- 'النهار'
مشاهدات بين الناس وفي الشارع والمحال المرمية على تعب.. حياة الضاحية حين لا تختلف عن نظيراتها إلا في الأذهان
ماريا الهاشم:
كان ذلك في نهار مشمس. صدِّق أن الشمس تشرق على جميع المناطق في لبنان، وأن ثمة حياة في مناطق أخرى، وأن الفجر ينسكب في الكؤوس نفسها هنا وهناك. حياة للضاحية الجنوبية، وفي الضاحية، لا تختلف عن حياة نظيراتها إلا في الأذهان. أذهان اللبنانيين التي تتعالى فيها متاريس نفسية نسيت الحرب الأهلية أن تستردّها منها.
في حارة حريك، يتثاءب النهار ليدفع عنه ترسّبات النعس. يفتح ذراعيه للعمل، العمل الجائع دوماً. ناس هنا. ناس هناك. فهل ناس الهنا يختلفون عن ناس الهناك؟ الدمعة هناك دمعات هنا. والابتسامة هنا ابتسامات هناك. الصمت المدويّ هناك صمت صامت هنا. دكاكين مرميّة على تعب. محال تجارية بأسماء من أشكال وألوان، تسرف في الانوجاد. شعارات حزبية ترتفع. ليس ثمة بدّ من القول إنها تشير إلى 'حزب الله'. ففي أذهان كثيرة المعادلة مرسومة بإتقان: الضاحية = الشيعة، والشيعة = حزب الله. لكن هؤلاء يستدركون أن هذا ليس تعميماً. فهناك شيعة ليسوا مناصرين لـ'حزب الله'. هؤلاء يجيدون لعبة الفرز والتصنيف الطائفيين والحزبيين.إلى أن... ذلك الرجل الخمسيني بلباسه الموحّد 'البيج'، كأنه ينظّم السير. من أفضل منه للاستدلال على الطريق؟ لم يلبث أن تبنّى المأزق مأزقاً له، وأفضى بنصيحته: 'قفي هناك ريثما تمرّ سيارة أجرة. الأفضل أن تضاعفي المبلغ للسائق لأن مشوارك بعيد نوعاً ما'. ولم يكد يختم جملته حتى لمحنا سيارة أجرة تتوقّف. عند ذاك، عند ذاك فقط، أعاره الفرح بعض فرح. نادى السائق الذي يبدو أنه على معرفة به، وسأله إن كان يستطيع أن يأخذني معه. لكن السائق لم يملك إلا أن قال: 'أوف' حين سمع العنوان، قبل أن يذعن في النهاية قائلاً: 'اصعدي'. أنا واثقة أن رجل 'البيج' لم يسمع شيئاً من كلمات شكري التي سقتها له لمساعدته إياي. لا لسبب إلا لأنه منذ 'اصعدي' السائق، انتقل إلى ضفّة أخرى من الوجود. ابتسامته ما عادت تسعها الابتسامة. أسنانه انتظمت، وانسجمت في ما بينها، لتصفّق لسعادة تلك الابتسامة. ذقنه الرمادية عُلّقت على جدران الفرح. ارتياحي غدا ارتياحه هو. لا أعرفه. لا يعرفني. ساعدني. ثم ذهبت لا أعرفه، لا يعرفني. تركته واقفاً على ذاك الرصيف تحت الجسر، يلوّح بيد للسيارات. وفي اليد الأخرى، ارتفع منسوب الفرح حتى ضاقت به الذراع.لكن أمراً آخر كان يحدث في سيارة الأجرة. عجوز تحاول الترجّل ولا تستطيع. فـ'استحقّت' الزمامير المتصاعدة جوقة. ثم رجل 'البيج'، رجلان. فأطلّ شبيه به باللباس، ثلاثيني، وزجر مع زميله الخمسيني، السائق على عرقلته السير. لكن حين بان لهما السبب، تفهّما الأمر، وخفّفا من ثورة السائقين.'عجبك؟ كان قتلنا حزب الله!'، قال السائق، الحاج، تعليقاً على عرقلة السير التي حدثت. لكن ماذا يقصد؟ المعنى القريب أي المباشر، المتعلّق بالحادثة، وأن رجلي 'البيج' هما من 'حزب الله'؟ أم تراه يطاول في جملته، المعنى البعيد السياسي ويغمز من قناة الحزب وأدائه؟ الظنّ، أغلب الظنّ، أن الحاج غير متعاطف مع 'حزب الله' لسببين فضحهما كلامه. الأول أنه عيّن الشخصين بما يمثّلانه، أي الحزب، ولم يشر إليهما في حدّ ذاتيهما. والسبب الثاني أنه لم يعلّق إلا عليهما، وتغاضى عن السائقين الذين أطلقوا زمامير سياراتهم خلفه. يبدو أن الحاج يبطّن كلماته ويغلّفها جيداً بنيّاته.ثم سألني: 'شو بيقربك...؟'، ذاكراً اسم عائلة رجل 'البيج'. 'لا شيء. كنت أستدلّ منه على الطريق فحسب'، قلت. وسألته: 'ولكن ما هي وظيفته على وجه التحديد؟'. فأجاب الحاج: 'حزب الله'. أجاب عن سؤال الوظيفة بجواب الحزب، قبل أن يكمل: 'هؤلاء مسؤولون عن أمن حزب الله وحمايته. فلا شرطي سير في هذه المنطقة. هم يتولّون هذه المهمّة'. فعلاً أن كلام الحاج نيّاته متوارية في ثناياه. فأسئلته تعزف على أوتار الفرز والتصنيف الطائفيين لترسو على برّ الطمأنينة النفسية والطائفية. والأسئلة على مراحل: 'أنت من الحارة أم من المنطقة حيث تبغين الوصول؟'. لكن الحاج لم يقطع خيط علاقة ما مع الحارة: 'إذاً أنت تعملين هنا؟'. ولأن الإقامة في منطقة ما لا تعني بالضرورة الانتماء إلى دينها الغالب، سأل فضول الحاج الطائفي عن اسم العائلة مرفقاً بـ'من وين الأصل؟' علّه يصل إلى يقين. ثم جاء دوري في السؤال: 'وأنت من وين؟'، بغية إحلال توازن ما في الحوار.عاد الحاج أدراجه إلى هناك، حيث رجل 'البيج'- يحبّه أو لا يحبّه- الذي لا تزال ابتسامته سماء بلا حدود. ويده تترقّب السيارات، تراقبها، تقرّبها، تبعّدها. ترجّلت من السيارة وشيء واحد في البال: حبّذا لو تصبح الطائفية مثل الأبواب الزجاجية في باحات الفنادق الخارجية التي تدور على نفسها وعلينا، ندخل فيها لنخرج منها...
- 'السفير'
عشتم وعاش لبنان... قليلاً!
نصري الصايغ:
Iـ زياد بارود آدمي.. هذا لا يكفي جدير زياد بارود بأن يكون وزيراً. لائق جداً أن يكون منبته مدنياً. مفيد جداً ان يكون ضليعاً بالنصوص. خليق جداً ان يكون ذا سمعة نظيفة.. انما.. ماذا فعلوا بك يا زياد؟ لماذا تماديت كثيراً في صبر غير جدير؟ أما كان لك جرأة التخلي، فتخلع عنك الوزارة، مثلما يُخلَع حذاء؟ نعم... بهذه اللغة نسألك، لأنك، كما افترضنا، لست ملك نفسك، ولست ملك سلطة أنست إليك فاختارتك وتركتك لعجزها وعجزك؟ لست تقبل، كما بدا لنا، او، كما أملنا، انك، ان تكون وزيراً للداخلية، وتبقى خارجها، وان ترضى بأن تقول كلاماً وتصريحاً وتلويحاً فقط، وتصمت، بغيظ وألم، فلا تفصح ولا تعبر ولا تقول شيئاً، لمن كنت، ولا تزال عند البعض الكثير، أملاً مدنياً سياسياً؟ هل راودك وهم الإصلاح؟ هذا وهم الجهلة. هل حلمت بمركز لك في ما بعد؟ هل راهنت على مستقبل، في بلد لا مستقبل له، يجرجر خيباته وسخافاته وزعرانه وعصاباته، إلى موت أكيد؟ أما رأيت لبنان يهرول إلى حتفه؟
كان جديراً ان تترك، بجلال الصفعة. غيرك، من سياسيي هذا النظام، لبط الكرسي، لأقل مما عانيت. عبد الحميد كرامي فعلها. بعد سبعة أشهر من رئاسته للحكومة الثالثة بعد الاستقلال، حمل كتاب استقالته، ودخل على بشارة الخوري، متوّجاً بتصويت حاسم على الثقة به وبحكومته في مجلس النواب. ليقول له: هذه استقالتي. هذا البلد ليس إلا مزرعة. واقترح حل الإدارة برمّتها، كي يُعاد بناؤها، على قاعدة الكفاءة والنزاهة والولاء للشعب.
