- 'النهار'
مشاهد 'الثقافة الجاهلية'
بقلم الشيخ ماهر حمود:
هذا عنوان لكتاب شهير، يعتبر من الكتب الرئيسة التي اعتمدت عليها الحركات الإسلامية المعاصرة، كتبه الكاتب الإسلامي الشهير محمد قطب شقيق الشهيد سيد قطب وتلميذه، والفكرة الرئيسة فيه أن الجاهلية ليست فترة سابقة من التاريخ، بل لا تزال موجودة في القرن العشرين حيث يحتكم الناس وتحتكم المجتمعات الحديثة لأفكار من استنباط البشر ويهملون شرع الله الحنيف ويقومون الناس على أسس ليست شرعية تشبه عصبية الجاهلية التي بعث محمد صلى الله عليه وسلم لإزالتها واستبدالها بالأحكام والموازين الشرعية وعلى رأسها أن يصبح الناس امة واحدة يتقاربون ويتعارفون ويتفاضلون بالتقوى والعمل الصالح :
'يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير' (الحجرات13).
ولطالما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات قاسية لمن يعيّر أحدا بلونه أو بانتمائه أو بقومه. فيقول مثلا انك امرؤ فيك جاهلية...
ونرى في كل يوم وفي كل صقع بقايا من بقايا الجاهلية تعظم أحيانا وتتضاءل أحيانا، تكون عارمة مسيطرة جامحة مرات، وتكون جزئية جانبية مرات أخرى...
لقد رأينا في ساحات 'الإسلام' المعاصر يوم 25 كانون الثاني الجاري في طرابلس، وبعض المناطق مشاهد تنتمي من دون أدنى شك للثقافة الجاهلية المتناقضة مع ثقافة الإسلام وفكره، وليس المقصود بذلك طبعا فقط الفوضى والاعتداء على الكرامات وإحراق سيارات وسائل الإعلام وقطع الطرقات وما إلى ذلك، بل هذه ابسط الأمور التي ننتقدها الآن... إنما الأهم الأفكار التي خلف هذه التحركات وأهمها الشعار الجاهلي المشهور: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، الذي صححه رسول الله صلى الله عليه وسلم... قالوا يا رسول الله ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما، قال تمنعه عن الظلم.
فعندما يدافع الناس عن زعيمهم المفترض ويعتبرونه مظلوما دون أن يحاسبه احد على الفترة السابقة التي كان حاكما فيها، نريد هذا الرئيس لأنه يمثلنا كما يزعمون، دون محاسبة ودون مراجعة، فقط تمسك بالباطل ولأجل إثبات الهوية التي نغرق في تزويرها...
هذه جاهلية أو جزء منها، نتمسك بالزعيم لأنه زعيم وليس كما جاء به الإسلام عندما سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخاطب الناس: اسمعوا وأطيعوا، فقال له إعرابي لا نسمع ولا نطيع حتى تخبرنا من أين حصلت على قطعة القماش التي تلبسها وهي من أموال الفيء وأنت رجل طويل، وقد حصل كل منا على قطعة قماش صغيرة، فكيف حصلت على قطعتين، كيف ميّزت نفسك، فلم يضربه عمر ولم يعتقله ولم يعنفه بل نادى: هل في الناس عبد الله بن عمر، فقام ابن عبد الله وقال للناس، أنا أعطيته قطعتي، فقال الإعرابي: الآن نسمع ونطيع. هذه ثقافة الإسلام في مقابل ثقافة الجاهلية... حاسبوه قبل أن تطالبوا بعودته...
ثم إن الإسلام جاء ليجعلنا امة واحة، أما تقزيم الإسلام على مستوى طائفة ولمصالح آنية ومؤقتة وجزئية لا تمت لمصالح الأمة بشيء، فهذه صفة جاهلية أيضا.
ومن دون أدنى شك، إن التعامل مع فكرة الطائفة في لبنان هي أشبه بالعشيرة بحيث ينتمي إلى الطائفة من يحمل هويتها وليس من يفقه فقهها ويفكر تفكيرها... الخ.
