- 'النهار'
عقبات كبيرة تمنع التسوية في موضوع المحكمة.. خصوم العدالة الدولية الطرف الأضعف في المعركة
عبد الكريم أبو النصر:
'تناول تقرير جديد أصدره مركز ديبلوماسي تابع لوزارة الخارجية في دولة اوروبية بارزة موضوع الاتصالات العربية – اللبنانية – الدولية الهادفة الى محاولة الاتفاق على 'صيغة تسوية' تتعلق بالمحكمة الخاصة المكلفة النظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي جرائم سياسية اخرى مرتبطة بها، فركّز هذا التقرير على المسائل الاساسية الآتية:
اولاً - ليست لدى مجلس الامن أو الدول البارزة والمؤثرة دوافع ومبررات قانونية مناسبة ومصالح سياسية وامنية واستراتيجية لوقف عمل المحكمة ومنع صدور القرار الظني وفقاً لما يطالب به خصوم المحكمة.
ثانياً - لن تستطيع أي دولة أو مجموعة دول ان تفرض على مجلس الأمن صيغة تسوية يمكن ان يتوصل اليها اطراف لبنانيون واقليميون اذا كانت هذه الصيغة تهدد صدقية مجلس الامن والمحكمة وتمنع مواصلة العملية القضائية الدولية لكشف حقائق هذه الجرائم ووقف نهج الاغتيالات السياسية. ذلك ان عقبات اساسية عدة في مجلس الامن وفي المحكمة تمنع تنفيذ اي صفقة كهذه.
ثالثاً - يستطيع قضاة المحكمة انفسهم، استناداً الى صلاحياتهم، رفض تطبيق اي صفقة سياسية تتناقض مع متطلبات العدالة وتقضي على جهود لجنة التحقيق الدولية المستمرة منذ اكثر من خمس سنوات وتحجب الحقائق وتمنع محاسبة المتورطين في هذه الجرائم.
رابعاً - خصوم المحكمة ليسوا الطرف الاقوى في المعركة الدائرة حالياً حول مصير العملية القضائية الدولية بل انهم الطرف الاضعف لأنهم يواجهون في وقت واحد الغالبية من اللبنانيين ومجلس الامن والمحكمة الخاصة ودولاً عربية واجنبية بارزة تملك امكانات واسعة لإحباط خططهم. كما ان خصوم المحكمة يستخدمون 'اسلحة' واساليب تشكل تحدياً لدور مجلس الامن ولمتطلبات عمل المحكمة، وليست لديهم حجج او ذرائع ومبررات قانونية وشرعية حقيقية تدعم طلبهم وقف عمل المحكمة ومنع صدور القرار الظني.
خامساً - ان المسؤولين الحقيقيين عن المأزق الكبير الذي يواجهه لبنان وعن الاخطار الداخلية والخارجية المحتملة التي تهدد البلد هم الذين اغتالوا الحريري ورفاقه وشخصيات وطنية اخرى، وهم الذين يحاولون فرض شروط تعجيزية على اصحاب الحق المشروع في معرفة الحقيقة ومحاسبة المتورطين في هذه الجرائم، وهم الذين يلوّحون بتفجير الاوضاع لوقف مسيرة العدالة'.
هذا ما كشفته لنا مصادر ديبلوماسية اوروبية وثيقة الاطلاع في باريس. وأوضحت ان التقرير الديبلوماسي الاوروبي تضمّن الامور والنقاط الآتية التي تظهر وجود عقبات جوهرية ومهمة عدة تمنع اسقاط المحكمة:
اولاً - لم يسبق لمجلس الامن او الامم المتحدة ان اتخذا قراراً بوقف عمل محكمة دولية او ذات طابع دولي نتيجة ضغوط سياسية يمارسها الفريق المتضرر لأن حصول ذلك يشكّل نوعاً من 'الانتحار الذاتي' للعدالة الدولية. ولم يسبق لمجلس الامن ان تراجع عن قرار اصدره استناداً الى الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة. ويستطيع مجلس الامن، نظرياً، اصدار قرار جديد يلغي بموجبه القرار 1759 الذي انشأ المحكمة الخاصة، لكن ذلك يتطلب موافقة الدول الخمس الكبرى الدائمة العضوية عليه وعدم استخدام اي منها حق النقض (الفيتو). لكن الدول الخمس الكبرى تدعم علناً وصراحة المحكمة وتؤيد مواصلة مهمتها الى النهاية.
ثانياً - من الناحية النظرية يستحيل وقف عمل المحكمة نتيجة صفقة سياسية أو تفاهمات عربية – لبنانية تفرض على الامم المتحدة لأن هذه القضية تعني المجتمع الدولي ككل نظراً الى صدور قرارات عدة عن مجلس الامن في شأنها وفي شأن لجنة التحقيق الدولية. بل يجب ان يسبق اصدار اي قرار جديد عن مجلس الامن يطلب وقف عمل المحكمة اجراء مناقشات بين الدول الاعضاء في المجلس تتناول الدوافع والاسباب التي يمكن ان تبرر اتخاذ مثل هذا القرار الاستثنائي الكبير الذي يقضي بتراجع المنظمة الدولية عن النظر في جريمة اغتيال الحريري ورفاقه وفي جرائم سياسية اخرى هزت لبنان وشكّلت، وفقاً للقرار 1757، 'تهديداً للسلام والامن الدوليين'. والواقع ان الذين يطالبون بوقف المحكمة هم المتضررون منها والقلقون من قراراتها واحكامها في الوقت الذي يتمسك بالمحكمة اهالي الضحايا واللبنانيون في غالبيتهم كما تتمسك بها سائر الدول الحريصة على مصير لبنان والمطالبة بوقف نهج الاغتيالات السياسية. ورضوخ مجلس الامن لخصوم المحكمة يشكل فضيحة سياسية كبرى تمس بصدقية المجلس ومسار العدالة الدولية وتضعف سلطة القانون بشكل عام وليس في لبنان وحده. ويصعب كثيراً ان يتورط رؤساء الدول المعنيون بهذه القضية في فضيحة سياسية – قانونية كهذه من اجل ارضاء فريق لبناني أو طرف اقليمي.
