قضايا وآراء » قضايا وآراء من الصحف اللبنانية الصادرة الجمعة 25/3/2011

- 'الأخبار'
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: الحالة البحرينية: المواطنة لا المذهبية

على خلفية قضايا سياسية واجتماعية متفاقمة وتقاليد مديدة للمعارضة البحرينية، دفعت ثورتا مصر وتونس الشباب في هذا البلد إلى محاكاة النموذج الاحتجاجي العربي الجديد. وطالبت الشعارات التي رُفعت في هذه الاحتجاجات (14 فبراير/ شباط) بإصلاح وطني دستوري نصّ عليه ميثاق العمل الوطني 2001، بالإضافة إلى مطالبة برفع القبضة الأمنيّة عن الحريات في البلد. وكما كانت عليه الحال في مصر، لا ينتمي هؤلاء الشباب بالأساس إلى أيّ تيار سياسي، وجرى التواصل بينهم من طريق الإنترنت، وهم من الشيعة والسّنّة على السّواء. وقد عبّروا عن رغبة في تأليف هيئة قيادية تمثّل المواطنين من سنّة وشيعة، لكن الخوف من تطور محاصصة طائفية كما في لبنان أو العراق، جعل الشباب يحجمون عن هذا الأمر، ويتركونها للانتخابات لتحدّد قيادتها. وكان هناك حضور لافت للمرأة.
وقد فرضت حركات المعارضة الشيعية نفسها، في النهاية، كقوى سياسية وازنة ومنظمة على حراك شعبي ديموقراطي. فقد انضمّت القوى المعارضة للاحتجاجات منذ بداية الاعتصامات. وهي ما يعرف بالجمعيات السبع (الوفاق، وعد، المنبر التقدمي، العمل الإسلامي &laqascii117o;أمل"، التجمع القومي، التجمع الوطني، الإخاء). ومع تصاعد الأحداث أصبح المشهد الاحتجاجي التنظيمي مشغولاً بكتلتين رئيسيتين:
الأولى جمعية (الوفاق الوطني الإسلامية)، وهي التكتل الذي يمثل أكبر تجمع سياسي في البحرين، ولديه حضوره الشعبي القوي. فقد حاز نواب الوفاق 17 مقعداً من أصل 40 في البرلمان البحريني في انتخابات 2006. ويقود الجمعية الشيخ علي سلمان بجانب المرجع الديني علي قاسم. وتتماثل مطالب الوفاق المعروفة مع مطالب شباب &laqascii117o;14 فبراير" والمتمثلة في إصدار دستور جديد يجعل البحرين مملكة دستورية، وأن يكون رئيس الحكومة مسؤولاً أمام البرلمان، لا أمام الملك، وأن يكون الساسة المنتخبون هم صانعي القرار في البلد. ويتحالف مع الوفاق في هذا، &laqascii117o;التجمع القومي الديموقراطي"، و&laqascii117o;أمل"، والأحزاب اليسارية مثل &laqascii117o;وعد" و&laqascii117o;المنبر التقدمي الديموقراطي". وهي كتل تضم أعضاءً مختلفين من ليبراليين وشيعة وسنّة، رجالاً ونساءً، وكلّهم شاركوا تحت راية الوفاق في الحراك الشبابي الأخير.
والتكتل الآخر هو &laqascii117o;التحالف من أجل الجمهورية"، الذي نشأ في السابع من آذار/ مارس 2011 على خلفية الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها مملكة البحرين. وكما يتبين من اسمه، يطالب التحالف بإسقاط الملَكية وحكم آل خليفة وإقامة جمهورية في البحرين. ويضم التحالف ثلاث حركات شيعية معارضة للنظام الحاكم: تيار الوفاء الإسلامي، وحركة حق، وحركة أحرار البحرين.
لم تطالب حركة أحرار البحرين في الماضي بإسقاط حكم العائلة الملكية كما تفعل اليوم، إذ كانت مطالبها تتمحور حول الديموقراطية وتحرير المعتقلين. ولم يقتصر رفع سقف المطالب على مستوى هذه الحركة السياسية فقط، بل في أوساط الحركة الشبابية أيضاً. فبعد الأحداث الدموية ليوم الخميس 17 فبراير/ شباط، وسقوط ضحايا من هؤلاء الشباب تحوّلت الشعارات للمطالبة بإسقاط النظام والعائلة الحاكمة. وقد منع بعض الشباب أحد المعارضين السياسيين من أن يكمل حديثه عن مطلب &laqascii117o;الملكية الدستورية" في ميدان اللؤلؤة، على اعتبار أنّ الأحداث تجاوزته.
تميّزت حركة الاحتجاج في البحرين عن مثيلاتها في المنطقة العربية بكونها تستدعي إعادة تعريف نظام الحكم والمواطنة من جديد، في بلد ترسخت وتمايزت فيه أنساق عمل سياسي طائفية، عبر فترة طويلة من الزمن. ويجري طرح هذه المهمات الكبرى في أجواء من انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، وبين المواطنين في ما بينهم من جهة أخرى، وذلك في حالة شعبية لا تتمتع بتجانس مماثل للذي كان داعماً لثورتيْ مصر وتونس. ولا يقلل هذا الوصف من أهمية الهوية الوطنية البحرينية، لكن من الواضح أنّه سُيِّست انتماءات أخرى.
فرضت هذه الحالة من الشك المتراكم نفسها عبر أجواء تنامي تأكيد الهويات الفرعية المستندة إلى إعادة تعريف الذات على أساس طائفي متوتر، يؤكد المقابلة بين مكونين رئيسيين للمجتمع البحريني هما السنّة والشيعة. أسهم ذلك في ربط المكون الداخلي بالبعد الإقليمي، في عملية تغذية متبادلة، ليس على مستوى الشعب فقط، بل على مستوى النظام أيضاً. والبعد الإقليمي قوي أصلاً مقارنة بالديناميكية الداخلية في دولة صغيرة مثل البحرين.
