- 'السفير'
من الجبهات المكشوفة إلى الجبهات الممنوعة
يوسف الأشقر:
كتبت في مقال سابق (السفير 15-10-2010)، عن جبهاتنا المكشوفة في مواجهة المشروع الحربي المتقدم، وأهمّها الجبهة السياسية - الإعلامية، وهي ذات دور حاسم في تقرير مصير هذه الحرب بالذات. ولاحظت، بأسف، أنّ الأطراف المعنية الأساسية عندنا، من لبنانية وعربية، تعاملت مع هذا الموضوع بالتلكؤ والماطلة كأنه من الكماليات أو من الضروريات الثانوية. وقد أدّى ذلك إلى تقدم المشروع الحربي وتقلّص فرصنا في مواجهته. ما يعزز احتمال أن تتحوّل الجبهات المكشوفة التي غبنا عنها طوعاً بسبب الجهل إلى جبهات ممنوعة علينا قانوناً. موضوع هذا المقال هو هذا الاحتمال على الساحة الأوروبية بعد صدور القرار الاتهامي، يعززه تكثيف استثنائي للنشاط الأميركي - الإسرائيلي على هذه الساحة، فيما نحن قاعدون.
غاب عن الأذهان أنّ هذا المشروع الحربي القائم علينا هو سياسي - إعلامي - ثقافي في المقام الأول، تقوده عقيدة حربية تضرب في عمق المجتمع والإنسان. العمليات العسكرية هي من وسائله وتعبيراته، وهي تأتي في خدمته. إنها في الحقيقة تواكبه وليس هو الذي يواكبها.
هكذا نفهم لماذا تحتلّ استراتيجيات الحرب الصورة المكانة الأولى في هذا المشروع. استراتيجيات تشويه الصورة والتحريض على صاحبها. وهي تتمثل الآن، في داخل مجتمعاتنا، بنزاعات وصدامات وحتى بحروب أهلية تفجرها صورة &laqascii117o;الآخر" في نظر كل طرف. وتتمثل، على المسرح الدولي، بصورة الإرهابي، عدوّ الجميع.
تشويه صورة حزب الله يخدم الهدفين الداخلي والخارجي معاً، وهو الآن أوّلية مطلقة في المشروع الحربي، لأنّ القضاء على نموذج مقاومتنا هو أوّلية مطلقة.
جميعنا بات يعرف أنّ الأميركيين أنفقوا في لبنان خمسماية مليون دولار لتصوير حزب الله عدواً للبنانيين. لكنّ القليلين يعرفون أنّ هذا المبلغ وهذه الجهود هي جزء من توظيفات أكبر بكثير، غير معلن عنها، أنفقها أصحاب المشروع في العالم لتصوير حزب الله عدوّاً للجميع. ويركّز الأميركيون والإسرائيليون كل جهودهم لتحقيق هذا الهدف الأخير، بدءاً بدفع الاتحاد الأوروبي، بشكل خاصّ، إلى وضع الحزب على لائحة المنظمات الإرهابية في الاتحاد. وقد وجدوا ضالّتهم في المحكمة الدولية وقرارها الاتهامي، لتحقيق هذا الهدف. من هنا نقول، إنّ تداعيات القرار الاتهامي على الساحة الأوروبية قد تأتي في أوّلياتهم الزمنية، قبل تفجير ساحتنا الداخلية. فتطوّقنا نيران هذه التداعيات من جهة أوروبا، فيما نكون نحن منشغلين كلياً عن ذلك بساحتنا الداخلية المشتعلة، ومعوّلين على أوروبا إياها للإسهام في إطفاء حرائقنا.
لماذا قد تأتي تداعيات القرار الاتهامي على الساحة الأوروبية قبلها على ساحتنا الداخلية، من الناحية الزمنية؟
إنّ التداعيات على الساحة الأوروبية هي، في نظر العدوّ، ضرورة قصوى وحاسمة لاستكمال الطوق، قبل أيّ استحقاق أساسي عندنا. وهي، من جهة ثانية، أسهل وأبسط وأقلّ كلفة مادية وبشرية منها على ساحتنا المحلية، فضلاً عن أنها محدودة في مضاعفاتها عليه. فهي لا تحتاج هناك، كما هي الحال عندنا، إلى قرارات خطيرة قد تجرّ إلى مواجهة مباشرة لا يمكن التنبؤ بمضاعفاتها ومحصّلاتها الأخيرة. كل ما تحتاجه هو مضاعفة الضغط على الاتحاد الأوروبي وعلى دوله الأساسية منفردة، لاستصدار قرار باعتبار حزب الله منظمة إرهابية حال صدور القرار الاتهامي بحقه، في جريمة مصنفة إرهابية. مع العلم أنّ هذه الضغوط قائمة من زمان، وأنّ عدداً كبيراً من هذه الدول بات مهيئاً بل متلهفاً لمثل هذه الخطوة.