وعلى هذا الأساس، فتفضيل مصلحة العشيرة والطائفة على مصلحة الأمة، نوع من الجاهلية، وليس من شك أن المقاومة تخدم الأمة بما لا يقارن مع أي زعيم أو حزب أو تيار آخر.
هذه لا يعني أن المظاهر الجاهلية ليست موجودة إلا في ساحتنا وفي طائفتنا. ولكن نبدأ بإصلاح أنفسنا قبل إصلاح الآخرين، فضلا عن أننا مكلفون بالتنبيه على الأخطر فالأخطر.
كما أن الذي يجعلنا نغضب غضبة لله وليست للنفس، أن نرى بعض الذين يلبسون العمائم وبعض الذين يحملون ألقابا إسلامية منغمسين في هذه اللوثة الجاهلية اكثر من غيرهم، ممن لا يعرفون كثيرا عن الشرع الحنيف وعن موازينه ومقاييسه، خاصة تلك المهمة 'العظيمة' التي كلف بها ما يسمى مجلس المفتين بأن يطالبوا الرئيس المكلف بالتنحي حرصا على مصالح الطائفة كما يزعمون، والتي بالتأكيد لا يعرفون عنها شيئا.
وفي نفس السياق يزيدنا غضبا استحضار أسماء عظمائنا في التاريخ : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، في معرض التحريض المذهبي الجاهلي، والله لو كان احد من هؤلاء موجودا ساعة اذن لقطع رأس الفتنة ورأس موقظيها.
- 'النهار'
مصارحة لـ 14 آذار: لا أستطيع أن أقبل شعار 'بالروح... بالدم...'
بقلم منى فياض(استاذة جامعية):
في الحقيقة بقدر الشعور بالاعتزاز الذي يجتاح كل عربي وكل لبناني أمام أخبار ما حصل في تونس وما يحصل الآن في مصر، لا يمكن كل لبناني شارك في انتفاضة الارز التي كانت أول انتفاضة سلمية ومدنية لم تتوسل العنف بأي شكل من أشكاله، سوى الشعور بالأسف الشديد.كان يجدر بثورتنا أن تكون قد ساهمت على الأقل بتغيير جزئي لواقع الحال الذي نعاني منه، وبدلاً عن ذلك ماذا نجد؟ما هو حصاد هذه السنوات الأخيرة؟ سوى التقهقر في مطالبنا وعلى جميع الصعد، والتقهقر في علاقتنا بطوائفنا ومذاهبنا وعصبياتنا الى درجات من الانحطاط غير مسبوقة في تاريخنا اللبناني المشهود له بالطوائفية وتجاور الأديان.لن أدخل في تفاصيل ما جرى، يكتب يومياً الكثير حول هذه المسألة ومن إخوة عرب صاروا يقدمون مساهمات تقدم تحليلاً وفهماً عميقين للواقع اللبناني الذي يأسفون لترديه بهذا الشكل.الأخطاء ارتكبت من الجميع، ولا أحد يمكن تنزيهه عنها. وبدل البكاء على ما حصل لنغتنمها فرصة للعمل نحو مستقبل افضل ولنستوحِ مما يحصل حولنا في بلدان كنا نعتقد أننا ننعم بحريات تتعدى ما يمكن أن يحلموا به يوماً؛ بل كنا حلمهم ومثالهم.وعليه، وانطلاقاً من مشاركتي في التحرك الذي دعت إليه أمانة 14 آذار، اسمحوا لي أن أمارس النقد، القاسي، لا بأس إذا ما نعته البعض بذلك.