كان سلوك الدولة البحرينية بعد الاستقلال عام 1971 معززاً للهوية الطائفية الشيعية على حساب الهوية البحرينية الجامعة، وذلك بسبب التمييز بين المواطنين، في ظل غياب الديموقراطية وأسس المواطنة، وبسبب تحكّم الدولة في مزايا الدولة الريعية التي تحتكر موارد النفط والأرض، ما يمكنها من المنح والحرمان، وما يجعلها عنوان اللوم الأساسي على الأوضاع الاجتماعية وغيرها.
وكان تنامي قوى اليسار والعروبة السمة الرئيسة للعمل المعارض في البحرين، في حقبة ما قبل السبعينيات، داخل الأوساط الشيعية والسنية على حدّ سواء. إلا أنّ فرصها تضاءلت، نتيجة السجن والملاحقة اللذين واجهت الدولة بهما هذه القوى، ونتيجة تداعيات نكسة حزيران/ يونيو 1967. وقد حُلّ المجلس الوطني (البرلمان) في عام 1975. وملأت التنظيمات الإسلامية السنية والشيعية الفراغ الذي خلّفته الحركات اليسارية في ساحة المعارضة، كما جرى في أكثر من بلد عربي، مع أخذ التفاوت الطائفي بالاعتبار في حالة البحرين.
ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979 انقسمت القوى الشيعية السياسية في البحرين إلى تياريْن: تيار يطالب بإصلاحات مع احتفاظه بهويته الوطنية البحرينية وفي إطارها، وتيار ثوري متأثر بالثورة الإيرانية يطالب بإصلاحات جذرية ويرغب في أن تكون البحرين امتداداً لإيران. وقد توحّدت الجماعات الثورية (الشيعية) في البحرين عام 1979 تحت مسمى &laqascii117o;الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين". وظهر التمايز على خلفية تصويت الشيعة للبحرين باعتبارها بلداً عربياً ومستقلاً في الاستفتاء الذي أشرفت عليه &laqascii117o;الأمم المتحدة" عام 1970. وحتى من ناحية الأصول الإثنية، التي تؤدي دوراً في الثقافة السياسية في الخليج، ينحدر شيعة البحرين، بغالبيتهم الساحقة، من أصول عربية. وقد أضعفت هذه الحقيقة فرص تبني الخط الإيراني في الحركة الشعبية البحرينية. فالمكوّن الشيعي في البحرين مكوّن عربي بحريني أصيل، غير مستورد، لا من إيران ولا من غيرها. ونجد كذلك أنّ الكثير من أبرز رموز الحركة اليسارية والعروبية، في الخليج عموماً، كانوا من شيعة البحرين.
وقد غُذّي النفوذ السياسي للمعارضة الشيعية في البحرين عبر السنوات، نتيجة سياسات التمييز التي مارستها السلطة الحاكمة بحق المواطنين من أصول شيعية، ونتيجة لغياب مفهوم موحّد ومتساو ٍللمواطنة. فمن بين الوظائف العليا في البلاد، لا يشغل الشيعة، الذين يمثّلون معظم السكان (60-70%)، سوى 17% من هذه الوظائف. وما يزيد من السخط الاجتماعي المتحول بسهولة إلى نقمة طائفية، أنّ نسبة البطالة في البحرين التي حققت نجاحات اقتصادية وعلى مستوى الحريات تبلغ 19%، وهي نسبة مرتفعة ويعاني منها شباب شيعة وسنة، على السّواء.
دفع هذا التمييز، مقترناً بملاحظات على مستوى حقوق الإنسان، إلى زيادة الاحتقان، وهو ما حدا الحكومة إلى محاولة تبني بعض الإصلاحات. وقد أُقرّ ميثاق العمل الوطني الصادر في 15 شباط/ فبراير 2001 الذي تضمّن مبادئ عامة للإصلاح السياسي والتحوّل الديموقراطي، وحدد نظام الحكم بـ&laqascii117o;وراثي دستوري"، وأنّ الشعب مصدر السلطات الثلاث. وحصلت هذه المبادئ على تأييد 98.4% بنسبة مشاركة وصلت إلى 90.3% من البحرينيين. وكان إعلان إجراء انتخابات برلمانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2002 من أهم ثمرات هذا الميثاق، لكن الدستور الصادر بموجبه جاء مخالفاً للمبادئ التي تضمنها، فقد منح صلاحيات مطلقة للملك.
وتتكثّف موضوعات الاحتجاج لدى المعارضة في البحرين في مسألة التّجنيس، التي ترمز بحدّة إلى وجود نوعين من المواطنين. وقد جنّست الحكومة البحرينية نحو 100 ألف مهاجر مسلم سني، بعضهم من أصول عربية ومعظمهم من العمالة الباكستانية، وتقرر قبولهم حتى في خدمة الأمن الوطني، ما زاد من الاحتقان الطائفي. وترى مصادر بحرينية في الخارج أنّ من حصلوا على الجنسية البحرينية، في العقد الأخير، ينتمون إلى 24 بلداً، لكنّهم جميعاً من المسلمين السنة.