ثالثاً - لم يقدم خصوم المحكمة ادلة وحججاً ومعلومات جدية وموضوعية مقنعة أو معطيات ذات قيمة قانونية تدفع مجلس الامن، نظرياً، الى اجراء مناقشات بين اعضائه في شأن إمكان وقف عمل المحكمة. فالتهديد بتفجير الاوضاع في لبنان اذا صدر القرار الظني وواصلت المحكمة عملها ليس حجة مقنعة، لأن الرضوخ لمثل هذا التهديد يعني ان مجلس الامن يرضخ للعنف ويتبنى منطق الاستقواء بالسلاح ويتخلى عن الدفاع عن حقوق اهالي الضحايا وعن مصالح اللبنانيين الحيوية، ويعني ان الدولة اللبنانية ومؤسساتها وقواها العسكرية والامنية ليست قادرة على حماية المواطنين والسلم الاهلي من اخطار المسلحين الى اي فريق انتموا. وحصول ذلك يشكّل تهديداً جدياً للاستقرار والسلم الاهلي والوحدة الوطنية في لبنان. واتهام المحكمة بالتسيس والانحياز وبالخضوع للاملاءات الاميركية والاسرائيلية وبالعمل ضد المقاومة يتناقض مع الحقائق والوقائع الاساسية المعروفة، خصوصاً ان خصوم المحكمة لم يقدموا اي دليل يدعم اتهاماتهم هذه. فالمحكمة انشئت بقرار من مجلس الامن الذي يمثّل الشرعية الدولية وليس بقرار اميركي، واثبتت بأعمالها واجراءاتها انها غير منحازة الى اي طرف وانها تتمتع بالاستقلالية التامة وتعمل بشفافية. والمحكمة ليست لديها اساساً الصلاحيات القانونية والقدرات اللازمة للقيام بأي عمل ضد المقاومة اذ ان مهمتها تقتصر على النظر في جرائم سياسية وارهابية كبيرة وإصدار احكامها وقراراتها استناداً الى اعلى المعايير القانونية. والقول ان القرار الظني باطل ويجب منع صدوره لأنه سيتهم اشخاصاً معينين ولأنه يستند الى معلومات خاطئة وافادات شهود زور ليس مقنعاً، اذ يستحيل تقويم مضمون هذا القرار قبل صدوره والاطلاع على الادلة والمعلومات والقرائن التي يملكها المدعي العام الدولي دانيال بلمار. وليس ممكناً القول ان التحقيق الدولي استبعد فرضية تورط اسرائيل في جريمة اغتيال الحريري ورفاقه قبل نشر القرار الظني. ومحاكمة المتهمين غيابياً إجراء قانوني شرعي يعتمد في لبنان والكثير من الدول حين ترفض جهة ما تسليم المطلوبين الى المحكمة أو حين يفر المطلوبون. وهذا الاجراء ضروري لضمان استمرار مسيرة العدالة وعدم توقفها بقرار يتخذه المتهمون ومن يدعمهم. وقد حرصت المحكمة الخاصة على ان تضمن في وقت واحد حقوق اهالي الضحايا والمتمسكين بالعدالة وكذلك حقوق المتهمين من خلال انشاء مكتب للدفاع تموّله المحكمة ويؤمّن المحامين للمتهمين، وهو ما ليس له وجود في المحاكم الدولية الاخرى.
رابعاً - إصرار خصوم المحكمة على اعطاء الاولوية لقضية شهود الزور والمطالبة بعدم إصدار القرار الظني قبل النظر في هذه القضية امام المجلس العدلي في لبنان، هذه الخطوة ليست لها مبررات قانونية بل ان دوافعها سياسية بحتة. فالمحكمة الخاصة ترى انه ليس ثمة وجود لشهود الزور حتى الآن اذ ان هذه التهمة توجّه الى الذين يدلون بشهادات مزورة امامها والى الذين يقدمون معلومات خاطئة ومضللة اليها. لكن المحكمة لم تبدأ إجراءات الاستماع الى الشهود حتى الآن اذ ان القضية كلها لا تزال في مرحلة اعداد القرار الظني. واذا كان اشخاص معينون قدموا شهادات مزورة ومعلومات مضللة الى لجنة التحقيق الدولية، فإن المدّعي العام الدولي سيتجاهلها كلياً ولن يعتمد عليها لدى إصداره القرار الظني. وليس ممكناً، من الناحية القانونية، محاكمة اي شخص بتهمة الادلاء بشهادة زور قبل صدور القرار الظني والاطلاع على نص شهادته امام المحكمة.
