- 'السفير'
وثائـق ويكيليكـس: قرائـن قانونيـة علـى أفعـال جرميـة
ناصر محمد الاتات:
تشكل الجريمة خطراً كبيراً على حياة الأفراد والجماعات، وإتيانها من أي إنسان كان يعتبر انتهاكاً لحرمة المجتمع وأمن الدولة والأفراد.
والجريمة تبدأ بفكرة (إذا برز التفكير إلى حيّز التنفيذ، فالقانون يعاقب عليه باعتباره جريمة) ثم عزم على إتيانها، ثم إقدام على الفعل سواء تم هذا الفعل أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها. وقد عرّف الفقهاء الجريمة بأنها كل نشاط خارجي (النشاط الخارجي هو إخراج القصد والهمّ بالقيام بالجريمة) يأتيه الإنسان، سواء تمثل هذا النشاط في فعل أو امتناع ما دام قد فرض له القانون عقوبة أو تدبيراً وقائياً.(1)
وفي قانون العقوبات اللبناني في المادة 186 منه(2) نص على انه لا يعد جريمة الفعل الذي يجيزه القانون بمعنى أن الجريمة هي كل فعل لا يجيزه القانون. وفي قانون العقوبات اللبناني عنصران للجريمة هما:
ـ العنصر المعنوي(3) ويتضمن: النية والدافع أي وجود نية أو إرادة على ارتكاب الجريمة ووجود الدافع أو العلة التي تحمل الفاعل على الفعل أو الغاية النهائية التي يتوخاها.
ـ العنصر المادي (4) ويتضمن: المحاولة واجتماع الأسباب.
والمحاولة لارتكاب جناية &laqascii117o;بدأت بأفعال ترمي مباشرة إلى اقترافها تعتبر كالجناية نفسها إذا لم يحل دون إتمامها سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل"(5)
&laqascii117o;وإذا كانت جميع الأعمال الرامية إلى اقتراف جناية قد تمت غير أنها لم تفض إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل..."(6)
فالمحاولة هي الجناية نفسها أي هو فعل الجناية تاماً إذا لم يحل دون إتمام هذا الفعل سوى ظروف خارجة عن إرادة الفاعل حتى وإن لم تفض إلى مفعول بسبب ظروف لا علاقة لها بإرادة الفاعل. أما اجتماع الأسباب فوفقاً للمادة 205 من قانون العقوبات اللبناني فإن الصلة السببية بين الفعل وعدم الفعل من جهة وبين النتيجة الجرمية من جهة ثانية لا ينفيها اجتماع أسباب أخرى سابقة أو مقارنة أو لاحقة سواء جهلها الفاعل أو كانت مستقلة عن فعله.
وعلى هذا فإن للجريمة عنصرين هما النية والفعل سواء تم هذا الفعل أو لم يتم بسبب خارج عن إرادة الفاعل.
ـ من هم الأشخاص المسؤولون عن الجريمة؟ أي على من تقع تبعة الجريمة؟
وفقاً لقانون العقوبات اللبناني(7) فإن الأشخاص المسؤولين عن الجريمة هم:
أ ـ فاعل الجريمة وهو من أبرز إلى حيّز الوجود العناصر التي تؤلف الجريمة أو ساهم مباشرة في تنفيذها.
ب ـ الشريك في الجريمة وهو كل مشترك مع الفاعل في إبراز عناصر الجريمة إلى حيّز الوجود بحيث يكون مشتركاً مباشرة مع الفاعل في تنفيذها.
ج ـ المحرض وهو من حمل أو حاول أن يحمل شخصاً آخر بأي وسيلة كانت على ارتكاب جريمة.
د ـ المتدخلون والمخبئون:
ـ المتدخل هو من أعطى إرشادات لاقتراف الجريمة وحتى وإن لم تساعد هذه الإرشادات على اقتراف الجريمة، والمتدخل هو من شدد عزيمة الفاعل بوسيلة من الوسائل، والمتدخل هو من قبل ابتغاء لمصلحة مادية أو معنوية عرض الفاعل ان يرتكب الجريمة، والمتدخل هو من ساعد الفاعل أو عاونه على الأفعال التي هيأت الجريمة أو سهلتها.
