذكر السيد حسن نصر الله لاءات جمال عبد الناصر التي أطلقت من القمة العربية في الخرطوم في أعقاب هزيمة 5 حزيران (يونيه) 1967، وهي &laqascii117o;لا مفاوضة، لا صلح، لا اعتراف"، داعياً العرب الى استعادة كرامتهم وقدرتهم على رفض الإذلال بالعودة الى تلك اللاءات.
[[[[[[
مؤكد ان اللبنانيين عموماً كانوا يتمنون، وما زالوا يأملون، ان يأتي الى زيارتهم القادة العرب، ولا سيما أكبرهم وأغناهم، ليطمئنوا الى أحوالهم وليعززوا صمودهم في مواجهة عدوهم القومي، الذي يستمر في تهديدهم بطلعات طيرانه اليومية فوق مدنهم وقراهم جميعاً.. فضلاً عن استمراره في إذلال العرب جميعاً عبر اضطهاده للشعب الفلسطيني، وعبر مخادعتهم بالمفاوضات التي لا تنتهي حول &laqascii117o;مساحة الأرض" التي ستبقى &laqascii117o;لدولته"!.
لقد كشف العدو الإسرائيلي عن خطته بإعلانه دولته اليهودية الديموقراطية التي لا مجال معها لدولة فلسطينية على ارض الشعب الفلسطيني... بل ان التفكير ذهب الآن الى المليون ونصف المليون فلسطيني &laqascii117o;في الداخل" والذين كان يعتبرهم &laqascii117o;مواطنين" من الدرجة الثانية، ولكنهم سيكونون غداً موضع مساءلة في ولائهم &laqascii117o;لدولة يهود العالم"، فإذا امتنع جميعهم او بعضهم عن أداء قسم الولاء لهذه الدولة فلسوف يطرد منها شر طردة.
وقد تكون مقارنة أهل النظام العربي بجمال عبد الناصر ظالمة، ولكن بحقه لا بحقهم... وللتذكير فإن أكثر من نصف الشعب اللبناني قد زحف الى دمشق لتحية &laqascii117o;بطل الوحدة" حين جاءها أول مرة... ثم تكرر الزحف في كل زيارة له إليها.
ليس في الأمر عبادة شخصية، انه افتقاد للموقف الذي يحمي الأوطان ويمنع الهزيمة أمام العدو، بالعودة الى الميدان مرة بعد مرة حتى يكون النصر، فإذا ما لاحت بشائره لم يضيع عبر التنازل للإدارة الاميركية او عبر الصلح مع العدو الذي ينتقل في هذه الحالة الى الداخل.
من هنا يمكن فهم هذا لحضور المتجدد لجمال عبد الناصر في الشارع العربي ابتداء بمصر وانتهاء بالحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة...
فغياب أصحاب القرار في الحاضر هو من أعاد الى الصدارة صورة البطل في الماضي، الذي يظل برغم كل أخطائه أبقى وأنصع حضوراً من القائمين بالأمر في أيامنا هذه.. أشبه بحرس حدود لدولة يهود العالم... الديموقراطية.
ينشر بالتزامن مع جريدة &laqascii117o;الشروق" المصرية
ـ 'السفير'
في إدارة الخلاف المذهبي الإسلامي
جعفر محمد حسين فضل الله:
شهدت الساحة الإسلاميّة مواقف حادّة تجاه السيّدة عائشة أمّ المؤمنين، أو صحابة رسول الله (ص)، صدرت عن بعض أصوات النشاز، أعقبتها ردود أفعال ومواقف، دلّت على أنّ المجال الإسلامي لا يزال هشّاً أمام أقلّ اختبار حقيقي لأصوات الفتنة؛ هذه الأصوات التي يبدو أنّها الأكثر تأثيراً أمام الأصوات العقلانيّة المستندة إلى المنهج الإسلامي في مقاربة الأمور والحكم على الوقائع، والموجودة لدى الفريقين، السنّة والشيعة، تاريخاً وحاضراً.. والمشكلة الكبيرة أنّ صوتاً واحداً سخيفاً كفيلٌ بإعادة الساعة إلى الصفر تجاه أيّ مشروع للوحدة الإسلاميّة؛ ما يشير إلى أنّ ثمّة مشكلة تربويّة عميقة، ساهمت فيها عوامل عديدة، ليس أقلّها العامل السياسي، قديماً وحديثاً، نتج عنها غلبة الحالة المذهبيّة على الانتماء الإسلامي العام، لتصبح &laqascii117o;قيمة" الجماعة، هي التي تحكم منظومة القيم الأخرى، ونُصبح نحن تجسيداً لمنطق العصبيّة التي عبّر عنها الإمام عليّ بن الحسين (ع) حيث قال: &laqascii117o;العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه، ولكن أن يعين قومه على الظلم" (الكافي، ج2، ص 308 ـ 309).