قضاة المحكمة والصفقة
خامساً - المحكمة الخاصة تستند في عملها الى ركيزتين اساسيتين: الاولى مجلس الامن الذي انشأها والذي يؤمّن لها الشرعية والدعم والحماية ويرعى عملها، والثانية هي هيئة المحكمة التي تضم قضاة من جنسيات مختلفة. وقضاة المحكمة يملكون صلاحية رفض اي قرار سياسي محلي او اقليمي او دولي يدعوهم الى وقف مهمتهم واقفال ملفات الجرائم التي ينظرون فيها وكأنها لم تقع وذلك للأسباب الآتية:
اولاً، لن يقبل القضاة بالتخلي عن حصيلة عمل لجنة التحقيق الدولية التي تملك كمية كبيرة من الأدلة والقرائن والمعطيات والمعلومات والشهادات المتعلقة بجريمة اغتيال الحريري ورفاقه وبجرائم اخرى.
ثانيا، قضاة المحكمة ليسوا موظفين اداريين عاديين يتلقون التعليمات وينفذوها بل انهم يتمتعون بالحصانة وهم حريصون على سمعتهم وصدقيتهم ورصيدهم ولن يقبلوا بتزوير الحقائق أو تجاهلها والقول ان التحقيق الدولي لم يكشف شيئاً او انه وصل الى طريق مسدود من اجل ارضاء هذا الفريق او ذاك، كما انهم لن يقبلوا بتحمّل مسؤولية تنفيذ صفقة تعقد على حساب العدالة ويمكن، نظرياً، ان تفرض عليهم، ثالثاً، اذا حصل المستحيل واصدر مجلس الامن قراراً يقضي بوقف عمل المحكمة، فان القضاة سيتمردون على هذا القرار ولن يرضخوا له بل انهم سيكشفون علناً كل ما يملكونه من ادلة ومعلومات عن هذه الجرائم ويفضحون الجهات التي اوقفت عمل المحكمة. ولن تقبل اي جهة بتحمل تهمة المشاركة في طمس الحقيقة ووقف مسار العدالة من اجل ارضاء خصوم المحكمة والمتضررين منها.
سادساً - ما يعزز استقلالية المحكمة الخاصة انها تملك صلاحية إصدار قراراتها من دون التشاور والتفاهم سلفاً مع الحكومة اللبنانية او حتى مع مجلس الامن ومن دون الرضوخ تالياً لأي ضغوط لبنانية او اقليمية او دولية. فالمحكمة تمتلك ديناميكية ذاتية تدعمها اعلى سلطة دولية وهي مجلس الامن بقطع النظر عن قراراتها، وتستمد قراراتها واجراءاتها القوة والشرعية من استنادها الى اعلى المعايير القانونية.
سابعاً - ان الحملة الشديدة على المحكمة المرفقة بالضغوط والتهديدات المتنوعة تعطي، في الواقع، المزيد من الشرعية والصدقية لعمل المحكمة، اذ تؤكد ا ن اللجوء الى العدالة الدولية هو السبيل الوحيد للاطلاع على حقائق هذه الجرائم وملاحقة ومحاسبة المتورطين فيها استناداً الى ادلة وقرائن صلبة وقوية. اذ لو كلف القضاء اللبناني النظر في هذه الجرائم الكبرى لبقي الفاعلون مجهولين كما حصل بالنسبة الى مجموعة كبيرة من الجرائم التي ذهب ضحيتها زعماء وشخصيات سياسية ودينية وفكرية واعلامية عدة خلال العقود القليلة الماضية.
ثامناً - ان الذين يهددون بتفجير الاوضاع في لبنان لوقف عمل المحكمة او للرد على القرار الظني ليسوا في حال دفاع مشروع عن النفس بل هم في حال هجوم واعتداء على اهالي الضحايا وعلى المتمسكين بالعدالة وعلى اللبنانيين عموماً. ولذلك لن يقف المجتمع الدولي الى جانب خصوم المحكمة والمتضررين منها الذين يذهبون ابعد من رفض قراراتها، اذ انهم يهددون بمعاقبة اللبنانيين وبتعريض مصير لبنان للخطر، فيما يبدو منطقياً ومشروعاً ان يتعامل هؤلاء مع العملية القضائية الدولية بالوسائل القانونية المناسبة اي بتكليف محامين الدفاع عن المتهمين وتقديم ادلة ومعلومات مناقضة لتلك التي سيقدمها المدعي العام الدولي في قراره الظني مما يمهد لاجراء محاكمة عادلة ومنصفة.
ولخص التقرير الاوروبي الوضع كالآتي: 'يتصرف خصوم المحكمة على اساس ان العالم جزء من لبنان وانهم يستطيعون تالياً ارغام مجلس الامن ومجموعة كبيرة من الدول والمحكمة ذاتها على الرضوخ لهم ولمطالبهم. لكن الحقيقة البسيطة والواضحة هي ان لبنان جزء صغير من العالم وان خصوم المحكمة هم جزء من هذا الجزء الصغير مما يعني ان المطلوب منهم ان يرضخوا هم لمتطلبات العدالة الدولية، خصوصاً ان هدفها حماية هذا البلد وابنائه من الاغتيالات وأخطار استخدام العنف والسلاح في الصراع السياسي الداخلي، وانها تحتكم الى القانون لمحاسبة المتورطين في هذه الجرائم وليس الى اي عوامل او حسابات سياسية'.
- 'النهار'
مقاومة – مفاوضات: الاستراتيجية المستحيلة
منير شفيق:
أثبتت التجربة، ومن خلال الاستناد إلى الوقائع في ما انتهت إليه الأوضاع على المستوييْن العملي والسياسي، ما يأتي:
1- لا جدوى من المفاوضات والسير في طريق التنازلات من جانب واحد، تحت شعار إيجاد حلّ للقضيّة الفلسطينية أو ما يسمّى التسوية وصولاً إلى الحل على أساس حلّ الدولتين.