لم أكن راضية عن نفسي في المشاركة بهذا التحرك على ما هو عليه. سمعت هتافات لا أرضى عن نفسي أن امشي تحت لوائها، من مثل: الله، وفلان والبقية المعروفة... أو بالروح بالدم نفديك يا... لا أستسيغ المشاركة تحت راية هذا الهتاف لكائن من كان ومهما كان الاسم الذي يجري ذكره. لا اعتراض لي على الحركة المطلبية ويوم الغضب؛ ولكن في المساء كنا حركة مدنية مواطنية وليس جماهير طائفية غاضبة، ولو من حقها ذلك. وهنا ينبغي التشديد على أني اكن كل التقدير والاحترام للرئيس الحريري ولممارسته كرجل دولة بمعنى الكلمة؛ اعتراضي هو على الذهاب بعيداً في تكريس ترشيح رؤسائنا – كما حصل مع الرئيس بري- من قبل الطائفة او جماهيرها أو الممسكين بمقاديرها. فالاعتراض هو على تدخل زعماء ورجال دين أو قادة في طوائفهم كمقررين لانتخاب او إقالة مسؤولينا في الدولة والحكومة ومن لا يتم تسميتهم إلا بواسطة ممثلينا المنتخبين الشرعيين وليس من أي طريق آخر. ولتكن مبادرة حسن نية من ممثلي طائفة رئيس الحكومة وجماهيره ومنه شخصياً لعدم السقوط في فخ الغرق في المزيد من المذهبة لنظامنا الديموقراطي. والقبول بالخضوع لتطبيق الدستور ولو انه حصل في هذه المرة شكلياً فقط وتحت التهديد. وأظن أن الأمر كذلك لغياب القوى الديموقراطية الضاغطة.آن لنا أن نطور خطابنا، وأن نقدم هتافات وخطة عمل تليق بما نطمح إليه. انظروا الى مطالب ثورة تونس وما يكتب على جدرانها!!إذا أردنا حقاً قيام حركة مدنية مطلبية تمارس الضغط على السلطة/ السلطات القائمة، ومهما كانت صبغتها أو لونها أو مرجعيتها، سواء ولاية فقيه أو عدالة ومحاسبة وشفافية وبلداً حراً وسيداً ومستقلاً... علينا أن نقدم شعارات مقبولة ونناضل من اجلها.كائناً من كان، يصل إلى السلطة وإلى رئاسة الحكومة، ننزل الى الساحات بأعداد غفيرة إذا كنا نستحق هذا الوطن ونطالب جميع أركان السلطة بما فحواه:
- التعهد باحترام الشرعة الدولية وقراراتها.
- التعهد بإنجاز قانون انتخابي يلحظ التمثيل النسبي أو تبني المشروع الذي قدمته الهيئة برئاسة فؤاد بطرس بأسرع وقت.
- التعهد بالحفاظ على الحريات الديموقراطية وعدم المساس بحرية التعبير او أي من الحريات الأساسية المنصوص عليها في شرعة حقوق الانسان.
- ونفهم الحفاظ على الحريات العامة احترام الصحف قوانين الحرية الشخصية والامتناع عن تقديم الأكاذيب كمعلومات والمحاسبة على ما ترتكبه من مخالفات لحرية الرأي المسؤولة.
- ان تتعهد بالعمل على إقرار قانون للزواج المدني.
- ان تتعهد بإعطاء المرأة جميع الحقوق التي يحصل عليها الرجل بما فيها حق الجنسية وغيرها.
- ان يتعهد ممثلو 'حزب الله' في الحكومة، او من ينوب عنهم من حلفائهم، بأنهم لا يريدون تطبيق أي من المبادئ التي دافعوا عنها علنياً أو ضمنياً قبل التحرير: العمل على جعل لبنان دولة إسلامية خاضعة للأحكام الشرعية وأنهم سيخضعون لنتائج الانتخابات التي أقترح أن يجري الاعداد لها بأسرع ما يمكن وتحت إشراف دولي وضمن شروط النزاهة والشفافية.
- ان يتعهد 'حزب الله' الامتناع عن ترهيب السكان عبر أي مظهر من مظاهر العنف، سواء الناعم منها (قمصان يوم الثلاثاء السود) أو الخشن والمعلن، وأن يخضع للقوانين اللبنانية مثل جميع المواطنين والقوى السياسية الأخرى.