وقد بدأت إسرائيل مؤخراً في التركيز السياسي - الإعلامي على ثماني عواصم أوروبية. وكالات الأنباء نقلت في أواخر الشهر الماضي عن مصدر في وزارة الخارجية الإسرائيلية يفيد، أنّ هذه الأخيرة ضاعفت ميزانية العلاقات العامّة في هذه العواصم الثماني تحديداً، وأنها أرسلت إلى سفاراتها فيها تعليمات تفصيلية عن كيفية الإسراع في استنفار قواها وتفعيلها. ما ينبئ عن توقع استحقاق مهمّ وعاجل على الساحة الأوروبية.
الاتحاد الأوروبي ملتحق على الصعيد الرسمي بالسياسات الأميركية - الإسرائيلية في الشرق الأوسط في مسارها العامّ. وهو أحياناً يزاود على هذه السياسات ببعض المواقف الحادّة التي تخدمها أو تمهّد لتصعيدها. إلا أنه تخلّف عن قرار اعتبار حزب الله منظمة إرهابية. وكانت فرنسا، مع مجموعة صغيرة من الدول الأوروبية، وراء هذا التخلّف الموقت العائد، في الغالب، إلى اعتبارات فرنسية داخلية (شعبية وحكومية) وخارجية (متوسطية وشرق - أوسطية). لكنّ هذا لم يمنع الرئيس ساركوزي من أن يتباهى في تل أبيب، في خلال حملته الانتخابية، بأنه هو الذي استحصل على قرار منع فضائية &laqascii117o;المنار" في فرنسا. ما يدلّ على منحاه الشخصي في هذا الموضوع، الذي يمكن أن يتطوّر، في ظروف ملائمة له، نحو الأسوأ. فيستحصل الرئيس ساركوزي من الاتحاد الأوروبي بحق حزب الله ما استحصله في الماضي بحق فضائية &laqascii117o;المنار" في فرنسا.
كيف يتعامل الرئيس ساركوزي مع هذا الموضوع في الوقت الحاضر؟
وكيف يمكن أن تتعامل فرنسا الساركوزية مع هذا الموضوع بعد صدور القرار الاتهامي؟
وما هي نتائج ذلك علينا، لا سيما على جبهتنا السياسية - الإعلامية المكشوفة أصلاً؟
يحرص الرئيس ساركوزي في الوقت الحاضر على مظهر الحياد والموضوعية والوقوف على مسافة واحدة من الجميع على الساحة اللبنانية. فهو قد استقبل رسميين وقادة سياسين لبنانيين من جميع الأطياف واستمع إلى وجهات نظرهم المتباينة في مختلف الموضوعات وعلى رأسها موضوع المقاومة وحزب الله. وقد سمعنا عدداً منهم يخرج إلى الإعلام الفرنسي معلناً تقديره للمقاومة وتمسكه بها وتحالفه أو تفاهمه مع الحزب كطرف أساسي في الحياة السياسية اللبنانية أو كمقاومة رائدة في عالمنا العربي.
ويحرص الرئيس ساركوزي أيضاً في الوقت الحاضر، وباسم الحياد والموضوعية إياهما، على التواصل مع جميع الدول العربية وعلى إقامة علاقة خاصة مع رؤسائها وملوكها وأمرائها، على تباين مواقفهم من المقاومة وحزب الله. وقد شهدنا في الفترة الأخيرة اهتماماً فرنسياً متزايداً بالعلاقة مع الجمهورية العربية السورية ورئيسها، وهي الدولة العربية الوحيدة الحليفة للمقاومة وحزب الله، وقد طوّرت حلفها معهما إلى المستوى الاستراتيجي والمصير الواحد.
هذه هي الحال في الوقت الحاضر. لكن كيف يمكن أن تكون الحال بعد صدور القرار الاتهامي بالمضمون المشاع عنه ومع الإصرار الأميركي - الإسرئيلي على انصياع الجميع لمقتضياته؟
أغلب الظن أنّ الرئيس ساركوزي سيكون أوّل الساعين لاستصدار القرار الأوروبي بحق حزب الله، من دون الشعور بأي حرج. فهو يفعل ما يفعله اليوم باسم الموضوعية. وباسم الموضوعية، مشفوعة باحترام القانون والعدالة الدولية، سيتوجه غداً إلى الفرنسيين والأوروبيين لحثهم على وضع حزب الله، المتهم دولياً بجريمة إرهابية، على اللائحة الأوروبية للمنظمات الإرهابية. ثم يعمل بعد ذلك، باسم الواقعية والمصالح، على عرض الخدمات الفرنسية والأوروبية على لبنان ومنطقتنا بالصوت العالي، فيما يُخنَق صوتنا وصوت الأوروبيين الأحرار على الساحة الأوروبية.