كان جديراً ان تخرج بدويّ يصادق على حجم الآمال التي عقدت عليك. آثرت التوازن، ولا وزن لمن يدعمك من فوق. فيما داعموك من تحت، كانوا بلا حول ولا قوة، فلا أنت خاطبتهم، خطاب التحريض والصفع والركل، ولا هم حرّضوك على ذلك. من غير الجائز الترسمل بالشكوى وحدها، والإنفاق من رصيد النق، من دون الإقدام على خطوة اعتصام في الوزارة، مع مَن معك، ومَن يدعمك، ومَن يريد لهذه اللادولة ان تصير دولة .
لم تقل لهم: أنا بحاجة إليكم. كنت عادياً. تمشي الحيط الحيط وتقول السترة. وما نجوتَ، ولا ربحتَ ولا... إلى ان خرجتَ موارباً، بلغة تشكو ولا تفضح، بنصّ ناعم العبارات خليق بغزل او عتاب.
جدير بك، ان تكون وزيراً، وان تمارس السلطة، بعقل الحاكم، وقبضة العازم. لقد كنت &laqascii117o;حكيماً" بين عباقرة الجنون الطوائفي وجهابذة المافيوزات.
بالغ التهذيب، في مواقع، كان فيها الفجور ضرورياً ضد من يدنس الحقوق ويدوس الكرامات ويسحل الأمنيات... حتى الأمنيات الصغيرة.
جدير بك، ان يكون لك قبضة، تقرع على الطاولة ليسمع الجميع، وتقرع على الوجوه، لتصيب اصحاب الجاه القذر، وجماعات الولاءات الخسيسة.
لماذا لم تكن كذلك؟ ما الذي أعوزك؟ لقد بالغت كثيراً في الجلوس على الكرسي، فيما كان عليك، لتجلس عليها بكرامة وفعالية، ان تسحب الكراسي، بعنف القانون وسطوة الدستور ومنعة الموقف وعصب الغضبة، وقوة الركلة، من تحت من سطا عليها وأقام عليها عجيزته، عقيدة وسلوكاً وسياسة.
لماذا لم تكن وزيراً إلا قليلاً؟ ان الوزارة، ليست نصوصاً وقوانين ودستوراً ودعماً هشاً بليداً من فوق. إنها أنت. اما ان تكون على صورتك وإما تكون على صورتهم. كنت صورة خارج الاطار. عندما اصغيت إليك، تتلو بيانك، كنت اتوقع ان تختمه، بما اعتاد عليه المتكلمون: عشتم وعاش لبنان، لكنك لم تفعل. كأنك لم تودع بعد مقرك. او كأنك عائد إليه ربما، او مستعاد إليه قريباً، لكنني فهمت غياب هذه التحية على ذوقي (عشتم وعاش لبنان) بأنها إنذار للبنانيين مفاده: &laqascii117o;لا عشتم ولا عاش لبنان".
كان يجب ان يكون خروجك بليغاً وقوياً ليترك في هذه الصحراء اللبنانية القاحلة، صدى مؤثراً يتردّد: &laqascii117o;لبط زيادة بارود الكرسي ومن عليها"، وأقسم ان يعود إلى حضنه المدني، ويبدأ منه، مسيرة العمل الجاد، لتدمير ما تبقى من أسطورة التسلق اللبناني إلى الهاوية.
لقد فوّتَ علينا يا زياد.. روعة الختام. كان يجب ان يكون المشهد الأخير حافلاً، بتمزيق الستارة، وتحطيم المسرح، وطرد الجمهور بنجومهم وأكتافهم.
لكنك لم تفعل...