2-ما سجلته التجربة هو أن كل ذلك كان يتمّ من خلال تقديم التنازلات من جانب واحد، فيما الطرف الإسرائيلي لم يشر من بعيد أو قريب إلى ما يسلم به كحق من حقوق الشعب الفلسطيني وعلى التحديد في الأرض الفلسطينية.
إن أقصى ما قدمه كان الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للفلسطينيين. وهذا لا يعني الاعتراف بأي حق للشعب الفلسطيني في أرض فلسطين ولا حتى في جزء منها. ناهيك حتى عن الاعتراف بحق العودة، أو بحق الوجود في أرض فلسطين.
3-إن مجرد التفاوض من جانب الطرف الإسرائيلي لم يعنِ، لا تلقائياً ولا ضمناً، أو علناً، اعترافاً بأيّ حق للشعب الفلسطيني. بل لم يصحبه أي اعتراف بأي قرار من قرارات هيئة الأمم المتحدة، ابتداء من قرار التقسيم وانتهاء بالقرار 242. وهذا هو موقفه حتى الآن. بل حتى خريطة الطريق بعد أن ووفق عليها فلسطينياً سجّل المفاوض الصهيوني عليها 14 تحفظاً.
4-كان نهج القيادات الإسرائيلية ومن قبلها قيادات الوكالة اليهودية هو هاتوا ما عندكم، خطوة بعد خطوة، من 'التنازلات'، أو الأدق من الاعترافات بحقوق لليهود كما يترجمه المشروع الصهيوني والدولة الإسرائيلية.
5- وكان النهج المتكرر منذ اليوم الأول من جانب بريطانيا، ثم لاحقاً من جانب اميركا والدول الغربية، ومن يمكن أن يجرّ إليه من دول وقوى سياسية واجتماعية في العالم هو التالي: طرح مشاريع للحل، أو مبادئ للحل أو اتخاذ قرارات دولية. وهي جميعاً كانت موجهة، في حينه وحتى الآن، إلى الفلسطينيين والعرب والعالم للاعتراف بها باعتبارها الحل الوسط المعقول والمقبول لحل الصراع عند الحد الذي وصل إليه التنازل الفلسطيني والعربي. وكان قدّم في السابق كحل وسط.
6- وكانت المحصلة باستمرار انتـزاع الموافقة الفلسطينية والعربية، وحتى الدولية غير العربية عموماً، سواء بعد تمنّع أم فوراً أم تدرّجاً على المطروح في كل مرحلة. ولكن من دون اشتراط الموافقة عليه من جانب قادة المشروع الصهيوني. فقد كان نهجهم هو انتظار موقف الطرف الآخر بداية، وما أن يعلن موافقته، يعتبرونها خطوة إيجابية، حدثت مع مشروع الحل المطروح أو القرار من هيئة الأمم المتحدة ثم يعتبرونها غير كافية. ثم يبدأون بطرح تحفظات ليترك الأمر للتفاوض الذي لا يقوم على أي شروط مسبقة، عدا الاعتراف بدولتهم وما تمّ تحقيقه. وهكذا تدرجت كل المشاريع والقرارات، ودعك من التي طلب من الفلسطينيين أو العرب المبادرة إلى طرحها، كحل، أو برنامج مرحلي، أو عبرّت عن موقف جديد، مثلاً البرامج المرحلية على اختلافها، أو مبادرة السلام العربية، أخيراً. وخلاصته:
- الجانب الإسرائيلي يستقبل ما يكون قد قدّم له من خلال كل مشروع حل أو قرار من هيئة الأمم، أو موقف فلسطيني أو عربي، اتخذ في حينه، فيعتبره قد أصبح في الجيب فيما المطلوب 'تطويره' من جانب الآخرين والوسطاء أو عبر المفاوضات وما سيطلبه فيها. هذا هو الموقف والمسار حتى الآن.
- الجانب الفلسطيني والعربي الباحث عن تسوية يكون عملياً قد قدّم تنازلاً جديداً، ولم يحصل في المقابل على شيء من الاعتراف بأي من الحقوق الفلسطينية في الأرض والوطن والوجود عليها أو العودة إليها.
- الجانب الدولي المعني في الرعاية والوساطة (الدول الغربية أساساً) يقبل في كل مرّة وجهة النظر الإسرائيلية، عملياً، إن لم يكن رسمياً، فيتناسى بعد حين ما كان قد طرحه من مشروع حل، أو اتخذ من قرار دولي من قِبَل هيئة الأمم المتحدة، وأساساً، من مجلس الأمن. ثم يبدأ بطرح مشروع 'حل وسط' أو حل 'معقول ومقبول' جديد ('حل عادل')، يتجاوز ما وافق عليه الفلسطينيون والعرب ليكون الحل الوسط بين آخر موقف لهم وسقف إسرائيلي أعلى جديد (مفترض من جانبهم؛ لأن الجانب الإسرائيلي لم يحدّد سقفاً للحل قط ولم يزل).
- حتى مشروع حلّ الدولتين (الدولة في الضفة والقطاع أو ما يسمّى في حدود 1967) أُدخِل عليه مبدأ 'تبادل الأراضي'، والبحث عن حل مشترك لـ'القدس الشرقية' مع اعتبار مصير القدس الغربية منتهياً. وما كان منتهياً إلاّ في المرحلة الأخيرة من جانب اميركا والدول الغربية (الاعتراف بـ'القدس الغربية' عاصمة لدولة إسرائيل والتفاوض على وضع 'القدس الشرقية').