بالنسبة إلى العلاقات الإقليمية، تتجاوز الاستثمارات السعودية في البحرين 700 مليون دينار، أمّا نسبةُ الاستثمارات المملوكة من الشركات السعودية المسجّلة في البحرين فقد بلغت أكثر من مليار دينار بحريني. فيما بلغ عدد الشركات الفاعلة التي فيها استثمار سعودي نحو 315 شركة، بينما بلغ عدد الشركات السعودية العاملة والمسجّلة في البحرين 43 شركة. وقد قرّر وزراء خارجية التعاون في اجتماعهم المنعقد في الرياض بتاريخ 10 مارس/ آذار 2011 تقديم 10 مليارات دولار دعماً مالياً للبحرين على مدى 10 سنوات. وفي الاجتماع الطارئ (الدورة الاستثنائية الثلاثون)، الذي عُقد في المنامة بتاريخ 14 مارس/ آذار 2011، تقرّر تقديم الدعم الأمني للبحرين ورفض أيّ تدخل خارجي.
ترتهن الحكومة البحرينية للحماية الأميركية باستضافة مقر قيادة الأسطول الخامس، الذي يترتب عليه توفير الحماية من الخطر الخارجي أو الداخلي على النظام الملكي، وهو سياق يثير سخط الإسلاميين، سواء من الشيعة أو السنة.
والخطر الذي تمثّله أزمة الهوية والانتماء في البحرين، وغياب الإصلاحات الديموقراطية وعدم وجود نية لتحقيق الإصلاحات، جعلا النظام البحريني يمضي أبعد من الرهان على القوة العسكرية الأميركية، من حيث تعميق العلاقات الاقتصادية عبر توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة عام 2005، رغم اعتراض السعودية على انفراد البحرين بالاتفاق من دون الدخول مع مجلس التعاون باعتباره طرفاً تفاوضياً مشتركاً مع واشنطن.
واتخذت البحرين كذلك خطوات أبعد في ضمان الحماية الأميركية، عبْر تشجيع سياسة التطبيع مع إسرائيل علناً ومن دون تحفّظ، ومن ذلك ما قام به وليّ لعهد البحريني الأمير سلمان بن عيسى من مبادرات عبر مقال نشره في صحيفة &laqascii117o;واشنطن بوست" في 17/7/ 2009 داعماً التطبيع مع إسرائيل. وسبق ذلك لقاءات تطبيعية في مؤتمرات دافوس، بل ودعوة اللاجئين الفلسطينيين إلى العودة إلى الضفة وغزة، لا إلى أراضي 1948، فضلاً عن منح الأقلية اليهودية في البحرين، التي لا تتجاوز 37 فرداً، حقوق التمثيل في مجلس الشورى، وتعيين سفيرة بحرينية يهودية في واشنطن. ولا ضير طبعاً في المواطنة المتساوية لليهود في البحرين، لكن من الواضح أنّ هدف هذه الخطوات كان استرضاءَ الولايات المتحدة وإثارة إعجابها عبر اللوبي الصهيوني فيها. وهذه جميعها عوامل أدّت إلى زيادة الاحتقان في الأوساط الشعبية، ودفعت إلى تبني اتجاهات أكثر تطرفاً ضدّ النظام.
صدرت عن إيران تصريحات عدّة تعدّ البحرين جزءاً منها، مثل تصريح رئيس مجلس الشورى الإيراني السابق أكبر ناطق نوري في بدايات عام 2009، ونُفيت هذه التصريحات لاحقاً وفُسّرت على غير ما أراد المتحدث. وقال المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية في خطبة الجمعة ليوم 11 شباط/ فبراير 2011 إنّ الثورات العربية تستلهم روح الثورة الإيرانية. وهذا طبعاً اجتهاد تحليل يمكن الاتفاق أو الاختلاف معه. لكن ما يهم البحرين أنّه في غياب إمكان تدخّل عسكري إيراني أو حتى أمني بوجود الأسطول الخامس، وباعتبار البحرين جزءاً من الجزيرة العربية، يبدو أنّ المدخل الباقي للنفوذ الإيراني يتمثل في التكتل الجديد &laqascii117o;التحالف من أجل الجمهورية"، الذي أعلن في بيان له أنّه يتضامن مع مطالب الشباب. ومن الواضح بعد التجربة العراقية، كيف يمكن أن يتغلغل النفوذ الإيراني في دولة عربية. وقد أكّدت تصريحات المالكي بخصوص الأوضاع في البحرين، وكذلك تظاهرات أتباع مقتدى الصدر، المخاوف من بُعدٍ طائفي شيعي. فلم يُعرف عن المالكي والصدر موقفٌ ديموقراطي، ولا متضامن مع القوى الديموقراطية الأخرى في المنطقة، بما فيها إيران.
دخلت قوّات &laqascii117o;درع الجزيرة" إلى البحرين بطلب من النظام في المنامة، متذرّعةً باتّفاقية الدفاع المشترك الخليجية الموقَّعة في العاصمة البحرينية في كانون الأول/ ديسمبر 2000. فقد اتّفق قادة دول مجلس التعاون الخليجي الستّ، حينها، على مبدأ الدفاع الجماعي ضدّ أيّ خطر يهدّد أياً منها. وكان إنشاء قوّات درع الجزيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 في الأساس، وسيلة من وسائل تحقيق الدفاع المشترك. ومن منظور عربي، لا يُعَدّ هذا الدخول تدخلاً دولياً، فهذه التعابير يُحتفظ بها عادةً لتدخّل الدول غير العربية. لكن من الواضح أنّه إذا لم تعالج الدولة أسباب الاحتجاج والاستياء، فإنّ التدخل العربي الخليجي لن يكون ممكناً في كلّ أزمة مقبلة ستولّدها الأوضاع وطبيعة النظام.