ما نحاوله في هذه المقالة هو أن نقيس بعض ما نحن فيه على بعض ما ورد في القرآن الكريم، وهذا هو عمق اختبار إسلامنا، كسنّة وكشيعة.
نحن أكثر ميلاً في ما نسمعه، أو نقرأه، إلى التصديق بالسلب عن الطرف الذي يختلف معنا؛ بل ربّما وجدنا أنّه قد شكّل كلّ فريق منّا عن الآخر سلسلة من المعتقدات التي لا تزحزحها البراهين؛ فقد نجد لدى الشيعة من يقبل على بعض السنّة أيّ رواية، ولو كان راويها كذّاباً، لمجرّد أنّها تتّفق مع الهوى المذهبي لديه، وقد نجد لدى السنّة من يقبل أيّ رواية على الشيعة، ولو كان راويها منافقاً، لمجرّد أنّها تؤكّد وجهة النظر التي تجعلهم فئةً خارجةً عن الدين.. حتّى إنّنا لا نقبل ـ في ذهنيّتنا الشائعة ـ أن ننسب أيّ منقبة لمن نختلف معه، سواء من شخصيّات التاريخ أو الحاضر؛ لأنّ ذلك يُمكن أن يسجّل علينا، ونحن لا نريد أن نسجّل علينا أيّ نقطة حتّى لحساب الحقّ!. ولذلك دخل العقل المذهبيّ في الظُلم المعرفي للطرف الآخر، وربّما دخلنا في حالة من الاستكبار المذهبي، مع أنّ الله تعالى يقول صريحاً: (ولا يجرمنّكم شنآن) ـ أي بغض (قومٍ على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقربُ للتقوى) (المائدة، 8) ؛ فأين نحن من هذا المنهج، سنّةً وشيعة؟
ليست هناك مشكلة أن تنتمي إلى أيّ مذهب ما دامت هي قناعتُك بينك وبين الله، ولكنّ المشكلة هي أن تجعل الانتماء المذهبيّ صنماً تعبده من دون الله، فلا تقبل حقّاً خارجه، ولا تقبل ظلماً في داخله.
لا نسبّ ولا نلعن
يقول الله تعالى: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علمٍ كذلك زيّنا لكلّ أمّة عملهم) (الأنعام، 108). بقطع النظر عن كون الآية متعرّضة لسبّ آلهة المشركين، فإنّها بصدد بيان منهج عام لا بدّ أن يأخذ به كلّ المسلمين الذين يُدركون أنّ لكلّ جماعة من الناس مقدّساتها ورموزها التي تعظّمها وتحترمها، وهذا ما يدفع إلى اعتبار الإنسان أيّ تعدٍّ على مقدّساته ورموزه تعدّياً عليه شخصيّاً، ما يدفع المجتمع الذي يأخذ بأسباب السباب إلى سلسلة من ردود الأفعال التي تجعل المجتمع يعيش حالة حدّة وشحن غرائزي قد ينسف كلّ المقدّسات والقيم. والإسلام أراد من المجتمع أن يعيش الموضوعية والعقلانيّة والمسؤوليّة عن المجتمع. ولعلّنا نلمح كلمة للإمام عليّ (ع) حينما قال لأصحابه وقد سمعهم يسبّون جيش الشام في صفّين: &laqascii117o;إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به" (نهج البلاغة، الخطبة، 206)، وذلك يعني أنّه لا ينبغي أن تكون روح المسلم روحاً تدميريّة ـ كما يعبّر السيّد محمّد حسين فضل الله (ره) ـ بل روحاً إصلاحيّة هادية، وهي الروح التي لا تتّفق مع حالة الإلغاء التي يعبّر عنها السبّ..