وبهذا لم تحدّد الأراضي التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية، وما هو وضعها الحقوقي: هل سيعترف بأنها حق للشعب الفلسطيني أم يترك له أن يعتبرها كذلك فيما يعتبر الجانب الإسرائيلي أنه قام بإعادة انتشار، أو فك ارتباط، أو اعترف بدولة دون الاعتراف بحقها في الأرض التي تقوم عليها. وحتى هذا سيكون مشروطاً بعدد من القضايا الأمنية بما فيه السيطرة على المداخل والأجواء وتحديد التسلح وعدد من الشروط الأخرى الإقتصادية والسياسية.
ما يظهر حتى الآن دولة مفرغة من السيادة السياسية والأمنية، وحرمان من الحق في الأرض التي تقوم عليها؛ لأن الجانب الإسرائيلي سيظل يؤكد بأنها جزء من أرض إسرائيل.
ثم تأتي ثالثة الأثافي وهي شرط الاعتراف بيهودية الدولة. وقد أصبح سياسة رسمية للإدارة الاميركية. إن هذا الاعتراف يمسّ 'أصل الحق في فلسطين' أي المطلوب من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والعالم الاعتراف به كذلك. وبهذا لا يعود الاعتراف بحق الوجود لإسرائيل، ولا مجرد الاعتراف الديبلوماسي بها، وإنما يراد منه أن يكون اعترافاً بأصل الحق في فلسطين أي فلسطين حق مَنْ راهناً وتاريخياً؟
وبهذا تكون التجربة التاريخية أثبتت أن المفاوضات وعملية التسوية، وبتواطؤ غربي، كانتا طريقاً باتجاه واحد. الطرف الإسرائيلي يأخذ ويأخذ، ولم يقدّم شيئاً قط، عدا الاعتراف، المفرغ من أيّ اعترافٍ بحقوقٍ في الأرض للشعب الفلسطيني. أي الاعتراف بمنظمة التحرير بأنها ممثل لا أكثر، مع إلغاء جملة من بنود ميثاقها وتركها بلا ميثاق (دستور). ثم جاء القبول بحلِّ الدولتين من دون أن يُعترف بأيّ محتوى للدولة الفلسطينية، وعلى أيّة شروط ستقوم، عدا ما سيخرج من المفاوضات. أي ما سيوافق، أو الأصحّ، عدا ما سيشترطه المفاوض الصهيوني إن وصل فعلاً لبحث إقامة دولة حتى بشروطه الكاملة (التي ليس فيها حتى دويلة).
فطريق المفاوضات والتسوية هو طريق في اتجاه واحد ولا يمكن أن يكون على غير ذلك. فلا يتفاصَحَنَّ أحدٌ على المفاوض الفلسطيني أنه كان باستطاعته أن يفعل 'أفضل'، أو يأتي بنتائج مختلفة. فالقانون الحاكم، هو ما أثبتته التجربة. ودعك من الافتراضات الوهمية واللاواقعية التي لم تأخذ، في الاعتبار استراتيجية المفاوض الإسرائيلي واستراتيجية اميركا ومؤيديهما. فمن يطالب بمفاوضات بديلة إنما يقدّم ورقة حسن سلوك لا أكثر، إن لم يكن ساذجاً وتبسيطياً.
فمن يرد التفاوض والعملية السياسية فذلكم الطريق الوحيد، وإلاّ لا مفاوضات ولا عملية تسوية خارج المعادلة المحكومة بالإستراتيجيتين المتكاملتيْن المذكورتيْن: استراتيجية الكيان الصهيوني واستراتيجية الولايات المتحدة.
ولهذا لا طريق غير ذلك الطريق الذي اتخذته المفاوضات والعملية السياسية، ولا نهاية غير النهاية التي وصلتها الأوضاع وذلك الطريق حتى الآن.
ومن ثمّ من العبث تجريب المجرّب، أو التشاطر في مجال لا تشاطر فيه لمن يريد دخول المفاوضات والعملية السياسية. ولهذا:
- إما الإيغال في الطريق نفسها وقد باتت نهاياتها معروفة بما يجعل استمرار السير في هذا الطريق محالاً؛ لأنه طريق لتصفية القضية والانتحار الذاتي.
- ليس أمامنا وضمن ما آلت إليه الأوضاع في الضفة الغربية، حيث الترجمة العملية للمفاوضات والعملية السياسية، غير التركيز على مقاومة الاحتلال ووضع حدّ للتدهور الذي وصلته 'فتح' والقضية الفلسطينية والسلطة والوضع الفلسطيني بعامّة، بسبب السير على طريق المفاوضات وعملية التسوية والرهان عليهما. وذلك بسبب وهم إيجاد حلّ يحقق عشر معشار الحق الفلسطيني أو مصلحة الشعب الفلسطيني. فقد زاد الاستيطان تغوّلاً وقضماً لأراضي الضفة الغربية وتهويداً للقدس، وانتقل التفاوض ومسار التسوية إلى بحث يهودية الدولة أي التنازل عن أصل الحق في فلسطين، بل زاد الاحتلال هيمنة على الضفة الغربية لا سيما مع الاتفاق الأمني والتعاون الأمني. ولم يخطئ من وصفه باحتلال خمس نجوم. ولهذا خلاصة:
- ليس أمامنا من هدف يمكننا العمل في اتجاهه غير مقاومة الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس. الأمر الذي يتطلب أول ما يتطلب وقف التعاون الأمني مع قوات الاحتلال، في ظل الاستمساك بالحقوق والثوابت كاملة بلا عوج.
- لا بدّ من التخلص من الأوهام حول الرهان على أميركا أو الرباعية أو التعاون الأمني أو بناء المؤسسات تحت الاحتلال لإقامة الدولة، لأن التجربة المريرة أثبتت النتائج الوخيمة على الشعب الفلسطيني والقضية، والمترتبّة عن مثل هذه الرهانات.