تبقى الآن مسألة الشارع والاحتجاج الشبابي في البحرين، وما إذا كان تصاعد الأحداث عبر قمع الحكومة وتدخل قوات &laqascii117o;درع الخليج" قد جعله ينتقل مؤقتاً فقط، ونتيجة للغضب، إلى تبني مطالب يتعاضد فيها مع مواقف التحالف من أجل الجمهورية، أو أنّه سيبقى ملتصقاً بمطالبه الإصلاحية التي بدأ الاحتجاج عبرها، والتي كانت تنسجم مع مسار كتلة الوفاق. وقد أعلنت كتلة الوفاق عبر بيان لها الأحد 20 آذار/ مارس أنّها مستعدة للعودة إلى الحوار الذي دعا إليه ولي العهد، شرط الإفراج عن كلّ المعتقلين وأن تنسحب &laqascii117o;القوّات الأجنبية" التي دخلت إلى أرض البحرين. ويبدو أنّ كتلة الوفاق لا تملك خياراً آخر تتعامل عبره مع الدولة.
أيّ إصلاح مقبل في البحرين لا يتطلب من النظام صدقاً فقط، بل يقتضي إدراكاً لجدية المطالب الجماهيرية أيضاً. ولا يمكن نظاماً أن يحكم فترةً طويلة ضدّ إرادة أكثر من نصف الشعب. لكن من الناحية الأخرى، لا بدّ أن تحسم المعارضة أيضاً مسألة المواطنة والمواطنية العربية البحرينية والتوقّف عن الرهان على دولة إقليمية غير عربية. ولأجل هذا، يجب أن تدرك المعارضة أنّ الأغلبية المذهبية الشيعية يجب ألا تعني بالضّرورة أغلبية سياسية إذا كانت المواطنة متجانسة فعلاً. ومن دون المس بحقّ المواطنين في تنظيم أنفسهم، فإنّ الأمانة العلمية تفضي إلى الحكم أنّ السبيل الأفضل للديموقراطية هو التنظيم أو الحراك القائم على المواطنة، لا على الانتماء المذهبي.


- 'النهار'
سمير جعجع عدواً للسلاح : ميشال شيحا كان على حق
إيلي الحاج:
 
في 'عش النسور' حيث يُقيم ويعمل ويستقبِل ضيوفه، يوحي سمير جعجع لزائره خارج بروتوكولات تقيّد الحديث بين سياسي وصحافي، أن تحوّلاً ما قد دخل على نظرة قائد 'القوات' الذي أصبح رئيس هيئتها التنفيذية إلى 'فكرة لبنان' في ذاتها، تحديداً إلى العلاقات بين اللبنانيين بمختلف مكوّناتهم الطائفية وتمايزاتهم. تحوّل بطيء ربما، لكنه ملحوظ وواضح. كنت سألته عن عبرة اكتسبها من التعامل اليومي عن قرب مع المسلمين اللبنانيين خلال سبع سنوات منذ 2005، بعدما كان لهم رمز الخصومة بل العداء مدى أكثر من عقدين. أجاب بأن المسلمين 'مثلنا'. وسأل: 'سياسياً، أي عبارة أو أي كلمة يقولها سعد الحريري ولا توافق عليها؟ 'لبنان أولاً'؟ ( شعار كتائبي قديم). واجتماعياً، العلاقات تقرّب بين الناس. هم 'مثلنا' إن في بيروت أو الشمال، أو... تعرف؟ (نائب البقاع الغربي الدكتور) جمّال الجرّاح أقرب إليّ مِن ... ( نائب كسرواني يتميز بتعابيره المحليّة). بالطبع، على مستوى القواعد عندهم متزمتون دينياً. نحن أيضاً عندنا متزمتون دينياً'. روى هنا أن محجّبات اندفعن إليه خلال احتفال 'البيال' بذكرى 14 شباط، أحطنه وغمرنه بعبارات محبّة وتأييد وفرح بلقائه.قال أيضاً: 'العبرة من تعاملي مع المسلمين؟ كان ميشال شيحا على حق. في مكان ما كان على حق... ولكن قد تسألني ماذا لو برز عبد الناصر آخر بعد خمسين أو مئة سنة؟ جوابي هو: لا أعرف'.في المقابل'، تابع، ' قُل لي أنت، متى لم أدعُ أنا إلى لبنان السيّد الحر المستقلّ؟ ثوابتنا هي ثوابتنا'. لم أقل له 'بلى حكيم. لم تكن ترى حلولاً لأزمات لبنان إلا فيديرالية. كنت مع المطران اغناطيوس مبارك ضد البطريرك الياس الحويك. مع إميل إده ضد بشارة الخوري. مع كميل شمعون ضد فؤاد شهاب. ومع جورج نقاش ('ضدّان لا يصنعان وطناً') ضد ميشال شيحا ورهانه على لبنانية لا تتناقض مع العروبة. قبل الحريري الأب والإبن و 14 شباط وآذار 2005 كنت وفئة واسعة من جيلك في حالة يأس من المسلمين'. خشيت إضاعة اللقاء في ترف بحث فكري يهوى جعجع الإسترسال فيه. لكنّ المسلمين ليسوا السنّة وحدهم. ماذا عن الشيعة، عن مقولة إن الصراع في لبنان والمنطقة بين السنّة والشيعة فلماذا يحشر  المسيحيون أنفسهم فيه؟. لو وضعنا السلاح جانباً وتحوّل 'حزب الله' حزباً سياسياً كغيره لربما أصبحنا حلفاء. من يعلم؟ قد يكون الشيعة هم الأقرب إلينا سوسيولوجياً وتاريخياً. اليوم نختلف على موضوع المقاومة الإسلامية وهي تشبه المقاومة الفلسطينية التي جعلت لبنان شظايا بسبب الخلاف عليها. أما في الخلاف السني الشيعي فنحن لا نتدخل عندما يكون فقهياً أو لأسباب لا دخل لنا بها، مثلاً مَن قتل الإمام الحسين ولماذا والحق على مَن؟ وبالأمس اندلعت ثورة في البحرين، الشيعة في لبنان وقفوا مع الشيعة هناك والسنة مع السنة. في هذا الوضع لا نتدخل، ولكن عندما تُمسّ مصالح اللبنانيين كافة هناك وتتأثر سلباً علاقات لبنان بالبحرين وبقية دول الخليج العربي بسبب مواقف السيد حسن نصرالله، لا يمكننا إلا أن نبحث في طريقة للملمة الأضرار الواقعة على كل لبنان. في النهاية على ماذا يختلف 'تيار المستقبل' و'حزب الله'؟ أليس على النظرة إلى لبنان ودوره ونظامه. أليس على بناء الدولة الذي يعترضه ويمنعه وجود سلاح 'حزب الله'؟ سلاح المقاومة الفلسطينية كان يحظى بتغطية سياسية من طوائف لبنانية وأحزاب في الستينيات والسبعينيات. هل يمكننا أن نغطي سلاح 'حزب الله' سياسياَ كما يفعل الجنرال ميشال عون؟ كنا أرباب السلاح صحيح، ولكن على مستواي الشخصي عندما حملت سلاحاً عام 1976 لم تكن الدولة موجودة. كانت فرطت نهائياً وذابت واختفت. خلصت الحرب واليوم عندنا دولة 'لشو بدو الواحد يحمل سلاح؟ على مين؟'.