- أن تتعامل مع جميع الدول الخارجية، سواء صديقة أم شقيقة، على قدم المساواة وعبر الطرق الديبلوماسية المعترف بها.
- ان تتعهد الحياد والشفافية المطلقة وعدم انتظار فضائح ويكيليكس او قناة 'الجزيرة' لتفضح لنا المخفي عنا.
ربما مثل هذه المطالب، واذا كانت تعبر فعلاً عن الشريحة التي أعتقد أنها غير قليلة، ومن جميع الطوائف بمن فيهم الأقليات في طوائفهم الذين لا يخافون من الاجماعات المذهبية من أي طائفة كانت، وإذا ما مارسنا الضغط الذي سبق وكنا من طليعييه فلن نخجل من انفسنا أمام الأجيال الطالعة، التي عاينا ونعاين حتى في البلدان العربية الأكثر رجعية، انها ربما تسكت طويلاً لكنها تعرف أن تثور وتعرف كيف تقدم مطالبها التي أقل ما يقال عنها أنها أكثر تقدماً ومواطنية من مطالبنا التي تجرنا صراعات الطوائف والمذاهب الى تبنيها 'غصباً عنا' بذريعة أنها ليست اللحظة المناسبة لتقديم ما نريد حقاً.علينا احترام عقولنا وعقول الآخرين، خاصة الجيل الشاب...
- منبر 'النهار'
بعد هيمنة إيران على الحكم في العراق هل تُحكم بيروت من طهران؟
بقلم الشيخ خلدون عريمط:
منذ سقوط بغداد الرشيد امام الغزو الصهيوني/ اميركي بحجة نشر الحرية والديموقراطية في بلاد الرافدين، والقضاء على الديكتاتورية ومنع العراق من امتلاك اسلحة الدمار الشامل، بدأ النفوذ الايراني تمدده المنظم والمدروس داخل الوطن العربي، متسترا بدعم القضية الفلسطينية، ومستغلا عواطف الجماهير واحلامها بتحرير القدس وكل فلسطين وازالة الكيان الصهيوني، ومن الملاحظ ان هناك توافقا في كثير، من الوجوه بين الاحتلال الاميركي والتمدد الايراني في العديد من الاقطار العربية، رغم التباين احيانا بين هذا الاحتلال وذاك التمدد، في اكثر من ملف متحرك على الساحة العربية، وفي الحقيقة ان هذا التباين، هو تباين مصالح ومحاصصة لخيرات هذا الوطن، والتحكم في خياراته السياسية، بعد استغلال بعض شرائح المجتمع العربي، التي انجذبت نحو شعارات الثورة الايرانية، ونظرية بدعة ولاية الفقيه، المرفوضة من المراجع الاسلامية بصورة عامة، ومن العديد من ائمة مذهب الامام جعفر الصادق رضي الله عنه.وبمراجعة بسيطة ومتأنية للمراحل التي اعقبت الدخول الاميركي الى العراق، يلاحظ ان الاحتلال الاميركي، استبدل التسلط السياسي لنهج حكم مركزي، اصاب وأخطأ في ممارساته، بحكم مذهبي طائفي عرقي، يحمل في طياته عوامل تفجيره في كل حين، وها هو الاحتلال ينكفئ تدريجيا، ممهدا الطريق لتمدد النفوذ الايراني، سياسيا وعسكريا وميليشيويا، حتى بدت بغداد الرشيد امتدادا طبيعيا، ومجالا حيويا لتمدد ثقافة ولاية الفقيه من طهران، ودورها في اختيار اركان الحكم في العراق، ومن اجل ذلك، فان التوافق الاميركي/ الايراني، انتج حكومة رِأسها في طهران وبعض اطرافها عند العم سام في اشنطن، ومخاض هذه العملية الجراحية حصد عشرات الالوف من الضحايا والجراحات والآلام النازفة ولا زالت.