- إن مقاومة الإحتلال ومواجهته وليس مفاوضته والتعاون معه، تحملان آفاقاً واسعة لفرض الانسحاب عليه كما حدث في جنوب لبنان وقطاع غزة. أما في الأقل فبالتأكيد أن الاحتلال والمستوطنين لا يفهمون لغة التفاوض والعملية السياسية والتعاون الأمني.
- استناداً إلى طبيعة الصراع في فلسطين (صراع وجود) وفهم عميق لاستراتيجية الكيان الصهيوني وللإستراتيجية الأميركية لا يمكن أن تطبق منهجية مقاومة ومفاوضات كما حدث في بعض التجارب. ومن يطالب بذلك يخادع نفسه أو يخشى أن يُواجِه المعادلة الحاسمة في القضية الفلسطينية، وهي إما مقاومة وإما مفاوضة ولا جمع بينهما، مع التأكيد بأن المفاوضة تعني الانتحار الذاتي وتعريض القضية الفلسطينية إلى التصفية.
ربما اعتبرها البعض معادلة مرّة أو حقيقة مرّة. ولكنها في كل الأحوال ليست من اختراعنا، وإنما هذا ما يؤكدّه الواقع وتثبته التجربة.
- 'النهار'
إرهــــاب الصـــواريـــخ
نص إسرائيلي بقلم موشي ارينز:
استعمل الارهابيون مسدسات وبنادق آلية لقتل أفراد؛ واستعملوا منتحرين ليقتلوا على نحو مركز مجموعات اجتمعت في مراكز ترفيه؛ واختطفوا طائرات لقتل آلاف المدنيين. لكن أنجع سلاحهم اليوم هو الصاروخ الباليستي. فهو سلاح رخيص يُطلق من بعيد على أهداف مدنية ويُمكّن الارهابيين من الهرب قبل أن يصيب الهدف.
إن السكان المدنيين منذ سنين كثيرة في اسرائيل هدف لصواريخ الارهابيين. كانت تلك في البدء صواريخ كاتيوشا 'حزب الله' في الشمال، وبعد ذلك صواريخ 'قسام حماس' في الجنوب. وفي البدء كانت هذه المنظمات الارهابية تملك عشرات الصواريخ ومئات بعد ذلك وعشرات الآلاف من الصواريخ التي تهدد مواطني اسرائيل الآن. وقد هددت في البداية مناطق قريبة من الحدود فقط، لكنها الآن تغطي الدولة كلها. إن ما كان في الماضي دعامة مبدأ أمن اسرائيل – ضمان أمن المواطنين زمن الحرب – تم التخلي عنه بالتدريج. فاليوم يعلن متحدثون عسكريون ان كل سكان اسرائيل المدنيين قد تصيبهم صواريخ الارهابيين في حالة حرب. يوجد هنا تغيير أساسي الى اسوأ في وضع اسرائيل الاستراتيجي.
كيف سمحنا لهذا الواقع بأن ينشأ؟ هل نام قادتنا ولم يكونوا عالمين بما يحدث حولنا بالتدريج؟ إن عددا منهم مسؤولون بأعمالهم واخفاقاتهم عن هذا التدهور في واقع الامر. فالانسحاب من جانب واحد من الشريط الأمني في جنوب لبنان مكّن 'حزب الله' من أن يزيد بلا حد عدد الصواريخ التي يملكها، أما اخفاق حرب لبنان الثانية فمكنه من السيطرة على لبنان وأن يدخل فيه بلا مشكلة صواريخ من طريق سوريا وينشرها مستعدة للاطلاق، في جميع أنحاء لبنان.
بعد ذلك جاء الانسحاب من غوش قطيف من جانب واحد بـ'حماس' الى تولي السلطة في قطاع غزة، وبدأ ناسها يطلقون الصواريخ على السكان المدنيين في جنوب الدولة من غير أن يُعاقبوا. وقد استمروا على فعل ذلك مدة سنين بلا أي رد اسرائيلي. وبرغم ان عملية 'الرصاص المصبوب' ضاءلت آخر الامر عدد الصواريخ التي تطلق على اسرائيل مضاءلة كبيرة، ما زال سكان الجنوب يتلقون كل يوم تقريبا صواريخ وقذائف من قطاع غزة. أوقفت العملية قبل أن تُنجز، وزادت 'حماس' منذ ذلك الحين عدد الصواريخ التي تملكها استعدادا للجولة المقبلة.
في حين يبدو ان اسرائيليين كثيرين يقلقهم جدا ما يعتقده 'العالم' بشأن اسرائيل، ينبغي أن نذكر ان دولا كثيرة يقلقها جدا امكان الارهاب على ارضها، لا تبدو قلقة على نحو خاص من أن سكان اسرائيل معرضون لتهديدات الارهاب. لا يجب علينا التوجه اليها لنجد حلا. انها مشكلة سنضطر الى مجابهتها وحدنا.