- 'النهار'
الدراما في المنامة لم تعد عرضاً هامشياً
حسين إيبيش* - واشنطن:

قبل شهر، عندما بدأت الاضطرابات السياسية جدّياً في البحرين، وصفتُ 'الدراما في المنامة' بأنها 'عرض هامشي' وأصررت على أن التحرّك الفعلي يتخمّر في ليبيا. وكنت محقّاً جزئياً: تشهد ليبيا الآن حرباً أهلية وتحرّكاً عسكرياً دولياً. لكن افتراضي الآخر يصبح مستبعداً أكثر فأكثر. توقّعت أن تتوصّل العائلة المالكة التي تنتمي إلى الأقلّية السنّية في البحرين وتحظى بدعم محلّي ودولي قوي، إلى اتفاق مع الغالبية الشيعية المحرومة من حقوقها في المملكة بهدف إنشاء ملَكيّة دستورية.
ما لم أتوقّعه هو الغياب المفاجئ لضبط النفس لدى كل الأطراف، ولا سيما الحكومة. صحيح أن ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة قال الكثير من الكلام المناسب. لكن يبدو أن رئيس الوزراء المتشدّد خليفة بن سلمان آل خليفة يشرف على سلسلة من الأخطاء الفادحة في التقدير والتي تسبّبت بتفاقم النزاع سريعاً مما قد يؤدّي إلى خروجه عن السيطرة.
والمعارضة أيضاً لم تتمايز في مواقفها، فهي تقاوم عروض الحوار ويبدو أيضاً أنها تبحث عن أي فرصة سانحة للتصعيد. تلوح نقطة اللاعودة في الأفق، مما يُنذر بالسوء لمنطقة الخليج. فالتحرّك الذي بدأ مؤيّداً للديموقراطية وغير مذهبي إلى حد ما، تحوّل مواجهة مذهبية بالوكالة بين السعودية وقوى إقليمية سنّية أخرى من جهة والمجموعات المعارضة الشيعية التي تصطف أكثر فأكثر إلى جانب إيران من جهة أخرى.
يقع اللوم الأكبر على القوات الحكومية في البحرين. فقد أظهرت من خلال استعمالها المفرط وغير المتكافئ للقوّة الفتّاكة حيث وصل بها الأمر حتى إلى استهداف الطواقم الطبية، أنها لا تُقدِّر أبداً العواقب المحتومة لأفعالها. ولا بد أيضاً من انتقاد المجموعة المعارضة الشيعية الأساسية، 'الوفاق'، لأنها رفضت الدخول في حوار مع النظام. وقد طغت عليها 'مجموعة الحق' بقيادة حسن مشيمع التي هي أكثر تطرّفاً بكثير ويمكن أن ينتهي بها الأمر بقيادة معركة شيعية مسلّحة. ومع تدخّل قوّات برّية تابعة للسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان، وقوّات بحرية من الكويت، تحلّقت الحكومات التي يقودها السنّة في دول مجلس التعاون الخليجي حول عائلة آل خليفة، مما يُعمِّق أكثر فأكثر الطابع المذهبي للنزاع.
المفارقة هي أنه كان يمكن تفادي النزاع في البحرين. كان من شأن خطوات بسيطة مثل تطبيق إصلاحات دستورية، واستبدال رئيس الوزراء المتشدّد، ووضع حدّ لعدم المساواة ولا سيما في ما يختصّ بتملّك الأراضي، وإجراءات توفيقية أخرى، أن تحول بالتأكيد دون تدهور الأوضاع إلى هذا الحد. بيد أن رد الفعل المفرط من جانب الحكومة بلغ أحجاماً شبه هستيرية، ولا سيما من خلال التدمير الصاعق للنصب في دوّار اللؤلؤة، والذي هو المعلم الأساسي في المنامة ومركز التظاهرات، وإطلاق العنان لعصابات الشوارع المسلّحة، والتوقيف غير المبرَّر للإصلاحي الليبرالي ابرهيم شريف من حزب الوعد (ألقيتُ كلمة في مقرّ الحزب غير المذهبي في المنامة قبل ثلاث سنوات، ومن المنافي للمنطق القول بأنهم راديكاليون خطرون).