ـ المخبئون: من كان متفقاً مع الفاعل أو أحد المتدخلين قبل ارتكاب الجريمة وساهم في إخفاء معالمها أو تخبئة أو تصريف الأشياء الناجمة عنها، أو إخفاء شخص أو أكثر من الذين اشتركوا فيها عن وجه العدالة، ومن كان عالماً بسيرة الأشرار الجنائية الذين دأبهم قطع الطرق أو ارتكاب أعمال العنف ضد أمن الدولة أو السلامة العامة، أو ضد الأشخاص أو الممتلكات وقدم لهم طعاماً أو مأوى أو مختبئاً أو مكاناً للاجتماع.
بعد تعريف الجريمة وعناصرها والأشخاص المسؤولين عنها نفتح صفحات وثائق ويكيليكس فيتبين لنا ما يأتي:
أ ـ زمن الوثائق هو العام 2006 أثناء الحرب على لبنان وشعبه من قبل العدو الصهيوني أي أن أي جناية تقع على أمن لبنان الخارجي تفضي إلى تحقيق مآرب العدو تصل عقوبتها إلى الإعدام(8)
ب ـ قيام بعض اللبنانيين(9) بارتكاب الجنايات المنصوص عنها في المادة 274 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على: &laqascii117o;كل لبناني دس الدسائس لدى دولة أجنبية أو اتصل بها ليدفعها إلى مباشرة العدوان على لبنان أو ليوفر لها الوسائل إلى ذلك عوقب بالأشغال الشاقة المؤبدة. وإذا أفضى فعله إلى نتيجة عوقب بالإعدام".
وقد تبين ذلك من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRascii85T2513 تاريخ 1 آب 2006 نشرتها جريدة الأخبار بتاريخ 16 آذار 2011 العدد 1364 حيث جاء فيها: &laqascii117o;نصح بأن يحصل تقدم إسرائيلي كبير يسيطر على معاقل حزب الله في مارون الرأس وبنت جبيل مما سيمنح الولايات المتحدة فرصة لفرض وقف إطلاق نار في الوقت الذي يظهر فيه حزب الله مغلوباً".
إن هذه النصيحة هي تحريض دولة أجنبية على استمرار عدوانها على لبنان بشكل مباشر حيث إن هذا التحريض قد أفضى إلى وقوع المزيد من الخسائر في أرواح وممتلكات اللبنانيين.
وأيضاً من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRascii85T2441 تاريخ 22 تموز 2006 نشرتها جريدة الأخبار بتاريخ 16 آذار 2011 العدد 1364 حيث جاء فيها: &laqascii117o;تماماً كأعضاء آخرين في فريق 14 آذار الإصلاحي قال: إن وقفاً لإطلاق النار بدون تقليص جوهري لقوة حزب الله سيعطي هذا الأخير ببساطة موقعاً مهيمناً في الساحة السياسية اللبنانية، وسيفتح المجال لتجدد أعمال القتال في المستقبل القريب...".
إن هذا القول يدل على تحريض واضح وصريح باستمرار العدوان على لبنان لتقليص قوة المقاومة وقد أفضى استمرار العدوان هذا إلى وقوع المزيد من الخسائر في أرواح وممتلكات اللبنانيين مما يعني إعمال نص المادة 274 من قانون العقوبات اللبناني.
وأيضاً من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRascii85T2417 حيث جاء فيها: &laqascii117o;... فإن أي وقف لإطلاق النار سيكون بلا قيمة، وسيقود إلى عدم الاستقرار وتكرار الأعمال العدائية، إذا لم يتضمن خريطة طريق تنص على الآتي: تبادل فوري للأسرى، نشر الجيش اللبناني في الجنوب وصولاً إلى الخط الأزرق، نزع فوري لسلاح حزب الله الثقيل (وخاصة الصواريخ)، &laqascii117o;عودة مزارع شبعا".
إن هذا الاقتراح يشير بكل وضوح إلى التحريض على استمرار العدوان حتى الوصول إلى تحقيق خريطة طريق غايتها نزع سلاح المقاومة.
وأيضاً من خلال وثائق أخرى كثيرة نشرتها جريدة الأخبار
ج ـ قيام بعض اللبنانيين بارتكاب الجنايات المنصوص عنها في المادة 275 من قانون العقوبات اللبناني التي نصت على: &laqascii117o;كل لبناني دس الدسائس لدى العدو أو اتصل به ليعاونه بأي وجه كان على فوز قواته عوقب بالإعدام".