ماذا يمكن أن نفعل؟ كان يبدو لزمن طويل أن قادتنا واقعون في إنكار. قيل لنا في البدء إن علماءنا يطورون نظاما لتثبيط الصواريخ الباليستية يستطيع أن يُستعمل في المستقبل مظلة واقية للمدنيين ولاسقاط كل صاروخ يطلقه الارهابيون. لا يجب ان تكون عالم صواريخ كي تدرك ان الحديث يدور عن أحلام يقظة. فاذا استثنينا التحدي التكنولوجي العظيم الذي يُعرضنا له تطوير نظام كهذا، فان فروق الكلفة بين الصاروخ البسيط الموجه الى السكان وبين النظام المحكم المخصص لتثبيطه، أكبر من ان تكون حلا للمشكلة. قيل لنا بعد ذلك اننا نستطيع ان نردع الارهابيين عن استعمال هذا السلاح علينا. فكروا في هذا جيدا. من هنا يردع من؟
أيعني هذا انه لا يوجد ما نفعل سوى اعداد ملاجئ اخرى وتوزيع أقنعة واقية شخصية لكل ساكن؟ لا حقا. إن التسليم لهذا الوضع الذي لا يحتمل لا يفترض أن يكون الجواب. فثمة امور يجب فعلها لمضاءلة الخطر الذي نواجهه وترجيح كفة الميزان الاستراتيجي لمصلحتنا. إنها خطوات ذات صبغة دفاعية وهجومية وردعية.
يحسن ان يُعمِل رئيس حكومتنا ووزير الدفاع والسباعية والمجلس الوزاري المصغر ومجلس الأمن القومي والجيش ولجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، رؤوسهم ويبدأوا العمل. فالعمل كثير والوقت قد يكون قصيرا، وإلا فيحسن أن نبدأ الاستعداد للجنة التحقيق التالية.
'هآرتس'
ترجمة 'المصدر' ـ رام الله
- 'السفير'
سوريا وإيران وبوصلة النظرة اللبنانية
أحمد جابر:
تملي القراءة السياسية الجادة، على اللبنانيين، التدقيق في مضمون العلاقة السورية ـ الإيرانية، لاستجلاء آفاقها المستمرة، والتعرف إلى محطاتها الظرفية. أسباب القراءة هذه، عديدة، لبنانياً، لارتباطها المباشر بأفق التطورات الداخلية اللبنانية، وبطبيعة المسالك التي قد تتخذها تقلبات الأوضاع المحلية، وبنوع السياسات الضرورية والمناسبة، لمواجهة تداعياتها.
بداية، تجدر الإشارة إلى أنه من غير الصائب سياسياً، وضع إيران وسوريا في كفة سياسية واحدة. التمييز بين البلدين أمر طبيعي، لأن لكل منهما مصالحه وسياساته، واللقاء فوق مساحة سياسية مشتركة، لا يعني التطابق الحالي، ولا يمكن أن يعنيه بحال من الأحوال. ذلك هو منطق الوقائع المادية المختلفة، التي تنهض على أرضيته كل القراءات، في لقائها وفي افتراقها.
إدامة النظر إلى الوضع السوري، بصفته عنصراً داخلياً لبنانياً، يعبر عن وجهة تحليلية صائبة، إذ لن تكون سوريا خارجية، في لبنان، مثلما لن يكون هذا الأخير خارجياً في سوريا. الاعتراف بهذه المعادلة، يشكل واحدة من الحصانات الداخلية، لجهة المعاني الفكرية السياسية التي ينطوي عليها مضمون النظرة إلى سوريا، فيما لو قرئ الموضوع على وجهه الانفتاحي الأرحب، وفيما لو تمّ التخلي عن النظرة الضيقة، التي تنفي لبنان الكيان، أو تنفخ في مقومات كينونته إلى حد الأسطورة التراثية. القراءة الإيجابية الذاتية، عامل مساعد على الإحاطة الموضوعية، حتى ولو كان الطرف الآخر، أي السوري، لا يشارك &laqascii117o;اللبناني" في ملفات مطالعته كلها. يبقى للناظر المستنير فضل المبادرة، في الميدان الإيجابي، مما يحرج شريكه &laqascii117o;تقدمياً"، بدل أن يزايد عليه في الارتكاس الماضوي، أو في الجمود العقائدي، أو في المخيال النظري، الذي يفتقر إلى قواعده المادية.
إيجابياً، من المهم تمييز سوريا، لبنانياً، في البعد العروبي. مصدر الأهمية أن العروبة تظل العامل الأبرز في تشكل لحمة الاجتماع الداخلية، إذا ما أراد &laqascii117o;الأهل" مغادرة تعريفات هوياتهم الوطنية. العروبة مفاعل جمع يجبُّ التراث الفينيقي، والإرث الإسلامي والمسيحي، وادعاءات اللبنانوية والعروبوية. العروبة إذ تتجاوز كل ذلك، لا تنفيه، بل تتمثله وتعيد إنتاجه إنتاجاً صحياً، يسمح بالطموح إلى الانتقال إلى &laqascii117o;العصرنة"، التي ما زالت عزيزة المنال، على امتداد مساحة &laqascii117o;الضاد" العربية! على قاعدة العروبة، كمكون من مكونات الهوية الوطنية، يمكن الحديث عن الوطنية اللبنانية، وعن معوقاتها وإعاقاتها، مثلما يمكن الحديث عن الوطنية السورية، بمعضلاتها وبإشكالاتها أيضاً. هو حديث مقارنة، أو بحث تكامل، مع الانتباه إلى أن عثرات الوطنية اللبنانية لا تعطي الحجة لأحد، بالتجاوز عليها، مثلما أن مشاكل الوطنيات العربية الأخرى، ومنها السورية، لا تجيز إشاحة النظر عما حققته هذه الوطنيات من تراكمات، وهي تبحث عن ترسيخ قواعدها الاجتماعية والسياسية. مرّة أخرى، يشكل تمييز النظرة إلى سوريا، من بوابة العروبة الداخلية، جواز مرور إلى البحث الصحي والمسؤول، في الإشكاليات الوطنية العربية العامة، بصفتها ظاهرة مشتركة، تمت بصلة قرابة وثيقة، إلى كل داخل من الدواخل العربية.
