- صحيفة "الحياة" لاهاي – وليد شقير أبرز الانطباعات التي يخرج بها المشارك في «المنتدى الإعلامي الدولي حول العدالة الدولية»، الذي نظمه قسم التواصل في المحكمة الخاصة بلبنان واتحاد الصحافة الأجنبية في هولندا، في لاهاي، هو أن ثمة نظاماً نشأ على مدى السنوات، المحكمة الخاصة بلبنان جزء منه، بات يستند الى مؤسسات قائمة بذاتها، أخذت تترسخ خلال العقدين الماضيين، بحيث تصعب العودة بها الى الوراء.
فالندوات الـ16 التي حضرها 17 إعلامياً لبنانياً بين 20 و22 تشرين الأول (اكتوبر) والتي توزعت بين محكمة لبنان والمحكمة الدولية الجنائية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، والتي هدفت الى تعريف هؤلاء على تاريخ هذه المحاكم وآلية عملها وما أنجزته ضن التفويض الممنوح لها من الأمم المتحدة، وما هو منتظر منها، إضافة الى زيارة مقار هذه المؤسسات الضخمة التي تعج بالنشاط والموظفين والقضاة والخبراء من جنسيات مختلفة، تبدد الكثير من التقديرات في لبنان حول القدرة على تجاوز المحكمة.
فالضجيج القائم في بيروت والانقسام السياسي المتأجج الذي يأخذ بعداً إقليمياً يعطي الحملة على المحكمة وزناً يفترض ان يُحسب له حساب لا يبدو أنه يؤثر في سير عمل هذه المحكمة، بل ان تجارب المحاكم السابقة شهدت انقسامات سياسية في البلدان المعنية بها، لكنها استمرت في العمل وما زالت. واطلع الإعلاميون على نماذج من العراقيل التي واجهتها.
وفيما يعقد منتدى ثان بين 3 و5 تشرين الثاني (نوفمبر) في لاهاي لمراسلين لبنانيين وينوي قسم التواصل تنظيم ندوات للصحافة الدولية للتعريف بعمل المحكمة، فإن عدم تأثر عمل المحكمة بالأجواء اللبنانية الداخلية لا يعني أن دوائر المحكمة تتجاهل ما يحصل في المشهد السياسي اللبناني.
فلاهاي تهتم بالمتابعة الدقيقة لكل ما يجري في بيروت، ولكل ما يكتب ويقال وينشر ويُبث لتسقُّط المواقف اللبنانية والخارجية من المحكمة، والتعرف الى البيئة السياسية والإعلامية اللبنانية التي تعمل في ظلـــها. وكــــل ما يُنــــشر يُقرأ هنا في لاهاي، سواء كان يتعلق بالمحكمة أم بأمور سياسية أخرى، وتتم متابعة المعلّقين والمحللين للاطلاع على اهتماماتهم بالعلاقة مع محيطهم ويُترجم بعضه.
وبينما حمل الإعلاميون اللبنانيون معهم، ما تغرق به ساحتهم من سجال حول شهود الزور وتأجيل القرار الاتهامي ووقف تمويل المحكمة واحتمال اتهام أفراد من «حزب الله» والضغوط التي يمكن ان تعوق عمل المحكمة الى لاهاي، فإن منظمي المنتدى ذهبوا بهم الى مكان آخر، على رغم ان المحاضرين أجابوا عن بعضها. وحددت رئيسة اتحاد الصحافة الأجنبية في هولندا كيرستن شويجوفير الهدف من المنتدى بأنه «عمل تفاعلي» بين هؤلاء الإعلاميين وبين المسؤولين الذين تحدثوا في الندوات لشرح طريقة العمل في مؤسسات العدالة الدولية والمحاكم القائمة.
وقالت ان تعاون الإعلاميين في هولندا مع المحاكم لم يكن سهلاً في البداية «لكننا اعتدنا على الأمر الآن وتحولت تغطيتها جزءاً أساسياً من عملنا. ومحكمة لبنان جزء من هذا العمل غير السهل والغريب بعض الشيء عن مجالات التغطية الأخرى».
سعى المحاضرون الى تقديم عرض مبسّط لما جاء في نظام محكمة لبنان وفي «قواعد الإجراءات والإثبات» الذي وضعه قضاة المحكمة بعد تأسيسها. وهي وثائق متاحة في منشورات وعلى موقع المحكمة.