وقد تبين ذلك من خلال الوثيقة الرقم 06BEIRascii85T2403 حيث جاء فيها: حزب الله يكدّس السلاح منذ سنين وترسانته مخبأة جيداً ومحمية في مكان ما من سهل البقاع...".
هذا القول وما فيه يتضمن إعطاء معلومات عن ترسانة المقاومة المخبأة في سهل البقاع وهذه معلومة تساعد على مساعدة العدو في فوز قواته عندما يقوم بمعرفة مكان هذه الترسانة وتدميرها وهذا ما ينطبق على ما جاء في المادة 275 المذكورة لا سيما في إشارتها ودلالتها إلى التعاون والاتصال بالعدو بأي وجه كان سواء كان هذا التعاون أو التواصل مباشراً أو بالواسطة خاصة أن من أعطى هذه المعلومة يعلم علم اليقين بأنها سوف تصل إلى العدو عن طريق كاتب الوثيقة المذكورة.
وقد تبين ذلك من خلال البرقية الرقم 06BEIRascii85T2471 حيث جاء فيها: ...."ان إسرائيل غير مضطرة إلى حل القضيتين (شبعا والأسرى اللبنانيين) فوراً، لكن عليها الإشارة إليهما ضمنياً في أي مشروع لوقف إطلاق النار..." مما سوف يسبب إضعافاً لحزب الله.
إن هذه النصيحة للعدو ليخرج منتصراً في حربه ضد المقاومة وخروج المقاومة مهزومة فإنها وجه من وجوه الاتصال والتعاون مع العدو الصهيوني مما يشكل الجرم المنصوص عنه في المادة 275 عقوبات. بعد هذا أبحث في الجريمة وإبراز المواد القانونية التي تعاقب على الأفعال الجرمية التي أتت على ذكرها الوثائق لا بد لنا من البحث في القيمة الثبوتية لهذه الوقائع على الصعيد القانوني الجزائي بمعنى آخر ما هي القيمة القانونية لهذه الوثائق وهل تشكل إثباتاً قانونياً يمكن الارتكاز إليه في الإدانة؟ إن إثبات الجريمة يتم عندما يقام الدليل لدى السلطات المختصة بالإجراءات الجزائية على حقيقة قيام الجريمة أو عدم قيامها وبالطرق المشروعة وبيان نسبتها إلى المتهم وشركائه (10)
وعرّف الإثبات في المواد الجزائية (جنحة ـ جناية) بأنه النتيجة التي تحققت باستعمال وسائل الإثبات المختلفة، أي إنتاج الدليل(11).
كما عرّف الإثبات في المواد الجزائية بأنه الوصول بالدليل المقدم في الدعوى الجزائية في مراحلها المختلفة سواء بالنفي أو الإثبات، وبطريقة مشروعة إلى مبلغ اليقين القضائي(12).
والإثبات هو صاحب الدور الحاسم في مصير الدعوى الجزائية وهو العصب الرئيس للحكم الجزائي، إذ فيه يكمن السبب الذي يقود القاضي إلى إصدار هذا الحكم بالإدانة أو البراءة(13). وهو الوسيلة التي يتوسل إليها صاحب الحق إلى إقامة الدليل على قيام هذا الحق، وتقديمه للقضاء ليمكنه منه(14). والهدف من عرض الأدلة أمام المحكمة هو إقناعها بصحة الوقائع التي تتضمنها هذه الأدلة، سواء في مجال الإثبات أم النفي.
وفي القضايا الجزائية لم يرسم القانون اللبناني للقاضي طرق الإثبات للوصول إلى الحقيقة ليصدر حكمه، ولم يحصر له قيمة أي من طرق الإثبات، بل ترك للقاضي أن يختار من طرق الإثبات ما يوصل للحقيقة، وله مطلق الحرية في اختيار أي وسيلة ممكنة يطمئن إليها ليكون اقتناعه الذاتي، وهذا ما ذكرته المادة 179 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في فقرتها الأخيرة: &laqascii117o;يقدر القاضي الأدلة بهدف ترسيخ قناعته الشخصية" كذلك &laqascii117o;يمكن إثبات الجرائم المدعى بها بطرق الإثبات كافة ما لم يرد نص مخالف". وهذا يعني أن قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني قد أخذ بمذهب الإثبات الحر أو ما يسمى (بالمطلق).