خسارة! خرجت مهزوماً، فماذا نقول؟ لعل أبلغ ما يقال، إن على المثقفين مقاطعة هذا النظام برمّته، والعمل على تقويضه من خارجه. وكل محاولة لتصويبه من داخله، تصيب المحاول، بالخذلان. لا دور للمثقف في هذا الكيان وهذا النظام.IIـ مغاور الداخلية في وزارة لو ان لبنان يشبه نصوصه، يشبه دستوره وقوانينه، يشبه ما يقوله أهل الفكر والرأي والعلم... لو أن للبنان مرجعية يؤسس عليها دولته وينشئ نظامه ويقرر سياساته... لو ان للبنان حاضنة اجتماعية متوائمة مع نصوصه، متفقة على معايير متشابهة للحكم على الأمور... لو أن للبنان مؤسسات متممة لنصوصه ومعبرة عن مراميها، يتم فيها اتخاذ القرار وتراقب التنفيذ وتثيب وتعاقب، لكانت وزارة الداخلية اللبنانية، وزارة لبنانية.
ولما كان لبنان طالقاً من نصوصه وقوانينه ولم يهتد بعد إلى هويته، فإن هذه الوزارة، هي للبنانيين المقيمين سياسياً خارج لبنان. وحيث ان معظم التيارات السياسية طائفية، وعابرة للحدود والكيان والدستور والميثاق، وملتقية ومصافحة ومتفقة ومتعاونة ومتعاملة مع مَن يشبهها في الخارج، اما في ذمتها الدينية، او في ذمتها &laqascii117o;السياسية"، او في ذمتها الدولية، او في ذمتها المالية، او في ذمتها الممانعة، فإن وزارة الداخلية، نسخة طبق الأصل عن هذه التوجهات، مداورة. أي، انها تنتقل من ذمة إلى ذمة، من سياسة اقليمية إلى نقيضها، من طائفة إلى اخرى، من أمن مستعار إلى أمن معار إلى أمن بالمزاد.
هذه حكاية قديمة جداً، فكل وزارة لها صاحب. أي، وزارة الداخلية لصاحبها... فلان، أكان زعيماً او تياراً او دولة او اقليماً او... ففي ازدحام المشروع الأميركي في عهد ايزنهاور ومواجهته للمشروع العروبي الناصري في لبنان، تبين لرئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون، مالك الصلاحيات التي يبكي عليها رئيس الجمهورية الحالي وبكى قبله الرئيس الياس الهراوي، تبين لشمعون آنذاك، ان قيادة الجيش، ليست سهلة القياد في قيادتها، لسياسته المنحازة. قرر فؤاد شهاب ان يضع الجيش في كنف الدولة، وليس في كنف الرئيس. الجنرال قرر ذلك. هل يحق له؟ هل هكذا يقول الكتاب؟ بالطبع لا! ارتأى سياسياً ان الحكمة تقضي وضع الجيش على مسافة من الرئاسة، صاحبة الصلاحية، وصاحبة الإمرة، على العسكر، من فوق إلى تحت، عله بحياده، ينقذ البلد من الانحياز القاتل.
لما تأكد شمعون، ان شهاب يقوم بعصيان سياسي ذكي، وضع يده على الأمن الداخلي، فاصبحت وزارة الدفاع لصاحبها فؤاد شهاب، ووزارة الداخلية، لصاحبها كميل شمعون. وبعد ذلك، صارت وزارة الداخلية، &laqascii117o;مولاً كبيراً"، لكل فريق جناحه، إلى ان دخل لبنان في الحقبة السورية. فتحوّلت الوزارة إلى ملعب يومي لعنجر. وتسلم عنقها أبو الياس، المالك سعيداً، في أجنحة &laqascii117o;المول" الداخلي اللبناني... والقادر على توجيه الداخلية، باتجاه الرياح الخارجية المناسبة.
نمت الداخلية في ظل الانقسام اللبناني، فروعاً وفصائل ومدراء عامين وضباطاً وقادة مناطق، وصولاً إلى تبوئها مرتبة مركزية سيادية أولى. ولأن المرجعية، في لبنان، سياسية، لا قانونية، فقد تقاسم أهل الطوائف، البيت الداخلي، وعاثوا فيه ولاءات وتناقضات. وبعد استشهاد الحريري، صارت الداخلية، في أحد فروعها، حزباً مسلحاً لصاحبه 14 آذار، فيما إدارات اخرى، أمن عام، وشرطة و... في عهدة تيار سياسي آخر.