وإذا كانت مادة تلك الندوات «جافة» بالنسبة الى إعلاميين يسعون وراء خبر أو معلومة لم يظفروا بها، فإن بعض ما سمعوه لم يخل من الإيحاءات... إلا ان الندوات «التثقيفية» التي تولاها الاختصاصيون لم يشذ عنها مضمون الندوة الأولى، والختامية، مع إعلاميين نقلوا إلينا تجاربهم في تغطية أخبار محكمتي يوغوسلافيا والجنائية الدولية، إضافة الى سردهم وقائع سمحت بإسقاط بعض المحطات على ما جرى ويجري مع الإعلام اللبناني.
اليوغوسلافي (سابقاً) ميركو كلارين، مدير وكالة «سنس» للأنباء المتخصصة بأخبار العدالة الدولية عمل 4 عقود في المهنة قام خلالها بتغطية حروب عدة بينها الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وعاد الى بلاده لتغطية الحروب التي دارت فيها قبل أن تتسع ويتم تدمير عدد من المدن منتصف التسعينات. وهو أنتج 48 رواية صغيرة عن يوغوسلافيا وفظائع الحرب. يرى كلارين ان معظم وسائل الإعلام لعبت دوراً كبيراً في يوغوسلافيا بتغذية المشاعر التحريضية على الحرب. وإذا كان القادة السياسيون على رأس لائحة المسؤولين، فالإعلام ومحطات التلفزة تأتي في الدرجة الثانية لأنها ساهمت في نشر الكره الديني والمشاعر السلبية التي تشجع على اقتراف المزيد من أعمال العنف وهي بالتالي مسؤولة عما حصل.
مسؤولية الإعلام
وفي المقابل، لا ينكر كلارين دور الصحافة العالمية (البريطانية) التي نشرت صور معسكرات الاعتقال الصربية ضد أهل البوسنة، المثيرة للمشاعر الإنسانية، ودفعت المجتمع الدولي الى تقصي الحقائق والذي انتهى عام 1993 الى قيام المحكمة الخاصة بيوغوسلافيا. ولاحظ ان التغطية الصحافية للمحاكمات في إعلام دول يوغوسلافيا السابقة، سلّطت الضوء على المتهمين (مسؤولين في الدولة) ولم تهتم كثيراً بالضحايا (الشهود الذين شهدوا المجازر والجرائم أو تعرّضوا لها)، إلا أن وسائل الإعلام غيّرت هذه المنهجية بعد سنوات عدة وأخذت تعطي مساحة لما يقوله الضحايا.
ويرى كلارين ان بعض الإعلام كان في يوغوسلافيا السابقة ليخدم فئة معينة، ولهذا أثر سيئ وهو موجود في أنحاء أخرى من العالم، فيما دور الصحافة المسؤولة هو مقاومة المشاعر السلبية التحريضية «ونحن حاولنا قبل وقوع الحرب بخمس سنوات تغيير هذه الذهنية لأننا كنا نتوقع النتائج. وأنا دعوت الى قيام محكمة خاصة بيوغوسلافيا لمحاكمة القادة السياسيين، قبل توسّع الحرب».
ويعتقد كلارين بأن الإعلاميين الذين انخرطوا في التحريض على الكراهية والتمييز كانوا ضحية والإعلام الذي انخرط في التحريض قام بعمل أشبه بالانتحار. وأسف لأن المحكمة لم تحاكم صحافيين من يوغوسلافيا. وأشار الى ان محكمة رواندا دانت صحافيين لهذا السبب، لكنه ميز بين صحافي رواندي كان يبعث دعوات من إذاعته الى أبناء قبيلته ليذهبوا ويقتلوا الآخرين، فيما الإعلام اليوغوسلافي كان يعتمد أسلوب: «انتبهوا سيأتون لقتلكم»، من اجل تحريض الناس على الاستنفار لقتل الآخرين (قبل ان يقتلوهم وفق مزاعم الإذاعة).