وعلى هذا فإن البنية أو الدليل أو الإثبات في القضايا الجزائية (الجنحة ـ الجناية) يمكن ووفقاً للقانون قيامهم بجميع طرق الإثبات بما فيها الشهود والوثائق. وهنا نأتي إلى بحث القيمة القانونية لوثائق ويكيليكيس:
من المعروف ان وزارة الخارجية الأميركية لم تنف صحة هذه الوثائق وأيضاً أثبتت صدقية بعضها من خلال من وردت أسماؤهم فيها لا سيما من قبل النائب وليد جنبلاط وسمير جعجع.
وأيضاً بعدم صدور نفي جدي عن الآخرين وإن كان بعضهم قد حاول أن يدلي بتوضيحات ويهرب إلى الأمام بمواقف تذكيرية بالماضي النضالي، أو العروبي أو السيادي.
وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم هذه الوثائق إلى قسمين لناحية الإثبات القانوني:
أولاً ـ الوثائق التي لم ينفِ من ذكرت أسماءهم فيها ما ورد على لسانهم بل أكدوا ما جاء فيها تعتبر بمثابة إقرار والإقرار على الصعيد القانوني يعتبر سيد الأدلة،
ثانياً ـ الوثائق التي نفى من ذكرت أسماؤهم فيها ما ورد على لسانهم تعتبر بدء بنية خطية يمكن إثباتها بكافة طرق الإثبات بما فيها شهادة الشهود وغيرها لتصبح بنية خطية قاطعة.
وفي الدراسة القادمة سوف نتناول البحث حول الجهة القضائية المختصة للنظر بهذه الجرائم الخطيرة على صعيد الأمن الوطني والفردي وما سببته من خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات.
هوامش:
1 ـ د. عامر عبد العزيز ـ شرح الأحكام العامة للجريمة ـ منشورات جامعة قاريونيس ـ ليبيا ـ بنغازي ـ ط2 ـ 1987 ـ ص12.
2 ـ الباب الثالث ـ عنوان: الجريمة ـ في عصر الجريمة القانوني
3 ـ الفصل الثاني ـ في عنصر الجريمة المعنوي ـ المواد 188 و189 و190 و191
4 ـ الفصل الثالث ـ في عنصر الجريمة المادي ـ الفقرة الأولى من المادة 200 الفقرة الأولى من المادة 201
5 ـ الفقرة الأولى من المادة 200
6 ـ الفقرة الأولى من المادة 201
7 ـ المواد 212 و213 و217
8 ـ راجع المواد 274 و275 و276
9 ـ ذكرت الوثائق أسماءهم وفقاً لما نشرته جريدة الأخبار اللبنانية في أعدادٍ متتالية وبشكل مفصل.
10 ـ د. مفيدة سويدان ـ نظرية الاقتناع الذاتي للقاضي الجنائي ـ منشورات كلية الحقوق ـ القاهرة ـ 1985 ـ ص2
11 ـ د. محمود مصطفى ـ الإثبات في المواد الجنائية ـ مطبعة جامعة القاهرة ـ ط1 ـ ج1 ـ ص3 ـ 1977
12 ـ راجع: د. أحمد أبو الوفاء ـ التعليق على نصوص قانون الإثبات ـ منشأة المعارف ـ الإسكندرية ط2 ـ 1981 ـ ص13
13 ـ د. محمد زكي أبو عامر ـ الإثبات في المواد الجنائية ت الفنية للطباعة والنشر ـ الإسكندرية ـ د. ت ـ ص11
14 ـ د. أحمد ابو الوفاء ـ مرجع سابق ـ ص8
- 'السفير'
الشعـوب اللبنـانيـة لا تـريـد تغييـر النظـام!
I الحريرية" الأولى... على قيد الحياة!
نصري الصايغ:
ذات زمن، حدث ما يلي:
انتهت الحروب اللبنانية، وتفاءل اللبنانيون خيراً بالحريرية الأولى. الآمال أزهرت تفاؤلاً بالمعجزات. الكهرباء غداً، المواصلات بعد غد، الزراعة على موعد مع مواسمها ومباسمها، الصناعة لمنافسة سلعية، الجامعة اللبنانية إلى سابق عهدها، الإصلاح رهن التطهير، التنمية، وفق نص الطائف، متوازنة.
كان ذلك العام ربيعياً حريرياً بالتمام والكمال. تفوقت الطبقة السياسية في الإشادة به، كلاماً وتفخيماً وتشريعاً، وما شذّ عن تلك المعزوفة العجائبية، حزب أو تيار أو طائفة... اشترك الجميع في ترجمة محاصيل ذلك الربيع، باستثناء قلة خفيفة الوزن، راجحة العقل والقيم والسياسة.