ولّدت هذه الإجراءات، إلى جانب تدخّل قوات من دول مجلس التعاون الخليجي يُنظَر إليها بأنها قوات مذهبية سنّية وتصفها المعارضة الشيعية بـ'الاحتلال الأجنبي'، بيئة من العداوة المذهبية تنطوي على خطورة استثنائية وتمارس تداعيات إقليمية قويّة. تجيز معاهدة مجلس التعاون الخليجي مثل هذا التدخّل، وعلى الأرجح أن تسهيل التدخّل هو السبب الحقيقي وراء إنشاء الممرّ بين البحرين والسعودية. بيد أن السنّة والشيعة في المنطقة يمارسون الاصطفاف بصورة دراماتيكية، مما يُنذر بتشنّجات أو حتى مواجهات مذهبية محتملة في العديد من البلدان الأخرى.
وثمة بعد دولي أوسع أيضاً. تطالب إيران منذ وقت طويل بضم جزيرة البحرين إليها، ولو كان يُقلَّل الآن من شأن هذا المطلب، ويتمركز الأسطول الخامس الأميركي هناك. وهكذا فإن المصالح الطويلة الأمد للولايات المتحدة، القوّة البارزة في الشرق الأوسط، وعدوّتها المزعومة إيران هي على المحك. إذا استمرّ الوضع في التدهور، فمن السهل أن نتخيّل إيران وسواها يسلِّحون الشيعة الأكثر راديكالية في أوساط البحرينيين، مما يُشعل فتيل حرب أهلية مذهبية ضارية.
ربما لم يفت الأوان لتسير البحرين نحو تطبيق إصلاحات دستورية واقتصادية يمكن أن تحول دون الانحدار إلى نزاع مذهبي مطوَّل، لكن يجب أن تبادر سريعاً إلى القيام بذلك. لسوء الحظ، ليست هناك مؤشّرات توحي بأنّ هذا وشيك. بعد زجّ الشخصيات المعارضة الراديكالية والعقلانية في السجون، وتدمير دوار اللؤلؤة في ما يُجسِّد الوحدة المبعثرة للمملكة، وفيما تفرض قوات مجلس التعاون الخليجي وعصابات الشوارع الغازية 'النظام' بهمجية مثيرة للصدمة، وتفتقر الحكومة إلى استراتيجيا واضحة للابتعاد عن النزاع والسير في اتّجاه ملَكية دستورية، لم تعد الدراما في المنامة عرضاً هامشياً على الإطلاق. فهي قادرة تماماً على أن تتحوّل نقطة تفجّر إقليمية ومذهبية تُبدِّل المعطيات وتتسبّب بأضرار كبيرة.
ترجمة نسرين ناضر      
(* عضو مؤسس وقيادي في فريق العمل الأميركي من أجل فلسطين)  


- 'الأخبار'
درعا مدينة أشباح: رحلة في وقائع ثورة لم تولَد بعد
تحقيق: غسان سعود:

سوريا الجديدة، سوريا القلقة، تقف اليوم أمام الاختبار المنتظر: هل يسير الشعب السوري على خطى التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين والبحرينيين أم لا؟ وفيما لا تزال الحركة الشعبية الواسعة محصورة بمدينة درعا، فإنّ الذهاب إليها، والعودة منها ليس سهلاً.
درعا| فشلت كل المحاولات، من محطة شارل حلو في بيروت، حتى محطة السومرية قرب دمشق، لحثّ السائق على الكلام والإفصاح عن رأيه. الصمت بات شعار سائقنا نفسه الذي يصعب عادةً إسكاته ما دام محرك سيارته يعمل. قبل نقطة المصنع الحدودية، اللافتات تثير الضحك؛ بينما تُشغل الشعوب العربية نفسها بالثورات، يشغل اللبنانيون أنفسهم بسجالاتهم الداخلية السخيفة أحياناً. على الحدود اللبنانية، الأمور طبيعية.
أمّا على البوابة السورية، في جديدة يابوس، فكل شيء مختلف: يسأل العسكري السوري زوار بلاده عن سبب زيارتهم، ويدقّق في مكان إقامتهم، بينما يخضع الأجانب غير اللبنانيين إلى ما يشبه التحقيق التفصيلي في أسباب زيارتهم. ولاحقاً، يصرّ العنصر الأمني على إخراج حتى الثياب من الحقائب، وتفتيش الجيوب. لعلّ العابر يحاول تفادي الكاميرات التي تصادَر هذه الأيام خوفاً من أن تمسّ &laqascii117o;الأمن القومي السوري".
دمشق أقلّ زحمة من العادة. سائق التاكسي، بائع الخطوط الخلوية، صاحب المطعم أو الموظف في الفندق، يكرّرون الكلام نفسه عن بقاء ما يحصل في درعا في درعا. هنا تُحمَّل القوى الأمنية مسؤولية ما حصل. وهناك من يحمّل المسؤولية لبعض أهالي درعا الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء. معظم من يتبرّع بالكلام يحاول إبعاد القيادة السورية عن الواجهة، وهي التي تُختصر بشخص الرئيس بشار الأسد.
قبل التلفُّظ بكلمة &laqascii117o;درعا"، سيكمل سائقو سيارات الأجرة سيرهم. عادةً، لا تتجاوز تكلفة الانتقال من دمشق إلى درعا عشرين دولاراً. أما اليوم، فيطلب أحد السائقين مئتي دولار، ويشترط إنزال راكبه عند أول حاجز للجيش. ثم يقضي ساعة ونصف الساعة، وهي مسافة الرحلة، متحدِّثاً عن خشيته على حياته، وتفضيله الأمن على أي شيء آخر: &laqascii117o;في مصر، كان الناس يموتون جوعاً. أما هنا، فالدولة تدعم الخبز والمازوت والمواد الغذائية الأساسية، وتوفر التعليم والطبابة للجميع". ويتساءل الرجل: &laqascii117o;في أي دولة في العالم تستطيع شراء ثلاثة أرغفة خبز بخمس ليرات سورية؟ هل هناك دولة أخرى تتحمّل على نفقتها الخاصة كل مصاريف علاج الأمراض المستعصية، غير سوريا؟".