أمطر الصحافيون اللبنانيون كلارين بالأسئلة عن استقلالية الإعلام حيال المحكمة وعن عملية إقحامها في الخلافات السياسية...الخ مما هو قائم من عناوين في لبنان. وقال: «كنا ننتقد المحكمة وكان ذلك لا يعجبهم، لكنه لم يحصل تدخل من جانبها معنا، لكن في المقابل كنا نحترم تدابير المحكمة مثلاً لحماية شاهد ما، ولم نكن نذكر اسمه حتى لو عرفناه، وفي كل دول يوغوسلافيا السابقة كانت تنتشر المزاعم الكثيرة عن الطابع السياسي للأحكام. وكان يصعب عليّ أن أشاطر هذه الآراء. طبعاً على المحكمة أن تكون مدركة للوضع السياسي الذي تعمل في إطاره، لكنني لا أعتبر انه يمكن ان يحصل تأثير سياسي في 15 قاضياً ليست لديهم اجندة مشتركة، وبينهم الفرنسي والصيني والكوري والجنوب افريقي والأسترالي...».
وأضاف: «قد يقال ان المدعين العامين مسيّسون، وفي رأيي هذا غير صحيح... والإعلام يواجه ثقافة السرية وحجب المعلومات عنه في المحاكم، لكنني أعتبر محكمة يوغوسلافيا أفضل ما حصل لبلادي، تخيلوا ما كان ليحصل لو لم تحدد مسؤولية الجرائم التي ارتكبت فيها. فهذا لمصلحة الرأي العام والمصلحة العامة». واعتبر كلارين في رده على سؤال عما إذا واجه الإعلاميون مسألة إدلاء شهود بإفادات كاذبة أن من الواضح ان المحكمة الخاصة بلبنان تعلّمت من الأخطاء التي وقعت فيها محاكم أخرى في ما يخص الإجراءات التي تتبعها. لكن كلارين قال في سياق حديثه إن «قصة إنشاء محكمة يوغوسلافيا لم تتم روايتها بالكامل بعد، لأنه تم مثلاً بالتزامن مع دخول دول يوغوسلافيا السابقة «الناتو». ومع مرور الوقت سيزداد الاهتمام بحروب يوغوسلافيا وسنعرف أكثر طبيعة ما حصل ورواية الجوانب الخفية منه. ولا تنسوا انه بعد الحرب العالمية الثانية تطلب الأمر جيلاً كاملاً لمراجعة الماضي ومواجهته مع آثاره...».
المحكمة صوت الضحية
وخلص الى القول نقلاً عن رئيس محكمة لبنان القاضي الإيطالي انطونيو كاسيزي ان «المحكمة صوت الضحية»، فهي تعطي الضحايا الفرصة لقول شهاداتهم امام المتهمين والرأي العام. وشهادة الضحية مؤثرة أحياناً كثيرة ولا يمكن قمعها...
في الندوة الأخيرة للمنتدى، والتي كانت بين الإعلاميين حصراً، حول التحديات التي تواجه الإعلام في تغطية المحاكم الدولية، قال مايك كوردر من وكالة آ. بي (استرالي) ان المتحدثين الرسميين يقدمون القليل من المعلومات خشية تقديم أي تفصيل مثل ذكر مكان احتجاز شاهد ما تحسباً لإمكان قتله أو تخويفه فيمتنع عن الإدلاء بشهادته. وهذا حصل في محكمة يوغوسلافيا. لكنه اشار الى ان المعلومات تصبح بمعظمها علنية بعد صدور القرارات الاتهامية والتي تتضمن أسماء متهمين وبعض الأدلة، وأشار الى ان محكمة لبنان تتميز بتشديدها أكثر على قرينة البراءة لأي متهم، ومن هنا أهمية الحذر في الكتابة الصحافية، إذ يجب إرفاق الحديث عن التهم الموجهة الى أي شخص بأنها «مزعومة» الى ان يصدر الحكم عليه لأنه يجب على المتهم ان يتمتع بحق حماية سمعته. وأضاف: «الإدانة في المحاكمة قد تتطلب من 3 سنوات الى 12 سنة أحياناً. والإجراءات التمهيدية لبدء المحاكمة قد تتطلب أشهراً بعد جهوز الاتهام، وقبل بدء المحاكمة».