وكان لاشتراك هذه الطبقة السياسية أن تحول ربيع الحريري، إلى عقيدة سياسية اقنعت &laqascii117o;الرأي العام" اللبناني بدعم &laqascii117o;الإنماء والاعمار"، بدلا من التنمية المتوازنة، ودعم &laqascii117o;الورشة" على حساب المزرعة، والديون على حساب الإنتاج، والريعية على حساب الدورة الاقتصادية. وساهمت اقلام وعقول &laqascii117o;فذة"، في التبشير بالدور الجديد للبنان: خدمات، عقارات، مصارف، سياحة، ومدن مكتظة بالباطون والطرق الالتفافية و... سوليدير... ولبنان على أهبة السلام مع أوسلو.
هذا من الماضي. إنما استذكاره هنا، هو مناسبة تأليف الحكومة الميتة قبل ولادتها، على أيدي القابلات القانونية في قوى الثامن من آذار.
هذا الماضي، الذي طبع الحريرية الأولى، أصبح مدرسة في السياسة اللبنانية، حيث إن المدافع عن الحريرية، بسلبياتها وايجابياتها، لا يختلف في السياسة والإعلام والثقافة والتربية، عمن ينتقد الحريرية بايجابياتها وسلبياتها. فهو يكفر بالحريرية، لكنه لا يزال على صراطها، في جعل لبنان، مصرفاً وعقاراً وسياحة، بلا زراعة ولا صناعة ولا مؤسسات ولا محاسبة ولا قضاء ولا... إله إلا المال، لأنه من فضل ربي.
وهذا الكلام على الماضي، لا يهدف إلى إيذاء الحريرية (انها تؤذي نفسها بنفسها راهناً)، بل إلى فضح العقم الآذاري الآخر، جماعة 8، حيث إن شعوبهم لا تختلف عما تأتي به جماهير 14 آذار، من معجزات صوتية.
II الحريرية" مدرسة وتلامذتها أساتذة
ذات زمن حريري، حدث ما يلي:
قام وفد من مزارعي البقاع بزيارة مطلبية لوزير الزراعة (الوطني) شرح له المزارعون معاناتهم وقدموا مطالبهم وتمنوا على معاليه دعمهم. فمن دون الزراعة، سيضطرون إلى سلوك طريق &laqascii117o;التهجير" الطوعي... سمع الوفد كلاماً ودياً من معاليه، وأكرم وفادتهم، وطيَّب خاطرهم، وأخذ منهم عناوينهم وتمنى عليهم ان يفكروا بغير الزراعة... أي، وداعاً للأرض وما عليها ومن فوقها.
وقام وفد آخر من مزارعي البقاع بزيارة رئيس لجنة الزراعة النيابية، وعرض الوفد مشكلة الزراعة و... استمع سعادة النائب الى شكوى الوافدين، فطيب خاطرهم وتمنى عليهم ان يفكروا بغير الزراعة... أي: باي باي زراعة.
الغريب، أن الوفدين، لما عادا إلى الديار، شكرا الوزير والنائب على حسن الضيافة وكياسة الاستقبال والبشاشة السياسية، وتبنَّيا ما قاله الاثنان &laqascii117o;الخبيران" بتفليسة القطاع الزراعي في لبنان... الغريب، أن أحداً من الوفدين، لم يغضب من الوزير والنائب، وأن أحداً لم يقف ويسبهما، وان أحداً لم يتقدم ليصفع أحدهما على فمه ويُخرسه، لأن هذا الكلام، يعني القتل المستدام لعائلات، والقتل المنهجي لأرض، والتهجير الطوعي من قرى، كانت ذات أزمنة، تطعم لبنان غلالاً وترفده رجالاً، يصلحون للعمل الوطني... وللعمل السياسي.
الغريب، ان ما قاله معاليه وسعادته كان سليماً ودقيقاً. فلقد بات لبنان مستورداً لثمانين في المئة من سلته الغذائية، وباتت القرى اللبنانية مهجورة، إلا من عجائزها المرشحات لملء ما تحت التراب، ومنتظرة كرما خليجيا أو نفطيا، يقطره زعيم، أو تزكيه طائفة، أو تظلله بندقية أو... ما تيسَّر من أموال مهاجرين، يقال انهم يتعاملون مع الأبيض الكولومبي والحرام الإنساني. أما المهاجرون العاملون بعرق جبينهم، فلا يتوفر لهم ما يدعمون به أحداً.