وفي غياب المحاسبة، وتفوق منطق المحسوبية، وسيادة سلوك البلطجة العام، تحوّلت الوزارة إلى أوكار ومغاور، أما الفساد، فحدّث ولا حرج. ولا يخجل ارباب الفساد في لبنان، من نعت وزارة الداخلية، بأقبح النعوت، باعتبارها فاسدة من فوق إلى تحت وفي كل الاتجاهات.
وتشظت الوزارة... الشكوك متبادلة. &laqascii117o;الخيانات" المرتكبة لا قياس لها. كل طرف في الدولة يعتبر الطرف الآخر، متآمراً عليه ويسوّق &laqascii117o;وقائع" وإثباتات تقنع فريقاً يتحزب لها، ويرفضها فريق ويتحزب ضدها. فهل لدينا رواية واحدة لمجريات مخيم نهر البارد، والمذابح هناك؟ هل لدينا رواية واحدة لشاكر العبسي؟ لتمويل الجماعات السلفية؟ للتحقيقات في جريمة اغتيال الحريري؟ في جرائم اغتيال وزراء ونواب واعلاميين، في زمن التصفيات الكبرى في لبنان؟ هل لدينا رواية واحدة إزاء ضبط واعتقال العملاء (فايز كرم نموذجاً!) هل يطمئن طرف اساسي في لبنان إلى مواقف الداخلية إزاء المقاومة؟ والف &laqascii117o;هل" اخرى، ولا جواب عليها. فلكل رواية نقيضها بالتمام، وكل رواية تستحق الاهتمام وتستجدي الاتهام معاً.
وزارة لموبقات متفشية، من ضبط المخالفات في السير، إلى العشوائيات، إلى الكسارات، إلى النافعة (وأضرارها الجسيمة) إلى مخالفات البناء، إلى الرشاوى (أوكسجين الإدارة اللبنانية ونفطها المحيي)، إلى مراكز النفوذ الطائفية، إلى مواقع آل الحريري، إلى طموحات الجنرال عون، إلى ما تريده سوريا، إلى ما تطلبه اميركا، إلى ما تتمناه المقاومة، إلى...
هذه الوزارة العظمى، كانت بحاجة إلى زياد بارود آخر، مدعوم بقوى محلية إذا وجدت، وقوى طائفية إذا اتحدت، وقوى سياسية إذا التزمت، وقوى الهية إذا... اشفقت علينا وعلى مستقبلنا.
كيف قبل زياد بارود، الذكي طبعاً، والمدرك طبعاً، ان يكون وزيراً عارياً من القوة، في وزارة تتنافس فيها مراكز القوى المحلية الطائفية، والإقليمية، والدولية؟
هذه الوزارة، اسمها اليوم، وزارة أشرف ريفي. وهو أقوى وزراء لبنان بلا وزارة. يستطيع ان يزرب وزيراً في وزارته، ويتعامل مع وزيره الخاص، عبر جعله، معقب معاملات وموقع مراسلات. انه اقوى من الجمهورية، و&laqascii117o;سنيته" حامية له.
يجوز أن يُقال في خاتمة الكلام عليها، عشتم وعاش لبنان؟..
- 'السفير'
نتنياهو لم يكتف بالإملاء
كلوفيس مقصود:
صحيح أن اللوبي &laqascii117o;الإسرائيلي" حقق إنجازاً مهماً، لكنه في الوقت نفسه، زرع بذور ردود فعل ناقدة لهذا التدخل السافر حيث تمّ توظيف منبر الكونغرس لتحدّي صلاحيات الرئيس الأميركي, للوهلة الأولى كان لنتنياهو ما كان يريد.. وأكثر. لم يكتف بأسلوب الإملاء كما توقعنا في عجالة سابقة، بل اتخذ منهج الجزم، لذا حتى المسلمات البديهية التي التزمتها سياسات الإدارات السابقة ــ كإدارتي جورج بوش وكلينتون ــ أن تكون حدود يونيو 67 مع بعض التعديلات في الأراضي التي توجد فيها مستوطنات كثيفة مقابل نسبة عادلة من أراضٍ لدولة فلسطين. هذه كانت المواقف الأميركية الغابنة، ولكن لم يتم التنبه لها من قبل مفاوضي السلطة الفلسطينية، لذا عندما أكدها الرئيس أوباما كقاعدة لدور أميركي مستأنف، صمّم رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو إلغاء نقطة انطلاق عملية السلام وفرض رفضه القاطع لما كان يعتبر مُسلمة بذريعة أن حدود يونيو 67 غير مؤهلة للدفاع عن إسرائيل، وبمعنى آخر كان هذا الرفض لتعريف حدود إسرائيل يتماشى مع امتناعها منذ قيامها عن الاعتراف بأي حدود لها حتى تستكمل مشروعها الصهيوني في استمرار التمدد الاستيطاني في الإطار الجغرافي غير المسموح تعريفه.