ويأتي في سياق هذا الانكفاء وذاك التمدد، ما حصل ويحصل في لبنان وخاصة بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، وبروز النفوذ الايراني، ودوره الفاعل في تفريخ مجموعات واحزاب وشخصيات سياسية ودينية ودعمها ماديا وعسكريا للامساك بملفات الطوائف اللبنانية، لانتاج الحكم والحكومات من خلال امتلاك 'حزب الله' لفائض قوة تجاوزت بكثير قوة مؤسسات لبنان العسكرية والامنية، والحجة جاهزة ومطلوبة من الجمهور، الا وهي التصدي للعدو الاسرائيلي، ودعم فلسطين وتحرير مقدساتها، لكنها اخفت وتخفي في طيّاتها نفوذاً ايرانيا وتمددا ثقافيا وفكريا تحت شعار حماية المقاومة وظهرها واطرافها، ومجالها الحيوي وحتى هوائها وبحرها، وشمالها وجنوبها، ومن هنا كانت دعوة الرئيس الايراني احمدي نجاد في زيارته الاخيرة الى لبنان، لاقامة جبهة من الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية متحالفة مع نظام الثورة في طهران، واستكملت هذه الدعوة بتأكيد السيد حسن نصرالله في اكثر من مناسبة، بأنه يعتز ويفتخر بكونه جنديا في ولاية الفقيه، وعندما يستطيع جندي ولاية الفقيه في لبنان، ان يستدعي رؤساء الحكومات والوزراء والنواب، ويسقط حكومة الوحدة الوطنية برئاسة زعيم الاكثرية النيابية والشعبية سعد الحريري، ويختار مرشحي رئاسة الحكومة، ويضع الفيتو على الرئيس سعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة، كما فعل اخيرا بمصادرته للصفة التمثيلية والنيابية والشعبية، والزام حلفاء والعديد من نواب الشعب بالرئيس نجيب ميقاتي، الذي اختاره في ليلة من ليالي استدعاء مرشحي رئاسة الحكومة، والزمه دفتر شروطه غير القابل للتعديل او النقاش، ليكون رئيسا لحكومة لبنان، فهذا يعني بكل بساطة ان فائض القوة لدى 'حزب الله'، والتزام الحزب ولاية الفقيه، هي التي اكدت مقولة المراقبين والمتابعين بأن سيدة العواصم العربية بيروت، تحكم من طهران، بعدما كانت مرآة صادقة لكل طموحات العرب وآمالهم، والامم من المحيط المستريح، الى الخليج المصادرة عروبته، في زمن التيه العربي، في صحراء الخلافات والنزاعات بين الحكام والشعوب في هذا الشرق العربي المكلوم.
- 'السفير'
عندما تقرر المحكمة الدولية مصادرة حقوق تاريخية للصحافة اللبنانية
حكمت عبيد:
مرحلة جديدة ستفتح خلالها نقابة الصحافة اللبنانية أبوابها مراراً للتضامن مع صحافيين وإعلاميين ومؤسسات صحافية وإعلامية في ضوء ما يُنبئ به مسار عمل المحكمة الخاصة بلبنان، ومحاولة الإطباق المحكم على حرية الرأي والنقد والتي عكسها مضمون قرار قاضي الإجراءات التمهيدية دانيال فرانسين رقم 11-01/I تاريخ 19 من الشهر الجاري. وفيه يرى أن &laqascii117o;أي إعلان غير مصرّح له بخصوص القرار الاتهامي والكشف عن مضمونه وعن هوية الشهود يمكن أن يشكل تدخلاً في مسار العدالة"، ما يعني مقاضاة المعلن وفقاً للمادة 60 من قواعد الإجراءات والإثبات. قرار فرانسين الذي جاء بناء لطلب المدعي العام لدى