عندها، لن يكون بإمكان أحد أن يتكلم في أوروبا عن شيء اسمه مقاومة في لبنان، سواء أكان المتكلم أوروبياً أم أجنبياً، ولبنانياً بشكل خاصّ. هذا بموجب القانون. وأحكام القانون تقضي بتدابير وعقوبات، منها مصادرة أموال، وتجميد حسابات في المصارف، ونزع جنسية، وإحالة إلى القضاء للأجانب والأوروبيين على السواء. وسيكون ذلك وفقاً للوائح طويلة، متزايدة أبداً، بأسماء المؤسسات والشركات والأشخاس، بتهمة التعامل مع الإرهاب أو تمويله وتشجيعه. تماماً كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية المرتهنة لعقيدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلية.
عندها، لن يكون ثمة مقاومة في لبنان، في نظر الاتحاد، بل منظمة إرهابية يُمنَع الدفاع عنها أو التعاطف والتفاهم معها. وقد تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، فتطاول الدولة اللبنانية في ذاتها. فحزب الله، &laqascii117o;المنظمة الإرهابية"، هو شريك أساس في هذه الدولة، ما يرشحها لتكون &laqascii117o;دولة مارقة"، حاضنة للإرهاب وشريكة فيه. بذلك قد يلتحق الإتحاد الأوروبي بالمقولة التسويقية الإسرائيلية على الجبهة السياسية الإعلامية، فيلتحق بالتالي بالمشروع الحربي بشكل كامل.
وهذا يعني، من جهتنا، أننا قد ننتقل من الجبهات المكشوفة التي غبنا عنها طوعاً بسبب جهلنا، إلى الجبهات الممنوعة علينا قانوناً.
هل هذا المآل هو من الحتميات والأقدار التي لا تُرَدّ؟ هل هذا هو آخر المطاف في ما نحن في صدده؟ إذا اعتقدنا ذلك حقاً وعملنا على أساسه، نكون قد حكمنا على أنفسنا بأن نخسر الحرب، كل الحرب، وليس فقط المعركة في أوروبا. لو اعتقدت مقاومتنا المسلحة ذلك وعملت على أساسه، لما كانت هذه المقاومة أصلاً، ولما كان العالم قد شهد سلسلة انتصاراتها التي طبعت العقدين الأخيرين من تاريخنا وقدّمت نموذجاً لتأسيس عصر إنساني جديد. أما وقد قامت هذه المقاومة وأنجزت ما أنجزته، فقد تعاظمت مسؤوليتنا في حماية هذه الإنجازات. وحمايتها لا تكون إلا باستكمالها. فلا نسمح بتشويه صورتها على أيدي المسوخ. مقاومتنا على الجبهة السياسية - الإعلامية تبدأ بنزع القناع عن وجه هؤلاء المسوخ.
من حقنا وواجبنا، ومن حق الشعوب الأوروبية علينا، أن نقوم بهذه المسؤولية - الرسالة. فنقول للعالم، بدءاً من أوروبا الآن، إنّ المشروع الحربي الأميركي - الإسرائيلي هو، لا سواه، عدوّ الجميع. فهو إرهاب في ذاته. وهو يدير معظم الحركات الإرهابية. وهو يستدعي الإرهاب للردّ على إرهابه. أما مقاومتنا فهي حركة تحرير في ذاتها. وهي رائدة وملهمة للحركات التحريرية. وهي الطريق الوحيد للخروج من دوّامة الفعل الإرهابي وردّ الفعل عليه.
نحن محكومون بأن نذهب، بأعمالنا وطموحاتنا، إلى أبعد الحدود وأرقاها في مقاومتنا السياسية - الإعلامية في العالم، بعد أن ارتقت مقاومتنا المسلحة، بأعمالها ومعانيها التاريخية، إلى أعلى المستويات، وقدّمت نموذجاً رائداً لعصر جديد، إنساني، ينهي شريعة الغاب الحيوانية. وذلك بعد أن تحوّلت هذه الشريعة، في القرن الحادي والعشرين، من خطر تقليدي على بعض الشعوب إلى خطر على الإنسانية جمعاء وعلى حياة هذا الكوكب.
استكمال مقاومتنا هو واجب قومي ومهمة انسانية.