في أسئلة الصحافيين اللبنانيين عن كيفية الفصل بين الصحافي كإنسان له مشاعر ومواقف وبين الصحافي كمهني يتوخى الموضوعية، قال كوردر انه لم تكن لديه مشكلة لأنه استرالي. وقال رفيق هودجيتش وهو صحافي من البوسنة، ومستشار لدى قسم التواصل في محكمة لبنان ان افضل حماية للصحافي هي ان يكتب الوقائع (لتجنب المشاعر)، وقال هودجيتش الذي أدار أكثر من ندوة خلال المنتدى: «بعد 15 سنة من محكمة يوغوسلافيا أخذنا نكتشف أهميتها في المصالحة الداخلية لأنها يجب ان تكون مبنية على الحقيقة بينما كنا نقول في السابق لماذا نكء الجراح والعودة الى الماضي». وأضاف: «الحرب في يوغوسلافيا السابقة كانت قائمة قبل إنشاء المحكمة عام 1993، لكن جرائم الإبادة وقعت بعدها في عام 1995 وفي كوسوفو حصلت عام 1999، ثم تم تحويلها الى المحكمة (هنا تهامس بعض الصحافيين اللبنانيين من باب التساؤل: هل إذا حصل عندنا ما يسمى بالفتنة فستحوّل الى محكمة لبنان؟).
وأوضح هودجيتش ان معارضي محكمة يوغوسلافيا لجأوا الى الإعلام وأكاديميين وسياسيين لتقويض المحكمة واستخدمت أوصاف في نعتها مثل القول في بعض الإعلام إن المدعي العام كارلا ديل بونتي «عاهرة». وقدموا المؤسسة على انها أداة للدول الكبرى للمس بصدقيتها امام الصرب والكروات لخلق مناخ يدفع الناس الى عدم تقبل ما يصدر عن المحكمة، لكن هذا لم يوقفها.
وحين سئل هودجيتش عما اذا كانت المحكمة تسببت بمجزرتي سبرنيتسا وكوسوفو، فماذا كانت المصلحة فيها؟ أجاب: «لم تحصل الجرائم بسبب المحكمة، كانت ستحصل بمحكمة أو من دونها. وهي لم تؤمن الحماية للناس لأن الذين ارتكبوا هذه الجرائم كانوا يعتقدون انهم أقوى من المحكمة، لكنها تشكل رادعاً».
توماس فيرفيس من وكالة «آي ان بي»، أشار الى ان لتغطية المحاكم الدولية ثقافة خاصة وإلى أن محامي الدفاع يبدأون على الدوام التشكيك بشرعية المحكمة فضلاً عن طلب تنحي بعض القضاة كما فعل المدير العام السابق للأمن العام اللبناني اللواء جميل السيد في محكمة لبنان. وقال: «كان علينا ان نقرأ كتباً عن يوغوسلافيا لفهم طبيعة القضية التي نغطي المحكمة التي انشئت من اجلها، ولفهم التلاعب الذي يحصل مثل قضية أحد الشهود الذي أدلى بشهادته وكان زملاؤنا من يوغوسلافيا السابقة يضحكون عند سماعهم كلامه لأنهم كانوا يعتبرون انه يكذب. ثم كشف محامي الدفاع انه تم تدريبه في الاستخبارات البوسنية ليقول ما قاله فأعيد الى بلاده ولم يؤخذ بشهادته».
وكشف فيرفيس ان هناك اجهزة استخبارات قد تحاول التأثير في مجريات المحكمة لأهداف سياسية، وأن التئام المحاكم الدولية يفرض تحدياً ثقافياً، فالقضاة من جلسات محكمة نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية.jpg في محكمة يوغوسلافيا حين جلسوا ليحددوا اصول المحاكمات حصل بينهم نوع من الصدام الثقافي القانوني والقضائي لأنهم من جنسيات وثقافات مختلفة.
واختتم هودجيتش بقوله: «انا أفهم الجدال القائم في لبنان حول موضوع الحقيقة والاستقرار، وقد واجهنا شيئاً شبيهاً في يوغوسلافيا حيث قيل إذا دنتم هذا الشخص فستقع حرب. وهو ما زال في السجن منذ 15 سنة. صحيح انه ليس هناك مكان في العالم شبيه بلبنان، لكن يجب ان تعتبروا ان صدور القرار الاتهامي هو بداية العملية القضائية وليس نهايتها. وأنا أدعو الى ان تجعلوا المحكمة مؤسسة ملككم لتكون افضل ما يمكن الإفادة منه من اجل العدالة».
في اختصار لم يكن اللقاء مع الإعلاميين اقل إثارة من الندوات التي تولى الخبراء والمسؤولون في محكمة لبنان وشقيقتيها تقديم المعلومات خلالها.