ومع أنّ هذا يمثّل فلسفة هذا الخلق الإسلامي، فإنّ جملة من المرويّات عن النبيّ (ص) وأهل بيته قد رفضت صراحةً سبّ المؤمنين بعضهم بعضاً، فعنه (ص): &laqascii117o;سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر". &laqascii117o;لا يكون المؤمن لعّاناً"، &laqascii117o;إنّي لم أُبعث لعّاناً وإنمّا بعثت رحمة"، و&laqascii117o;لعن المؤمن كقتله"، وما إلى ذلك من روايات لا يُمكن للإنسان تجاوزها ببساطة كما شاع في بعض الأوساط.. ولذلك رأينا أنّ ما نُسب من اللعن إلى أهل البيت (ع) في ما يتّصل بالخلاف المذهبيّ ليس صحيحاً بحسب موازين التوثيق؛ لأنّ رواة هذه المضامين من الغلاة؛ حتّى إنّ كثيراً من المرويّات عن الإمام جعفر الصادق (ع) تشير إلى نقده الشديد لهذا المنهج الذي ربّما يكون قد ساهم فيه احتدام الصراع السياسي آنذاك، والذي لعب على الوتر المذهبيّ، ولا سيّما إذا لاحظنا ما كانت السلطة الأمويّة تمارسه من فرض سبّ الإمام عليّ (ع) على منابر الجمعة عشرات السنين، حتّى منعه عمر بن عبد العزيز بعد تولّيه السلطة..
أمّة التاريخ!
في منطق الإسلام، ترتكز علاقة المسلم بالتاريخ على أمرين: الأوّل ما بيّنه قوله تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب) (يوسف، 111)؛ فالمؤمن يأخذ من التاريخ ما ينفع حاضره ممّا يمثّل العبرة له والقدوة له، وهذا يستوي فيه التاريخ الحسن والتاريخ السيّئ؛ لأنّ الإنسان يأخذ العبرة من كليهما. أمّا ما حقّقه كلّ فريق من انتصارات وما جناه من هزائم، أو ما اكتسبه من حُسنٍ أو قُبحٍ، أو من طاعة أو معصية، وما إلى ذلك، فلا دخل لنا به، ولا نُسأل عنه، وذلك هو مفاد قوله تعالى: (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون) (البقرة، 134 و141).
وإنّ أهمّ ما ندرسه اليوم ـ كمسلمين ـ في قضيّة الخلافة والإمامة، هو كيف أنّ المسلمين الأوائل قد جنّبوا الواقع الإسلاميّ الانزلاق في الفتنة، وكيف أمّنوا له الحماية والحصانة الداخليّة تجاه العدوّ المتربّص بالإسلام كلّه، ومن روائع كلمات تلك المرحلة التي ينبغي أن تكون شعاراً لنا في كلّ المراحل ما قاله عليّ (ع) في كتابه لأهل مصر: &laqascii117o;فما راعني إلا انثيال الناس على فلانٍ ـ ويقصد الخليفة الأوّل ـ يُبايعونه، فأمسكتُ يدي، حتّى إذا رأيتُ راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد (ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوتِ ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"(نهج البلاغة، ج 3)، أو مقولته الشهيرة: &laqascii117o;لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصّة".
فليَرجع الخلاف المذهبيّ إلى موقعه الفكري والنقدي، حتّى في ما خصّ قراءة التاريخ وإعادة تقويمه؛ لأنّ منطق التاريخ يرفض التسويات في عالم التقويم. والموقع الفكري والنقدي هو الموقع الطبيعي لهذا الخلاف، وعندئذٍ سيكون الخلاف مصدر غنىً لا مصدر تفرّق، ومحطّ تراكم للعلم لا مصدر تنافر.
العقيدة ليست بالوراثة!
يبقى أنّه، في ما يتّصل بعقائدنا المذهبيّة، لا بدّ لنا أن نحاكم منهجنا في تشكيل عقيدتنا على ضوء ما قصّه الله علينا من منهج الكافرين والمشركين حينما كانوا يرفضون الإيمان معلّلين بأنّه يصطدم بما ورثوه من عقائد الآباء والأجداد، بحيث كان الإنسان يبني عقيدته تبعاً لما عليه الجماعة التي ينتمي إليها، من دون التدقيق فيها.
إنّ عدم الاحتكام إلى قواعد تشكيل القناعة من خلال البرهان والدليل من شأنه أن يؤدّي إلى تبنّي الأجيال الإسلاميّة المتعاقبة لعقائد قد لا تستطيع أن تقيم براهين منطقيّة عليها. هذا في بنائها العقيدي في ذاتها، فضلاً عمّا تبنيه من صور موهومة عن الطرف الآخر، ورثته من تاريخ الصراع الطويل الذي كان في عمقه صراعاً سياسيّاً حُمّل صفة الدين أو المذهب...