المحكمة دانيال بلمار وفقاً للمادة 74 (عدم الإعلان عن قرار الاتهام) حيث جاء في الفقرة (ألف) &laqascii117o;في ظروف استثنائية، وبناء على طلب المدعي العام أو الدفاع، يجوز لقاضي الإجراءات التمهيدية، وفقاً لما تقتضيه مصلحة العدالة، أن يأمر بعدم إعلان قرار الاتهام للعموم أو أية مستندات أو معلومات مرتبطة به إلى أن يصدر أمر آخر بذلك". وفي الفقرة (باء) يسمح بلمار لنفسه &laqascii117o;بالإعلان عن قرار الاتهام أو عن جزء منه لسلطات دولة معنية إذا رأى في ذلك ضرورة لغرض التحقيق أو الملاحقة". ويتضح من خلال هاتين الفقرتين حجم الاستنسابية في التعامل مع مسألة نشر القرار الاتهامي، فضلاً عن الغموض بشأن حق بلمار، فهل للأخير أن يستعمل هذا الحق قبل إبرام القرار الاتهامي من قبل القاضي فرانسين أم بعده؟ وما يبدو جلياً أن بلمار قد استبق قراءة فرانسين لمطالعة بلمار الاتهامية، وبدء مدة عملية التسريب المعتمدة لأغراض تتصل بالتحقيق ربما، وبالسياسة حتماً. لقد شهدنا في الآونة الأخيرة سيلاً من التسريبات الإعلامية التي تناولت مضمون القرار الاتهامي، ولم يحرك هذا الأمر ساكناً لدى قضاة المحكمة، فلا المدعي العام أظهر اهتماماً ولا قاضي الإجراءات التمهيدية طلب التحقيق، ولم يصدر بيان رسمي عن رئاسة المحكمة تظهر فيه شيئاً من الشفافية حيال هذه التسريبات التي تسببت في تسميم المناخ اللبناني وزيادة الفرقة بين اللبنانيين. إن الغربة الكاملة التي يعيشها القضاء اللبناني حيال ملفات المحكمة، تدعو للريبة، فلا سلطة لوزير العدل في التعامل مع هذه الملفات. والنيابة العامة تحولت إلى &laqascii117o;فرع للمعلومات" لدى بلمار، وعلى الدولة اللبنانية العمل لتنفيذ قرارات المحكمة فقط، تحت طائلة إلزامها بذلك بموجب قرار يصدر عن مجلس الأمن!
وبمجرد صدور قرار فرانسين بات كل من يجتهد في مضمون القرار الاتهامي معرضا للملاحقة، فبحسب الناطق باسم المحكمة كريسبن ثورلد، فإنه &laqascii117o;يجوز للقضاة أن يدينوا بجرم التحقير كل من يكشف عن قصد معلومات تتسم بالسرية بموجب قرار صادر عن أحد قضاة المحكمة".
وقد سألت &laqascii117o;السفير" ثورلد عن الفقرة (3) من المادة (60) مكرر والتي تتحدث عن إدانة &laqascii117o;أي شخص يكشف عن معلومات متصلة بالإجراءات وهو يعلم أن في ذلك انتهاكاً لأمر من قاضي الإجراءات التمهيدية أو من الغرفة"؛ ومن هي الجهة المخولة تحديد نوع المخالفات، فأوضح &laqascii117o;أن هذه المسألة تندرج ضمن السلطة الاستنسابية للقاضي المعني، إذ هو وحده قادر على تقييم وقع الكشف عن المعلومات على الشهود، والمتضررين وسائر الأطراف المعنية".
وعن المواقف التي برزت بعد تسلّم فرانسين لمطالعة بلمار الاتهامية، عن لسان شهود محتملين وتضمنت اتهامات مباشرة وغير مباشرة لسوريا، والموقف حيالها، أفاد ثورلد: &laqascii117o;أن قاضي الإجراءات التمهيدية لا يدلي بأي تصريح حول المستجدات خارج قاعة المحكمة".