إن إسرائيل لا تعترف بأنها دولة تحتل أرضاً عربية، لأن ذلك يجعلها مسؤولة عن تطبيق بنود اتفاقيات جنيف الرابعة، وهكذا نجحت في التنصل منها لكون منظمة التحرير في اتفاقيات أوسلو تشترط وضوح السند القانوني قبيل الشروع في التفاوض. وبرغم أن الانتفاضة الأولى ركزت على ضرورة وضوح الأساس القانوني ــ كما أصرّ الدكتور حيدر عبد الشافي أثناء ترؤسه وفد المفاوضات في واشنطن قبيل أوسلو، جاءت أوسلو لتقنن إلى حد كبير تغييب كون إسرائيل دولة محتلة، ما أفسح المجال أمام ما هو حاصل الآن، وهو أن الرؤساء الأميركيين منذ مؤتمر مدريد، رضخوا للغموض، وهذا الالتباس بقصد أو بغير قصد، ولذا كانت النتيجة تسليم إدارة المفاوضات إلى الولايات المتحدة، لكونها بمفهوم الرئيس الراحل السادات تملك 99 في المئة من الأوراق، ما دفع إسرائيل إثر معاهدة الصلح مع مصر إلى التصرف كمغتصبة لأرض لها حق تاريخي وأمني بملكيتها، ما مكّن نتنياهو في خطابه أمام اللوبي الإسرائيلي أن يكون واضحاً في ذلك، وأكثر وضوحاً وحسماً أمام الكونغرس، وأن يجزم بأن القدس الموحدة هي العاصمة الأزلية والأبدية لـ إسرائيل اليهودية، والدولة القومية للشعب اليهودي. كما لم يتردد لثانية في رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلا خارج دولة إسرائيل غير المعروفة الحدود، كما أرسى في خطابه أمام الكونغرس شرعية التمييز العنصري لعرب 48، كما أصرّ على وجود قوات عسكرية على حدود الأردن داخل دولة فلسطين المفترضة التي يجب أن تكون منزوعة السلاح، والتي لن تقوم إذا تمّت المصالحة بين فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة، وكرر أنه يستحيل التفاوض مع حكومة يعتبرها امتداداً للقاعدة.
في هذا المضمار أعاد تأكيد كون قطاع غزة كياناً معادياً وأبدى استياءه من قرار مصر فك الحصار عن قطاع غزة وفتح معبر رفح، ما جعل مصر الثورة تستعيد تدريجياً دورها الرادع لاستباحة إسرائيل حقوق الشعب الفلسطيني، والحيلولة دون جعل سلوكها وخروقاتها المتواصلة للقوانين والقرارات الدولية منفلتة من العقاب، وتحويلها كل مساءلة عن خروقاتها لحقوق الإنسان، ومنها حق العودة، بمثابة تهديد لشرعيتها، ودليل على أن تتولى الإدارة الأميركية حمايتها، من خطر اعتراف أكثرية أعضاء الأمم المتحدة بدولة فلسطين المستقلة، فاللجوء إلى الأمم المتحدة يشكل تهديداً لكيانها كما تدّعي، وأن نجاح هذا المشروع سيشكل طوقاً على الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، ما أدّى برئيس &laqascii117o;الإيباك" إلى تحميل الرئيس أوباما مسؤولية إجهاض هذا المشروع الذي من شأنه عزل إسرائيل عالمياً، ما دعا إيهود باراك وزير الحرب الإسرائيلي إلى اعتبار سبتمبر بمثابة تسونامي ضد إسرائيل.