يستطيع اللبنانيون القول، إن سوريا السورية، تظل عربية فوق أرضها، وفي علاقاتها مع باقي البلدان العربية، مثلما هم قادرون على القول إن الدولة هناك قائمة، رغم ثغراتها، والطائفية &laqascii117o;مطوية"، رغم ما قد يندّ عن أصحابها من همهمة خافتة، والمواقف من القضايا العربية الصراعية، وفي مقدمتها مسألة القضية الفلسطينية، واضحة، رغم كل النقاش الجائز في السياسات التي ترعى هذه المواقف. كل ذلك يقود إلى الخلاصة الآتية: تمييز سوريا، من خلال النظرة الصائبة إلى العلاقة معها، يشكل رافداً إيجابياً للوضع اللبناني، من باب المقارنة الناقدة، ومن مدخل الاتصال الصريح، ومن خلال المطالبة المحقة، بأن تظل العروبة منصة اجتماع أنداد، بدلاً من أن تكون ميدان اصطراع أضداد.
تختلف النظرة إلى إيران، فهذه &laqascii117o;جارة" المنطقة العربية، وليست مكوناً من مكوناتها، وما يقال عن التكامل التصاعدي بين الدول العربية، يقابله الحديث عن سياسة حسن الجوار مع الجمهورية الإسلامية. قد ترتقي هذه الأخيرة إلى مرتبة &laqascii117o;الجار الطيب"، لكنها لن تصل إلى منزلة &laqascii117o;الشقيق العربي". عليه، يمكن الاستطراد بالقول، أن ما يضبط الجار مختلف عن ضوابط الشقيق، وإذا كان الأمر ذاتياً وطوعياً، في حال &laqascii117o;الأخوة"، فإنه يظل بفعل عوامل موضوعية، اضطرارياً، في حال من هم من غير &laqascii117o;أهل البيت".
مقابل سوريا السورية، في أرضها الوطنية، وضمن الديار العربية، هناك إيران الإيرانية داخل حدودها الجغرافية فقط. أما ما يتجاوز ذلك، &laqascii117o;فالإيرانية"، عبارة عن نفوذ سياسي، يستند إلى ملاحق سياسية، طابعها &laqascii117o;مذهبي"، ووضعها أقلوي، إلا في ما ندر في بعض البلدان، العربية وغير العربية. بهذا المعنى، لا يشترك الوضع الإيراني مع الوضع السوري في صفة &laqascii117o;الداخلية"، في حنايا البنية اللبنانية، وبمقدار ما يتأكد ثبات &laqascii117o;الجوانية" السورية، بمقدار ما تترسخ حقيقة &laqascii117o;البرانية" الإيرانية، مما يعطي الأولى صفة الإقامة، ويحيل إلى الثانية صفة العبور. الاختلاف بين الوضعيتين ينقل البحث إلى التمايز بين السياستين، وإلى التدقيق في الأطياف الاجتماعية التي تتوجه إليها كل منهما.
واضح أن السياسة السورية تتوجه إلى الجمع، حتى وهي تتصل به بالمفرق، وعندما تسعى إلى صياغة ائتلافه. تلك صفة المقيم في البنية اللبنانية. واضح أيضاً أن السياسة الإيرانية تنطلق من القاعدة الأهلية الخاصة، فتخاطب الآخرين من خلالها، فتنتفي عنها صفة العمومية، رغم أنها تبذل جهداً في مجال نفي الخصوصية أو تمويهها. تلك صفة الطارئ على الوضعية الداخلية.
على اختلاف السياسات يؤسس مآل الوضعيات. تخرج الوضعية الإيرانية من لبنان، إذا ما استثمرت سلة نفوذها الموزع بين عدة بلدان، استثماراً مرضياً لطموحاتها السياسية. بالمقابل، تديم الوضعية السورية الاتصال بلبنان، فلا تخرج منه، إلا لتظل فيه. أفق المغادرة، سياسياً، مفتوح على التقليل من قيمة البلد المغادَر، وعلى الاستعداد المفتوح للتلاعب به. وأفق الإقامة، سياسياً، مرتبط بالحفاظ على بلد الإقامة، ولو بشروط من يرغب بإطالة الإقامة فيه.
تظل ترجمة التمييز بين أشقاء لبنان وجيرانه، مطلوبة على صعيد سياسي. العبارة الأولى في الترجمة، تكمن في فهم مصالح جميع الأطراف اللبنانيين، والامتناع عن تصنيفهم &laqascii117o;كجاليات" خارجية، دينية أو مذهبية أو سياسية، مقيمة في لبنان. العبارة تلك، تظل المرشحة الوحيدة، لإعادة بناء الداخل اللبناني، على قواعد ضرورة تمييز أوضاع الأشقاء، والتمايز عن أوضاع الغرباء، وعدم إقامة التطابق بين هؤلاء وأولئك، كذلك عدم إضاعة بوصلة الخطاب السياسي، عن ضرورة بناء محصلة المصالح الوطنية، التي يعرف ساستها الإبحار بين ضرورات السياسات ومضارها، ويدركون محاذيرها ومحظوراتها.
تبقى ملاحظتان ختاميتان: الأولى، أن رابطة القومية العربية السياسية، تظل فكرة مستقبلية، رغم كل عثراتها، والثانية، أن رابطة &laqascii117o;الدينية السياسية" تبقى فعلاً نكوصياًَ ماضوياً، رغم كل وعودها الخلاصية.