غريب!!! الحريرية تفوز اليوم، كما فازت بالأمس، على خصومها والتيارات المناوئة لها، باستثناء قلة قليلة، برهن على وجودها، الوزير شربل نحاس... هل من آخرين يتقدمون ليعلنوا عن ضرورة صفع صاحب المعالي على حنكه الأسفل، كي يتوقف عن ازدراد الكلام؟
III ـ تأليف حكومة بعد وفاتها
مناسبة هذا الكلام، تأليف الحكومة الميتة، والتقدم من جثتها لتنال ثقة بعض المجلس النيابي، بطريقة لا تخلو من الحريرية الأولى...
المزارعون، كما أسلفنا، خرجوا من لدى المسؤولين عن الزراعة وهم يشيدون بكرمهم وضيافتهم. واللبنانيون اليوم، باستثناء خميرة شبابية جديدة، لا يزالون يفاضلون بين هذا وذاك وذلك، وبين ذلك وذينك. وكل هؤلاء وأولئك، علما بأن الجميع قد أبلغنا من زمان: ودعوا السيسةز لقد ماتت.
في دول أخرى، ذات مزاج ديموقراطي سليم (لا عكر طائفياً فيه)، تتألف الحكومات، بناء على سياسات وبرامج وخطط ومواعيد وأرقام ونسب وقناعات، تخطب ود الرأي العام المتنبه لمصالحه المباشرة على الأقل... أما في دولتنا الحريرية الراهنة، ولو كانت بأسماء &laqascii117o;أنتي حريرية"، فلا خلاف بدر حول المسألة الزراعية. ويجب ألا يظن أحد أن الخلاف هو على اصلاح الإدارة، فهي حزب الفساد الأعظم في لبنان كأحزاب الفساد العظمى في الدول الدكتاتورية الاستبدادية، المترنحة في محيطنا العربي. يلزم أن لا يراود أحد من اللبنانيين، أن مفتعلي تأليف الحكومة، يفكرون بأزمة الهجرة المستدامة، والبطالة المتزايدة، عبر العمل على سياسة خلق آلاف فرص العمل، لشبابنا وشاباتنا الذين يتخرجون من الجامعات، حاملين معهم حقائب السفر، قبل الإجازة الجامعية... يجب ألا يظن أي لبناني، سليم العقل، أن قوى 8 آذار بالذات، تبحث في حل أزمة المحروقات وأزمة السير، وفساد الضمان الاجتماعي، وتنافس الأجنحة الأمنية المتحزبة. يجب أن يغيب عن بال كل لبناني، أن هؤلاء يقومون بلعبة الكراسي: واحد لهذا واثنان لذاك، وسبعة لمن تفوّق طائفياً، إن بدعم العلمانية لفظاً، أو باقتراح إلغاء الطائفية السياسية لماماً ومن تحت لتحت. يجب أن ننسى كلياً، أن أهل الحكم يبحثون في مسألة المديونية الباهظة، واللبنانيين المهددين بالتهجير من بعض بلاد الهجرة العربية والإفريقية. يجب أن لا يكون اللبنانيون أغبياء جداً، ليدركوا ان تأليف الحكومة وتعذر ايجاد المخارج لها، هما حول التنمية المتوازنة، والأحوال الشخصية وكيفية تطبيق الدستور... الحكومة القادمة صفقة مربحة جداً، إنما لقلة من الطائفيين وزبانيتهم.
وتتحمس وسائل الإعلام في نقل تصريحات وتلميحات وكواليس إدارة تأليف الحكومة. تدافع عن حصة لرئيس الجمهورية الماروني (وقد كانته له حصة في الحكومة الماضية، تبين انها حصة مستأجرة من هنا الذي هو ضد هناك)، يقابله دفاع عن حصة الجنرال عون، على اعتبار حقه المطلق في تمثيل المسيحيين، موارنة وأورثوذكسا وكاثوليك وأرمنا، لأن لا أحد يعيد حق المسيحيين إلى نصابه الطائفي غيره، مع الإصرار على أن الهدف من هذه الغلواء الطائفية المستجدة عونياً، هو إلغاء الطائفية!!!