لن أعلق على مناظر جاهلية التصفيق المكرر لمعظم أعضاء الكونغرس التي حولها خطاب نتنياهو إلى عامل ضغط على الرئيس أوباما حتى يعود إلى حظيرة الرضوخ لعملية ابتزاز من خلال الإيحاء بأن إسرائيل حاضرة بقوة في الخريطة السياسية الأميركية وأنها، كما أوحى نتنياهو إلى الرئيس أوباما بأن أي تعديل أكان كبيراً أو طفيفاً في ما يخص مطالب إسرائيل سيكون مكلفاً. من هذا المنظور اعتبرت قيادة الحزب الجمهوري أنها حققت إنجازاً، ما دفع بعض القادة الديموقراطيين، إلى التهافت لتأييد أهداف &laqascii117o;إسرائيل" كما أعلنها نتنياهو. صحيح أن اللوبي الإسرائيلي حقق إنجازاً مهماً، لكنه في الوقت نفسه، زرع بذور ردود فعل ناقدة لهذا التدخل السافر، حيث تم توظيف منبر الكونغرس لتحدي صلاحيات الرئيس الأميركي المسؤول الأول عن السياسات الخارجية، كما ورد في افتتاحية النيويورك تايمز بالأمس، كما أثار ذلك ردود فعل تدين مسرحية الكونغرس، كما أن زيارة نتنياهو وإن حققت له نجاحاً إلا أنها استولدت غضباً وإن محدوداً إزاء تراخي الإدارة الأميركية لمحاولة نتنياهو واللوبي الإسرائيلي الهيمنة، ومن ثم الضغط على صانعي القرار والرأي، للحيلولة دون استقلاليته، خاصة في هذه المرحلة التي أبرزت حيوية الأمة العربية وتحرر شعوبها من الخوف واستهدافها الكرامة القومية والإنسانية، ما يعني أن هذه الجماهير الثائرة لن تبقى غائبة عن دورها في تحرير فلسطين عملياً، التزاماً منها بأن أمن وأمان شعب فلسطين مسؤولية قومية، بل وهي في طليعة مسؤولياتها التاريخية والمستقبلية أيضاً.
وأخيراً.. لماذا تمكن نتنياهو من أن يتباهى بإنجازات زيارته لواشنطن رغم ما تنطوي عليه من إخفاقات متوقعة؟ فالاستكبار الذي مارسه كما التحديات السافرة التي قام بها، وحماقة الاستفزازات التي شكلها وتشويهه الواضح للحقائق، وتعمّده إحراج الرئيس الأميركي، تدفعه إلى التخلي عن التباين الضئيل والانضباط بالتطابق المطلوب الذي يحمل في ثناياه احتمالات إذا أحسنا توظيفها على قيام جمهور عربي مكثف، وخطاب عربي واحد، يعيد إلى عوامل التصحيح حيوية قادرة على تفنيد عناصر ومصطلحات الترويج للحقائق، والتصدي لسياسات الإملاء التي يقوم بها أنصار وزبانية إسرائيل بمنهج خطاب عربي يقوم ليس على الردّ والتفنيد فحسب، بل على الدعوة المتواصلة لإبراز الحقائق واتباع منهج الإقناع والقيام بحملات مكثفة للتنوير.
يستتبع هذا التمكين للدعوة العربية أن نستعيد القدرة على نقد بناء للخطوات التي قام بها الرئيس أوباما، والتي كانت خاطئة، وإن كان مفترضاً أنها ناتجة عن حسن نواياه. فمثلاً كانت مطالبته لـ إسرائيل بـ تجميد موقت للاستيطان عشرة أشهر وكان على السلطة الفلسطينية عدم القبول بهذه المبادرة، لكون التجميد الموقت إقراراً بحق الاستيطان، وبالتالي بحق إسرائيل في التملك وبالتالي اختفاء سمة الاحتلال من المباحثات. ثم طالب الرئيس أوباما إسرائيل بعد انقطاع المفاوضات بثلاثة أشهر إضافية كحافز للفلسطينيين بـ العودة إلى طاولة المفاوضات ما أدى إلى رفضها من قبل نتنياهو. فتمكن الإعلان الصهيوني من أن يجعل من التجميد تنازلاً أليماً.
إن زيارة نتنياهو لواشنطن والكونغرس التي تسوقها إسرائيل إنجازاً إنما هي وَهْمٌ أكثر مما هي واقع، وَهْمٌ يبهر إلى أن يصطدم بالحقائق، فالجزم هو استباق للمساءلة.. هو قمع للاعتراض.. هو سمة لطبائع الاستبداد.. هو الحائل دون صيرورة العدالة.. وكما صار واضحاً للسلام أيضاً.