لقد وضع فرانسين لبنان تحت سلطة رقابية تجاوزت في قوتها أحكام الدستور اللبناني والأعراف المعمول بها، وبدأ الرأي العام اللبناني يتلمس خطيئة حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي استدرجت تدخلاً دولياً في لبنان حيث أقام هذا التدخل دولة اسمها المحكمة الخاصة فوق الدولة اللبنانية ولعل المادة (60) مكرر (تحقير المحكمة وعرقلة سير العدالة) المضافة في آخر تعديلات على قواعد الإجراءات والإثبات تظهر مدى &laqascii117o;السلطة الاستنسابية لدى المحكمة" في التعرض للإعلام وللعاملين في الحقل العام. فالمادة تنص بوضوح على أنه &laqascii117o;يجوز للمحكمة عند ممارستها المهام المنوطة بها، أن تدين بجرم التحقير كل من يعرقل عن علم أو قصد، سير العدالة، عقب تأكيد اختصاص المحكمة وفقاً للنظام الأساسي ولا سيما:
(1) أي شخص يتم استجوابه من قبل أحد الفريقين أو نيابة عنه في ظروف لا تنص عليها المادة 152 يدلي عن وعي وإرادة بإفادة يعلم أنها كاذبة ويعلم أنها قد تستعمل كدليل في إجراءات أمام المحكمة، شرط أن يُرفق بالإفادة إقرار صريح يقدمه الشخص المستجوب بأنه يدرك النتائج الجرمية المحتملة للإدلاء بشهادة كاذبة.
(2) أي شاهد مدعو أمام الغرفة يرفض أو يتخلف عن الإجابة عن سؤال بدون أي عذر مقبول، بما في ذلك الحالة الموصوفة في المادة 150، الفقرة (واو)؛
(3) أي شخص يكشف عن معلومات متصلة بالإجراءات وهو يعلم أن في ذلك انتهاكاً لأمر من قاضي الإجراءات التمهيدية أو من الغرفة؛
(4) أي شخص يتخلف، بدون أي عذر مقبول، عن الاستجابة لأمر بالمثول أو بإبراز مستندات أمام قاضي الإجراءات التمهيدية أو الغرفة؛
(5) أي شخص يهدد شاهداً محتملاً أو شاهداً يدلي بشهادته أو أدلى بها أو سيدلي بها في إجراءات أمام قاضي الإجراءات التمهيدية أو الغرفة أو يخيفه أو يؤذيه أو يعرض عليه رشوة أو يضغط عليه بأي شكل من الأشكال؛
(6) أي شخص يهدد شخصاً آخر أو يخيفه أو يعرض عليه رشوة أو يحاول بأي شكل من الأشكال الضغط عليه لمنعه من الوفاء بموجب مصدره أمر صادر عن قاضي الإجراءات التمهيدية أو إحدى الغرفتين؛
(7) أو أي شخص يهدد قاضياً أو أي موظف في المحكمة أو يخيفه أو يشهّر به علنياً عبر تصريحات كاذبة يتنافى نشرها وحرية التعبير المنصوص عليها في المعايير الدولية لحقوق الإنسان، أو يعرض عليه رشوة أو يحاول بأي شكل من الأشكال الضغط عليه.
إن العمل بمضمون المادة (60) مكرر سيعرض الكثير من أصحاب الرأي والإعلاميين والسياسيين في لبنان للمساءلة أمام غرف المحكمة، لا سيما عند التمعن في الفقرات 3 و4 و5 و7.
في الآونة الأخيرة ثبت أن بعض النافذين قد رشوا &laqascii117o;شاهدا محتملا" كالمدعو محمد زهير الصديق، فهل يعني ذلك أن المحكمة ستخضع هؤلاء للمساءلة؟ وثبت أيضاً أن المحكمة قد تستدعي &laqascii117o;مسؤولين لبنانيين بحجة طلب إبراز مستندات معينة"، فهل يعني تمنع هؤلاء عن الاستجابة لطلب المحكمة إخضاعهم للمحاكمة.
أما الصحافة والإعلام، فبحسب هذه المادة ستصبح صحافة للنقل لا للنقد، وإلا فإن عليها الاستعداد للدفاع عن حقوق منحها إياها الدستور اللبناني، وها هي المحكمة تحاول مصادرتها!.