ثم تندفع هذه الوسائل الإعلامية، للدفاع عن وزارة الداخلية أو الهجوم عليها. ويتبنى &laqascii117o;آل لبنان العظيم"، ما يقوله زعماؤهم وخبراؤهم وإعلامهم، وتماماً، كما فعل وفدا مزارعي البقاع في الدفاع عن معاليه، بدلا من الدفاع عن مصالحهم. فكل عنزة معلقة طوعاً بكرعوبها. وكراعيب لبنان مزينة بأعناق الماعز اللبناني.
أليس من أجل ذلك، تتأخر ثورة التغيير في لبنان؟ أليس لأن الجيل اللبناني الراهن، باستثناء قلة من شبابه وخيرة بناته، لا يزال يتحدث ويؤيد ويتفانى ويستعد لتنفيذ شعاره، &laqascii117o;بالروح بالدم نفديك يا فلان" و"الله وفلان وبس". وهذا الفلان، هو الاسم الحقيقي لستة أو سبعة من زعماء لبنان، ذات 14 وذات 8 آذار.
IV ـ عنصرية باسم الحضارية
غريب. يعتبر اللبناني نفسه متفوقاً ومتقدماً وحضارياً. وعندما يقيس نفسه، لا يقبل إلا مقاييس أوروبية وغربية على العموم. على أن واقع الحال، يفيد أن لغة وخطاب الأجيال العربية الجديدة، يؤكدان تفوق التوانسة على اللبنانيين، وتقدم المصريين على أبناء فينيقيا، ورقيَّ أهل البحرين، بالمقارنة مع آل البيوت اللبنانية العفنة، وعقلانية القبائل اليمنية تنويرية في مقابل جاهلية الذكاء الطوائفي الاجتراري، وسمو الشباب الكردي الثائر على كرده، أفضل من ألاعيب وأكروبات الطوائف.
غريب... لغة البلاد العربية تغيَّرت. إعلامها تغيَّر. لغة شبابها جديدة، مختلفة، مفهومة، واضحة، صريحة، جارحة، نقيَّة، صادقة، مباشرة، نافذة و... تصلح للمستقبل.
لغة حركات الشباب التغييرية تخاطب الوطن، كل الوطن، لا فئة منه. وتدافع عن الوطن، كل الوطن، لا عن طائفة أو عرق أو حزب فيه. ثم انها لغة عصرية: يريدون إسقاط النظام العربي الرسمي، أو تغييره، أو إصلاحه، لجهة استبدال الاستبداد بالحرية، وجعل الديموقراطية البرلمانية، قاعدة السلطة، لا العائلة أو الحزب القائد أو الأمن القابض، أو رجال الأعمال، ممن يمتهنون اللصوصية في الاقتصاد والمال والسياسة والأخلاق والفن. لغة لا التباس فيها تقول انها ترفض تحالف المال والسلطة، وزواج السلطة والأمن، وقرابة السلطة والطائفة. ترفض التوريث، لأن الحكم ليس لعائلة مالكة أو لعائلة استملكت بالقوة والقمع، مقاليد ورقاب وحياة الناس.
لغة الجيل الجديد من شباب العرب، ملاحقة الفاسدين والمفسدين، واسترداد أموال وأملاك الدولة، والتعجيل في محاكمة المتورطين ومعاقبتهم، وفق النصوص القانونية وبمحاكمات شفافة. لغة الجيل الجديد، لغة حماية الإنتاج الوطني، لتوفير فرص عمل في قطاعات الزراعة والصناعة والحرف والسياحة والإدارة والعلوم الحديثة. لغة جيل يرى إلى الأمة أنها قادرة على حمل مسؤولياتها الإقليمية والوطـــنية والقوميـــة، دونما اعتماد على دول عظمى، للحماية والرعاية في مقابل أثمان مذلـــة. لغــة جيل، لا يستبعد بناء قواه الذاتية، بجهد ذاتي. لغة تنبذ العنف والعنــف المضاد، وتنفتح على العروبة وعلى فلسطين، بملء خياراتها، ولو تعــددت.
هذا الجيل، إذا قارنت لغته وخطابه، مع لغة السلطة العربية المنتشرة في أنظمة الاستبداد والنهب والقمع والتوريث، لوجدت أنك مع جيل يصنع المستقبل، مقارنة مع سلطة حوَّلت الحاضر إلى ركام وحطام، سياسي واقتصادي ومالي وأخلاقي ونفسي، أو وجدت انك مع جيل يحاكي الإبداع، مقارنة بجيل من سلطات الاجترار والتكرار.
أين جيلا 14 و8 آذار من ذلك؟
انهما يبزان وفدي الزراعة. يعرفان أن الحلول منعدمة، لكنهما، يبوسان ويحرسان الأيادي التي تكسر أعناقهم وتزيلها لحسابها وسياساتها.
فأي مقارنة تجوز، بين جيلي آذاريي لبنان، وأجيال تونس واليمن ومصر والبحرين والأكراد وسوريا وأبناء الفجر العربي الجديد؟
لا مقارنة تجوز... نحن عباقرة السخف السياسي. هم أنبياء الآية العربية الجديدة، آية من وحي عقولهم وإرادتهم وحريتهم.
V ـ جيل لبناني لا يمت الى لبنان الطائفي
قيل كلام كثير على جيل من الشباب، نزل إلى الساحات اللبنانية، رافعاً شعار: &laqascii117o;الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي". السياسيون لم يسمعوا. أو، سمعوا وسخروا من الشباب، على جاري عاداتهم في احتقار الناس وكرههم والاستخفاف بهم. وهذا تقليد سياسي معروف. فالزعماء في لبنان، يكرهون شعوبهم، فيما تتنافس شعوبهم المكروهة في الدفاع عنهم والتماهي بهم و... &laqascii117o;بالروح، بالدم، نفديك يا فلان"!
بعض الإعلاميين، ركز على خلافات وجهات النظر الشبابية، على فوضاهم، على أخطاء يرتكبونها، على مخيِّلة جموحة، على تنافس حزبي ـ مستقل... بحثوا في الهوامش، للطعن بمسيرة &laqascii117o;أنبل الناس وأشرف وأعقل وأجرأ الناس... في البحث عن وطن وفي بناء الدولة"، ولو بالشعار.
هؤلاء الشباب، وقد حضرت عدداً من لقاءاتهم واستمعت إلى أعداد كثيرة من شعاراتهم، وخرجت معجباً بلغتهم الجديدة التي لا تمت بصلة، إلى لغتي 14 و8 ولا إلى أي لغة سياسية يتناوب عليها الإعلام. لقد بدا لي ان هؤلاء، جيل لا يشبه جيل وفدي المزارعين، الذين قبَّلوا أيدي معاليه وسيادته، التي وقعت على موت أرزاقهم ومصالحهم.
فوضى الشباب الجدد، رائعة. أخطاؤهم أروع. شعاراتهم تخاطب المخيّلة وتحاكي الطموح. مسيراتهم المتنقلة، تأخذنا إلى لبنان اللاطائفي، العلماني، المدني، الديموقراطي، العقلاني، المتعدد الخيارات، وليس المتعدد الانتماءات القبلية والتناسلية.
كل ما جاء به الشباب، لا يشبه لغة اللبنانيين الأشاوس، عصبويي 14 و8 آذار. انهم رائعون، لأنهم حسموا علاقتهم مع لبنان الطائفي ورموزه. انهم مثاليون، لأنهم شديدو الارتباط بواقعية المطلب الديموقراطي. انهم أهل قلوب لا تميز بين دين ودين، يقتربون من ابن عربي الحديث، &laqascii117o;أدين بدين الحب"، وليس بدين الدين. وعليه، فالزواج المدني الاختياري، هو قيمة كبرى، وليس مسألة توافقية وإدارية رخيصة.
هذا الجيل اللبناني، له لغة تشبه لغة الشباب العربي. ويعوَّل عليه. وان المراهنين على فشله والمتخلين عنه، هم من طائفة الطوائفيين، ولو كانوا يساريين وقوميين وعلمانيين وأهل عقل.
لدينا في لبنان اليوم، جدول أعمال حكومي باهت، وبيان حكومي منصوص ومقروء وممجوج، كما لدينا، جدول أعمال شبابي تنتشر عناوينه في أكثر من مكان.
من بين هؤلاء الشباب، من يستطيع ان يقف في وجه الرموز ويقول: لسنا مزارعين عندكم. نحن الأصل الصالح، وأنتم الفروع الواجب تشذيبها بالتقليم والحذف، لعلكم تثمرون عملاً، تلتزمون فيه بالمساهمة في تمهيد الطريق، لبناء دولة علمانية ديموقراطية شفافة...
سنتأخر كثيراً... لكننا سنصل.