تحيط السهول بالطريق من دمشق إلى درعا. خَضار لا يعكّره إلا بعض قطعان الماشية، وتلال مسكونة بالمنازل. هنا مصدر البطاطا والبندورة والعنب السوري. أهل درعا إما مزارعون أو تجار دجاج أو مغتربون في الخليج. لا سيارات على الأوتوستراد باتجاه درعا إلا العسكرية منها، بينما تعجّ الطريق المعاكسة بالشاحنات المحمّلة بالعمال النازحين. وفي المشهد، تنحني الأشجار على جانبي الطريق كأنها تعبد دمشق. وبين شجرة وأخرى، شعارات موقعة باسم &laqascii117o;جماهير محافظة درعا". يعاهد هؤلاء &laqascii117o;الجماهير" الرئيس بافتدائه مرة بالدم، ومرة بالروح، ومرات بالاثنين معاً. أسماء البلدات لافتة: مكة الحطب، وردات، الشيخ مسكين، شيخ سعد وخربة غزالة. الأخيرة، لا التي قبلها، هي بلدة اللواء رستم غزالة، وهي تحاذي مباشرة مدينة درعا.
يصلّي السائق على النبي حين يسمع نصيحة أحد الشبان بعدم الاقتراب من درعا، مؤكداً قراءته في أحد الكتب أن الرسول سمّى هذه المنطقة حوران لأنها سبب حيرته. تكاد تكون مدينة درعا، التي لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألفاً، وبحكم مجاورتها لريف محافظة درعا، أقرب إلى البلدة الكبيرة منها إلى المدينة. تجاور جبل الدروز من جهة، والجولان من جهة أخرى، والأردن طبعاً. ووفق المتداول في سوريا، فإنّ أبرز المسؤولين في النظام السوري، المنتمين إلى الطائفة السنية، يأتون من درعا، من رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، إلى نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، والأمين العام المساعد في حزب البعث سليمان القداح، وصولاً إلى نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع.
بعد نحو عشر دقائق، يراجع خلالها الضابط على الحاجز عند مدخل مدينة درعا أربعة من مرؤوسيه، يسمح بدخول السيارة. بعد الحاجز مباشرة، هناك بعض الآثار لعنف يوم أول من أمس: زجاج مكسور ومبنى محروق. يشي حجم المنازل وحداثة السيارات براحة أهالي المدينة مادياً. في مدينة درعا الرياضية، صورة عملاقة للثلاثي الأسد (حافظ وبشار وباسل). ومن الجدران إلى النقابات إلى الجمعيات والتعاونيات إلى السيارات: صور الرئيس بشار الأسد في كل مكان. وحدها الصورة سلمت من احتراق مخفر الشرطة والمحكمة، كأنّ المتظاهرين أرادوا بالمصادفة تلك، إيصال رسالة.
المدينة التي شيّعت أمس بعض شهدائها، كانت ظهراً خالية كلياً. كأنها مهجورة منذ أكثر من مئة عام: المحال مغلقة، لا أناس على الشرفات، ولا سيارات في الطرقات. لا أحد سوى عناصر من الجيش والاستخبارات. المسافة التي تفصل بينهم لا تتجاوز حجم الرشاشات التي يحملونها.
حظر تجوال غير معلَن
إنّه حظر تجوال غير معلَن. البحث عن رواية لما حصل ويحصل منذ أيام هنا، ليس بالأمر السهل. لكن، بعد سماع الكثير، يمكن ربط التقاطعات: بدأت المشكلة حين أمر مسؤول أمن محافظة درعا باعتقال تسعة أطفال من عشيرة بايزيد، بسبب كتابتهم على جدران مدرستهم &laqascii117o;الشعب يريد إسقاط النظام". لاحقاً، بدأ بعض أقرباء الأطفال الموقوفين بالضغط لإطلاق سراحهم. ومع تشدّد المسؤول الأمني، ازداد التضامن الشعبي مع أقرباء الأطفال. وتحوّلت الساحة المقابلة لمركز الاعتقال، إلى ما يشبه ساحة اعتصام. لكن، رغبةً من أهالي المدينة بعدم تطور الأمور بطريقة سلبية، قصدوا محافظ درعا لإدخاله وسيطاً بينهم وبين المسؤول الأمني. إلّا أنّ المحافظ أساء استقبال هؤلاء، وأسمعهم عبارات أسوأ من تلك التي ردّدها المسؤول الأمني أمام بعضهم. الأمر الذي أعطى إسلاميي المدينة مبرراً لتفعيل الغضب الشعبي أكثر. مع العلم أنّ الكثير من أبناء درعا عادوا من الخليج، حيث يعمل معظمهم، بثقافة سلفية (من دون أن يعني ذلك أن المتظاهرين في درعا ينتمون إلى تنظيم القاعدة كما يشيع البعض). اللافت هو أن الاحتجاج تطوّر في اليوم التالي بطريقة غريبة؛ فقد ابتعدت مجموعة من الشباب عن الاعتصام الأساسي أمام مقر الحاكم الأمني، وأحرقت غرفتين فقط في المحكمة التي تضم أكثر من عشرين غرفة. وصدف أنّ واحدة من الغرفتين اللتين أحرقتا، تضم سجلات الأحكام الصادرة بحق المهرِّبين (من الأردن إلى سوريا، والعكس). هنا وقعت أول مواجهة