وهذا ما يجعلنا نجد اليوم ـ في الجامعات مثلاً، والتي ينبغي أن يبتعد طلاّبها عن العصبيّة وأن يكونوا أقرب إلى المنهج العلمي والموضوعي في فهم الأمور وتشكيل القناعات ـ أنّ الشيعي يتعامل مع السنّي الذي يجلس إلى جانبه في صفّ الدراسة من خلال الموروثات التي يحملها عنه، بما لا يجعله قادراً على رؤية كثير من التماهي في الحياة اليومية والعامّة، ويضيع كلّ التقارب الروحي في لحظة إعلاميّة مأزومة وكأّنّ الجهل التامّ قد أحاط بالزميل الذي كان أمس من أعزّ الأصدقاء، مع أنّه لم يصدر منه شيء في هذا المجال.. وكذلك الأمر في السنّي تجاه الشيعي.. وهذا يعني أنّنا لا نزال أمّة التاريخ التي غرقت في التاريخ بكلّ سلبيّاته، وأصبحت تتعامل مع الواقع من خلال الصورة المتبنّاة عنه، وليس من خلال الاختبار الواقعيّ له ولعناصره، وهذا ما سيُبقينا أمّة سهلة على كلّ طامع، يثيرنا أيّ موضوع، وتقيمنا كلمةٌ طائرة سيّئة من هنا أو هناك، لا نحمّل ـ بحسب تعميماتنا الظالمة ـ وزرها لصاحبها الذي صدرت منه، بل نجعلها ممثّلة للمذهب الذي ينتمي إليه، فنأخذ &laqascii117o;الصالح بعزا الطالح" ـ كما يُقال ـ.
كما أنّ هنا نقطة مهمّة، وهي أنّ اعتبار العقيدة ممّا يتّصل بالقناعة التي يكوّنها الشخص من خلال اشتغاله بالأدلّة والبراهين على أيّ فكرة، من شأنه أن يُبعد حالة التقسيم العقيدي؛ لأنّ الغالب في اصطباغ العقيدة بالمذهبيّة هو الوقوف عند مسلّمات كانت ناشئة من تفكير سابق وتبانت عليها الجماعة جيلاً بعد جيل؛ بينما لو أبقينا الفكر متحرّكاً لأمكن التعويل على ما يختبره المسلمون من أنفسهم من فكرٍ مستجدّ، وحركة نقدٍ متراكم عبر الزمن، مع ما يتأثّر به المسلمون جميعاً ـ ولا سيّما جيل الجامعات ـ من روح العصر في مناهج التفكير العلمي وما إلى ذلك ممّا يلقي بظلاله على فكر الإنسان عموماً. كلّ ذلك من شأنه أن يقرّب المسافات بين المسلمين، ويغيّب الحواجز بين المذاهب..
إنّ المؤمن لا خيار له في مسألة الأخوّة الإيمانيّة، بل هي أمرٌ مجعولٌ من الله عزّ وجل. وربّما نفهم على أساس ذلك الحديث القائل: &laqascii117o;إذا قال المؤمن لأخيه أنت عدوّي كفر أحدهما"؛ لأنّ نسبة المسلم إلى العداوة يضادّ جعل الله تعالى الأخوّة، وهذا كفرٌ عمليّ على الأقلّ.
كما أنّه يلزم من هذه الأخوّة، أن يعمل المؤمن على صونها وحمايتها من أيّ شائبة، وذلك من خلال الانفتاح الذي يعيشه المسلم تجاه أخيه، والممارسات الأخويّة التي تقوّي الوجدان الإسلاميّ الجامع، بحيث لا تبقى الأخوّة مجرّد شعارٍ نرفعه، بل هو حياة نعيشها، ووجدان نتحسّسه، وسلوك نسلكه. وقد ورد في الحديث: عن رسول الله (ص): &laqascii117o;المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه".
ومن مستلزمات الأخوّة ـ بحسب الآية ـ أن ينبري المسلمون للإصلاح بين المسلمين إذا اختلفوا، أو تباعدوا، أو تنافروا، أو حتى اقتتلوا، كما قال تعالى: (وإن فئتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين) (الحجرات، 9).
هذه بعض مفردات تتّصل بالمنهج الإسلامي في التعامل مع الآخر، وهي مفردات لا تتطلّب أن نتماهى في ما بيننا، ولكنّها تصلح قاعدة لتقويم ذهنيّتنا وأساليبنا في الحاضر، بدلاً من أن نتلمّس لحاضرنا شيئاً من قداسةٍ أدمنّاها للتاريخ، بكل قيمه المعقّدة، والتي نأتي بها إلى الحاضر كلّما أردنا أن نُثبت للعالم أنّنا لا نزال أمّة ترفض أن تضبط ساعتها على القرن الخامس عشر الهجري، والقرن الواحد والعشرين الميلادي، لتحاكم قضاياها ـ من خلال القرآن والسنّة ـ بما نفهمه نحن من القرآن والسنّة، لا بما فهمه الآخرون حتّى لو تطابقت نتائج الفهم؛ والله من وراء القصد.