بالرصاص الحي بين المتظاهرين والأمن السوري، وسقط بعض الضحايا. لكنّ حرص القيادة السورية على عدم تكرار الأخطاء التي حصلت في مصر وتونس وليبيا، دفع بها إلى إيفاد اللواء رستم غزالة، بوصفه ابن المنطقة، حاملاً مجموعة تنازلات أهمها الموافقة على تبنّي المطالب الإنمائية الضرورية في نظر أبناء المنطقة، ولا سيما حفر الآبار الأرتوازية، وتنحية كل من مسؤول الأمن في درعا ومحافظها. ويرى البعض أن النظام كان، بطريقة غير مباشرة، يمتحن نفسه وشعبه. فالحل الأمني أثبت في التجارب العربية السابقة فشله، تماماً كما الحل التنازلي، حيث كانت الجماهير تأخذ التنازل لتطالب بآخر. وهذا ما حصل، فما كاد المفاوضون يكتشفون حجم التنازل الذي يحمله غزالي، حتى كان المقربون منهم يجتمعون، متوجّهين صوب الجامع العمري في المدينة، وهاتفين &laqascii117o;الشعب يريد إسقاط النظام". حينها حصلت المواجهة الدموية الكبرى، التي شيّعت درعا صباح أمس مجموعة من ضحاياها، وسط تراوح التقديرات بشأن عدد الضحايا بين 10، كما ذكرت السلطات السورية، و37 كما نقلت وكالة &laqascii117o;فرانس برس" عن مسؤول في أحد مستشفيات درعا، و200 كما نقلت بعض وسائل الإعلام عن معارضين.
هنا الاحتقان كبير. تتشنّج ملامح الوجوه حين يسمع الأهالي المسؤولين السوريين يتحدثون عن عصابات ومخربين واستخبارات أردنية. وتزداد الوجوه انشداداً حين يسمعون آخرين يقولون إن عناصر من حزب الله، متنكرين بثياب الجيش السوري، أطلقوا الرصاص على أبنائهم. وفي ظل عزل المنطقة هاتفياً وإلكترونياً، يبحث الأهالي عن وسيلة لاجتماعهم بعيداً عن عناصر الأمن وأنصار حزب البعث، لوضع خطة تقرر مصيرهم: القبول بتحقيق السلطات السورية لمطالبهم، أو تحمُّل تبعات حملهم الثورة السورية على أكتافهم والذهاب فيها حتى النهاية.
نقاط قوّة وضعف
وبحسب أحد أبناء المدينة، فإن نقطة القوة الأساسية في يدهم، هي خشية النظام السوري من التحركات الشعبية، واستعداده لدفع أي ثمن يطلَب منه، في مقابل ابتعاد الشعب عن الشارع. أما نقاط الضعف فكثيرة: أولاها، انضواء الفعاليات الأساسيين في المدينة، في صفوف حزب البعث، ونيلهم مكتسبات يخشون عليها من أي ثورة. ثانيتها، عدم حصول تفاعل شعبي (أقلّه حتى مساء أمس) مع ما يحصل في درعا، يسمح بالرهان على قيام ثورة في سوريا تشبه تلك التي قامت في تونس من سيدي بو زيد، وفي مصر من القاهرة. الثالثة، لجوء أهالي درعا سريعاً إلى العنف، وإحراق المحكمة، الأمر الذي يخيف السوريين من أن يكونوا ليبيا ثانية، لا تونس ثالثة.
تصل القوى الأمنية السورية متأخرة: حماية الأمن القومي السوري تمنع دخول الصحافيين إلى درعا. فور العودة إلى الطريق الدولية التي تصل درعا بدمشق، يستعيد قلب السائق دقاته الطبيعية؛ يضع الأغاني، ويصدح مع علي الديك.
صلاة الجمعة، اليوم، ستحدّد وجهة سير تحرك الشعب السوري. ما حصل في درعا يفيد في تحديد الفوارق الأولية بين ما يحصل في سوريا وما حصل في دول أخرى: في سوريا، لا أحد يطالب بإصلاح وتغيير على مستوى الخطاب السياسي. الإسلاميون السوريون، من &laqascii117o;إخوان" أو &laqascii117o;جماعة"، ينأون بأنفسهم حتى الآن عن الحراك، مقدرين تمتين النظام تحالفه مع تركيا، واحتضانه حركة &laqascii117o;حماس". الشباب السوري، وخلافاً للشباب المصري والتونسي والبحريني، لا يجد نفسه معنياً حتى اليوم بإسقاط النظام. هذا ما تظهره ندرة التحركات الشبابية حتى الآن. حتى أن جزءاً كبيراً من هذا الشباب يجد في الأسد رئيساً يشبهه ويحاكيه. على مستوى الفساد، تتركز الأنظار والاتهامات على شخص واحد، يُقال في دمشق إن سبب الانتفاضة في درعا كانت نيته فتح معمل لتصنيع حلاوة &laqascii117o;الراحة" هناك، محاولاً مصادرة الصناعة الغذائية الوحيدة في درعا، بعد مصادرته لكل الصناعات في سوريا. هنا، سيكون على النظام إثبات جديته في مكافحة الفساد، لأن رأس أحد رجال الأعمال سيوفر الكثير من الرؤوس.
الأنفاس في سوريا محبوسة. النظام الذي يراعي بدقة شديدة خطواته منذ انتقلت عدوى الثورة من تونس إلى مصر، تعثّر في درعا، لكنه بالتأكيد لم يسقط بعد.   

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد