- 'النهار'
يخسر سوريا والعالم
عبد الكريم أبو النصر:
'المسؤولون الغربيون والعرب والأتراك المعنيون مباشرة بأحداث سوريا يرون أن لحظة التحوّل الكبير والجذري في هذا البلد تقترب، إذ أن المأزق الكبير الذي وقع فيه النظام يهدد وجوده، كما إن السوريين في غالبيتهم الصامتة صاروا يدعمون حركة الإحتجاج الواسعة، إستناداً الى معلومات المسؤولين الأميركيين والفرنسيين. فالرئيس بشار الأسد، على ذمة هؤلاء المسؤولين، منغلق على ذاته وإقتناعاته ورهاناته الخاطئة وهو يكابر ويحاول تجاهل وجود تحالف دولي - عربي - إقليمي ضاغط عليه ويتحرك ضده مستخدماً وسائل متنوعة من أجل دفعه الى وقف حربه على المحتجين. والأسد يواصل تطبيق إستراتيجية التحدي والمواجهة الدامية مع مواطنيه من غير أن يعرف الى أين تتجه سوريا، وهل يضطر الى السيطرة عسكرياً على مدن ومناطق عدة لوقف حركة الإحتجاج، وهل يستطيع أن يحكم ويستعيد هيبة السلطة والدولة بعد سقوط الآلاف من الضحايا وحدوث دمار وخراب واسعين، وكيف يتعامل مع المجتمعين العربي والدولي بعد الإدانات القاسية لسياساته وتوجهاته والعقوبات المفروضة عليه شخصياً؟ وهؤلاء المسؤولون على اقتناع بأن سوريا لن تعود الى سابق عهدها، وانها لن تظل خاضعة لحكم متسلط بل انها دخلت فعلاً بفضل الإحتجاجات مرحلة إنتقالية للمرة الأولى على هذا النحو منذ العام 1970، لكن ملامح هذه المرحلة الإنتقالية ومضمونها ليست واضحة الى الآن'.وأفادت مصادر ديبلوماسية أوروبية في باريس معنية بالملف السوري ان هذه المشاورات الغربية - الإقليمية تركزت على المسائل الأساسية الآتية:
أولاً - إن القيادة السورية لا تملك مشروع حل متكاملاً للأزمة الكبرى قابلاً للتطبيق وقادراً على طمأنة السوريين وتأمين مطالبهم الحيوية المشروعة وعلى تطوير أوضاعهم، لأنها تتصرف على أساس ان سوريا هي لها وحدها وان المحتجين يريدون إنتزاع البلد منها من طريق المطالبة بإصلاحات جذرية وعميقة. واختار نظام الأسد ما يعتقد انه 'الطريق السهل'، فقدم إقتراحات لإصلاحات شكلية واستخدم العنف والقمع والقتل والإعتقالات لإحباط الإنتفاضة الشعبية، وتصرف على أساس أن ليس للسوريين مطالب وحقوق سوى تلك التي تمنحهم إياها القيادة الحاكمة.
ثانياً - ليس صحيحاً القول إن الأسد رضخ لضغوط المتشددين الذين دفعوه الى استخدام الخيار العسكري - الأمني في التعامل مع المحتجين، وانه كان راغباً في الحوار والإصلاح. لقد تبين للجهات الإقليمية والدولية التي تعاملت مع الأسد أن الرئيس السوري يريد الحوار مع مؤيديه وليس مع المعارضين وانه يدعم الإصلاح الشكلي الذي يضمن بقاء النظام كما هو. لذلك عارض منذ البداية الحل السياسي الجدي للأزمة ورفض كل النصائح التي أسديت اليه لأنه خاف من المطالب الإصلاحية الجدية التي تغير، في حال تبنيها، طبيعة النظام وتركيبته وتوجهاته جذرياً وتفتح الباب أمام التداول السلمي للسلطة.
ثالثاً - أخطأت القيادة السورية إذ تصرفت على أساس أن الخيار العسكري - الأمني يحفظ وحده هيبة الدولة والسلطة وينهي التمرد الشعبي، إذ ان هذا الخيار أضعف السلطة والدولة وحول الإحتجاجات إنتفاضة شعبية واسعة، ودفع المحتجين الى المطالبة برحيل النظام وليس الإكتفاء بدعوته الى الإصلاح. وصارت القيادة السورية أسيرة الخيار العسكري - الأمني ولم تعد قادرة على التراجع عنه وقت يدفع التصعيد مزيداً من السوريين الى المشاركة في هذه المواجهة ويكثف الضغوط الدولية على نظام الأسد وتتزايد الدعوات الى رحيل الرئيس السوري.
رابعاً - أصاب المحتجون إذ اختاروا الطريق الصعب أي الإعتماد أولاً على أنفسهم وليس على الخارج والتحرك سلمياً في مواجهة الآلة الحربية الضخمة للنظام من أجل تنفيذ مطالب حيوية مشروعة يحلم بها السوريون منذ سنوات. وهذا الخيار السلمي زاد النقمة الداخلية والخارجية على النظام.
واستناداً الى ديبلوماسي أوروبي مطلع 'تصرف الأسد على أساس انه المسؤول الأول عن حماية النظام وانه مستعد لأن يخسر العالم من أجل أن يستعيد سوريا من المحتجين ويبقيها تحت سيطرته. لكن الرئيس السوري سيخسر في النهاية بلده والعالم معاً. فمجلس الأمن لم يكتف في بيانه الرئاسي بإدانة ممارسات النظام بل انه قرر، للمرة الأولى، متابعة تطورات الأوضاع في سوريا من خلال الأمين العام للأمم المتحدة مما يفتح الباب أمام إجراءات أخرى يتّخذها المجلس. لقد نقل مسؤول أميركي عن الرئيس باراك أوباما قوله: 'إن الأسد أتخذ كل القرارات والخطوات الخاطئة في التعامل مع المحتجين. وهذا صحيح. والمثل يقول: حين تقع في الحفرة، توقّف عن الحفر'.
- 'النهار'
الترابط قرينة الحرب
نبيل بومنصف:
لا تجيز الأصول القضائية ومعاييرها المعترف بها دولياً استخلاص النتائج المسبقة وإطلاقها قبل تثبيت الاتهامات وصدور الاحكام لأن المتهم يبقى بريئاً حتى ادانته. ولكن هذه القاعدة القضائية الذهبية لا تعني التقليل من الاهمية الاستثنائية للحدث المتصل بتثبيت التحقيق الدولي، للمرة الأولى، الربط بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري ومحاولات اغتيال كل من الوزيرين السابقين الياس المر ومروان حماده والزميلة مي شدياق.
ومن دون استباق المضاعفات السياسية الداخلية المرتقبة لهذا التطوّر، يكفي التركيز على دلالاته القضائية الصرفة لتبين الأبعاد والانعكاسات الشديدة الاهمية التي يكتسبها.
فهي المرة الاولى قطعا التي يثبت فيها التحقيق مبدأ ترابط جرائم الاغتيالات ومحاولات الاغتيال وتلازمها وفق ما ورد في القرار الدولي 1757 والذي جرى على اساسه توسيع صلاحيات المحكمة الدولية لتشمل المروحة الواسعة للجرائم المرتكبة بين تشرين الاول 2004 و13 كانون الاول 2005 تاريخ اغتيال الشهيد جبران تويني. ويستتبع هذا الربط تاليا، بالبعد القضائي اولا وليس بسواه ابدا، اسقاط اي تحريف لحقيقة تاريخية هي ان مجموع الجرائم المنظمة في تلك الحقبة وما تلاها من الاغتيالات التي لم يشملها بعد التحقيق الدولي شكلت فصول حرب اجرامية موصوفة لاهداف سياسية موصوفة ولو ان الاتهام لا يطاول الا الأفراد.
البعد الثاني الذي لا يقل اهمية يتمثل في ان الموجة الاولى من قرائن الربط وادلته في التحقيق. ولو انها سرية، ترسم خطا بيانيا تصاعديا امكن عبره ضم اربعة ملفات متلازمة حتى الآن مما يستتبع فرضية تلقائية وبديهية وهي تسليط الضوء على ملفات اغتيال الشهداء جورج حاوي وسمير قصير وجبران تويني التي تشملها اولا صلاحية التحقيق الدولي والمحكمة الخاصة بلبنان، كما انها تقع تحت العامل الزمني للجرم اذ حصلت جميعها في فترات متزامنة قصيرة جدا خلال عام 2005.
اما البعد الثالث فيسلط الضوء على الجرائم المتعاقبة الاخرى التي حصلت بين عامي 2006 و2008 خارج التفويض الممنوح للتحقيق والمحكمة الدوليين. وهي مروحة موازية للجرائم السبع الاولى. هذه الملفات التي تطاول اغتيال الشهداء بيار الجميل وانطوان غانم ووليد عيدو ووسام عيد وفرنسوا الحاج في مقلبها الزمني والاجرامي المتعاقب، الى جانب التفجيرات التي اودت بعشرات الشهداء الآخرين اسوة بالموجة الاولى تشكل الامتداد البديهي المبدئي والنظري والفعلي لصلاحيات المحكمة متى امكن التوصل الى قرائن اضافية تثبت هذا الربط الجهنمي.
في المنطق القضائي الصرف دائما، يبقى افتراض انكشاف حقائق غير متوقعة وغير معلبة مسبقا واجبا حتميا ومنطقيا، تماما كقرينة البراءة حتى اثبات الادانة. ولكن مع موجة الربط الاولى هذه سيغدو التشكيك في ابشع الخلاصات المسلم بها لحرب الاغتيالات اشبه بالاستحالة حتى ثبوت العكس.
- 'الأخبار'
الانتفاضة السورية: اقتراحات وحلول [3/3]
سلامة كيلة(كاتب عربي):
لا بد من صياغة الشعارات التي يطلقها المحتجون السوريون في الشوارع، أي تلك التي تكسو شعار إسقاط النظام، بأسس النظام البديل. المسألة هنا ليست عبثية، فالتعبير عن تلك الأهداف من خلال الشعارات سيفرض إنهاء التشويش الذي يُلقى على الثورة، سواء من خلال تحويلها إلى صراع على السلطة فقط، لتكون ثورة من أجل طرد فئة طائفية لمصلحة الإخوان المسلمين والأصولية الإسلامية، أو من خلال عدم لمسها لمشكلات فئات مفقرة لم ترَ في الشعارات ما يقنعها بأنّها معنية بكلّ ذلك الحراك. لقد أثارت بعض الشعارات، والكثير من الإعلام &laqascii117o;الخارجي"، تحسسات لدى فئات اجتماعية، بعضها من طوائف وأديان أخرى غير الإسلام، وبعضها علماني، وأفضى تغييب المطالب الأساسية للطبقات الشعبية إلى تحوّل ذلك إلى خوف من لعب النظام على تعزيزه من خلال العمل على تخويف الطوائف من أصولية إسلامية سلفية &laqascii117o;زاحفة"، ومن مجموعات إرهابية سلفية. وإذا كانت هذه الفئات لم تكسر حاجز الخوف بعد فإنّ فهم أنّ الثورة تهدف إلى تغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي عميق، سيفتح الأفق لانخراطها في الثورة. فقد تصاعد التخويف، وازداد الضغط على الطوائف، بهدف عدم الانخراط في الثورة، وللدفاع عن النظام، وجرى استخدام الكثير من الديماغوجيا لتكريس الطابع &laqascii117o;الأصولي" للثورة، وبالتالي لا بد من التركيز على توضيح الشعارات التي تعبّر عن الأهداف الحقيقية. فالإسقاط بات شعاراً واضحاً، لكن لمصلحة أي بديل؟ لمصلحة العشائر والحرائر والدولة الدينية؟ هذا ما يجب أن يتوضّح من خلال الشعارات لكي يكون واضحاً أنّ البديل هو الدولة المدنية الديموقراطية التي تتضمن حلّ المشكلات المجتمعية، وتستطيع تحقيق مطالب الطبقات الشعبية.
وإذا كانت الظروف الداخلية هي التي يجري تناولها في مواجهة السلطة، إذ إنّ التفارق الطبقي الذي نشأ يفرض تمركز التناقض هنا، فإنّ المسألة الوطنية تدخل في الديماغوجيا التي تواجه الثورة، وخصوصاً أنّ النظام يصنّف بأنّه &laqascii117o;ممانع"، وفي تحالف مع قوى تصارع الإمبريالية والدولة الصهيونية (إيران، حزب الله، وحماس). لكن كان واضحاً موقف الثورة من أميركا في الشعارات التي طرحت، وكذلك في تلك التي تناولت الجولان. ولا شك في أنّ الطبقات الشعبية تعي الدور الإمبريالي، وتتلمس أخطار التدخل الإمبريالي، وتتوق لتحرير الجولان (وفلسطين)، ولقد دعمت المقاومة ولا تزال. ويرى الشعب أنّ مآسينا نتاج السيطرة الإمبريالية والوجود الصهيوني، ورأى نتائج الاحتلال الأميركي للعراق.
لكن ظهور الثورة بمظهر الذي يريد إسقاط نظام &laqascii117o;ممانع" يوجد تشويشاً ما، يغذي الدعاية التي تقول بأنّ خلف الثورة &laqascii117o;مؤامرة إمبريالية". ولقد جرى اللعب على هذا الوتر في سوريا، وأكثر في بعض البلدان العربية. وإذا كان كلّ من يلعبون على هذا الوتر لا يريدون رؤية الوضع الاقتصادي الذي أوجدته الفئة المسيطرة، ويتمسكون بوجود تعارض معيّن فرض الاختلاف مع الإمبريالية الأميركية، وكان يدفع السلطة إلى البحث الحثيث عن نقاط التفاهم، حتى وإنْ جاء عبر الدولة الصهيونية، فإنّ التعبير عن الموقف الوطني للطبقات الشعبية هو أمر ضروري، لا رداً على هذا الخطاب الديماغوجي، بل ليكون واضحاً أنّ التغيير الذي يهدف إلى تغيير الوضعية الاقتصادية التي تشكلت لن يتحقق إلا في الصراع مع الإمبريالية.
لذلك، لا بد من التوكيد على المسألة الوطنية في الشعارات، خصوصاً أنّ الجيش بدل أن يحرر الجولان بات يحرر المدن من الشعب. لا بد من أن يكون واضحاً أنّنا لا نريد التغيير من أجل نظام عميل، أو من خلال قوى إمبريالية، بل نريد تغييراً وطنياً. نريد أن تنكسر السلطة من خلال صلابة الشعب، وليس من خلال تدخل إمبريالي. إذ إنّ تحقيق مطالب الطبقات الشعبية يفترض الصراع مع الإمبريالية، التي تصوغ العالم وفق مصالحها فلا تبقي شيئاً للشعوب، ولا تحسب مصير الشعوب أساساً. كما أنّ المشكلة التي أفضت إلى الإفقار، نشأت منذ أن تحقق الانفتاح على النمط الإمبريالي، والتمفصل معه، وتوفير مجال كبير للنهب الذي تقوم به طغم مالية. وبالتالي، نحن نريد نظاماً قادراً على تحرير الجولان، ومواجهة الإمبريالية في كل الوطن العربي، ويقطع مع النمط الإمبريالي لتحقيق التطور والحداثة.
إذن، لا بد من برنامج يطرح مطالب الطبقات الشعبية، ويشير إلى النظام البديل الذي تسعى إلى تحقيقه. ولا بد من أن تتأسس الشعارات على هذه المطالب لكي توضحها، وليكون المطلوب كذلك تنظيم نشاط الانتفاضة، وتوحيد الحراك بما يعطيه القوة، ويسمح باستمراريته. ولأنّ الحراك بدأ عفوياً فقد كان دون تنظيم، ثم بُدئ في تشكيل تنسيقيات محلية ومناطقية. لكن السرية التي تحكم النشاط في ظل القمع الوحشي فرضت أن يكون التعارف بين التنسيقيات بطيئاً، أو يمرّ من خلال &laqascii117o;مفاصل" لها رؤياتها، مما أوجد إشكالات في التجربة، جعلت التنسيق دون مستوى الفعل، ويظهر أنّه يُستغل لمصالح قوى بذاتها، رغم الميل العام لدى الشباب إلى الابتعاد عن القوى السياسية. لذلك لا يزال التنسيق دون المستوى، ويظهر فارقاً بين الفعل المحلي، والشباب الذي ينظمه، والتنسيقيات التي يبدو أنّها تمثل نخباً لها &laqascii117o;أيديولوجياتها". ورغم أنّها تساعد على تنظيم الحراك وتطوير تواصله يميل البعض منها إلى تجيير هذا النشاط لسياسات &laqascii117o;حزبية"، أو حتى فئات وسطى لها مصالحها. فالسريّة هنا تسمح بالتشويش وبعمليات استغلال، وتجيير، وربما يفضي ذلك إلى توترات مع التنسيقيات المحلية التي تعبّر حقيقة عن الحراك، وتعي بحسها السليم ما تريد تهديمه، وتشير إلى ما تريد.
رغم كل ذلك، لا بد من تطوير التنسيقيات. لا بد من إيجاد تنسيقيات في كلّ منطقة وحي ومدينة. كذلك يجب إيجاد الصيغ التي تؤسس لنشوء هيئة عليا تنظم العلاقة بين كل تلك التنسيقيات. طبعاً تقف السرية عائقاً أمام كل ذلك، لأنه ليس من الممكن ارتقاء التنظيم دون المعرفة المباشرة بين الأفراد.
من الضروري اليوم:
1) التوافق على الأهداف العامة للانتفاضة. الأهداف التي تعبّر عن الطبقات المشاركة فيها وليس عن النخب والفئات الوسطى فقط. كذلك فإنّ الأهداف الاقتصادية المطلبية أساسية، لأنّها هي مطالب الطبقات الشعبية المباشرة والأكثر أهمية، ويوصل حلّها وحده إلى استقرار مجتمعي. هنا لا بد من التركيز على البطالة، وتدني الأجور وغياب الضمان الاجتماعي والصحي، وانهيار التعليم. كذلك يجب التركيز على النهب والفساد وتمركز الثروة بيد أقلية ضئيلة وإفقار الطبقات الشعبية، وعلى انهيار الزراعة وتدمير الصناعات، وعلى السيطرة على الأرض وتحويلها إلى عقارات، وعلى الأسعار التي باتت خارج مقدرة الشعب. والخدمات السيئة ومرتفعة السعر.
كذلك لا بد من التركيز على طبيعة الدولة بوصفها دولة مدنية ديموقراطية، وهو المطلب العام بين كل المشاركين، لكنّه غير كاف لتصاعد الانتفاضة، وغير كاف بالنسبة إلى الطبقات الشعبية. لا بد من التأكيد على تحقيق أقصى الدمقرطة في بنية الدولة الجديدة، التي تعطي للطبقات الشعبية أقصى الحرية في التعبير عن مصالحها، وفي الدفاع عنها، والسعي إلى تحقيقها. دولة تنطلق من مبدأ المواطنة الذي يعني المساواة بين أفراد الشعب. ومن أنّ الشعب هو مصدر القوانين، والحق في التظاهر والإضراب وكل أشكال الاحتجاج، الحق في تكوين نقابات مستقلة تدافع عن مصالح أفرادها، وحق الأحزاب دون قيود وقوانين تقيّد هذا الحق.
ثم لا بد من أن يكون واضحاً أنّنا لا نريد التغيير فقط وبأي ثمن، بل نريد التغيير من أجل وطن حرّ مستقل، ولذلك، لا بد من تحديد أنّ الجولان يجب أن يتحرر، وأنّه يجب إعادة بناء الجيش لكي يكون قادراً على ذلك. ثم تحديد أنّ سوريا ليست محايدة في الصراع من أجل فلسطين، أو يمكن أن تكون مع قوى النهب العالمي ضد الشعوب. بالتالي فهي حتماً ضد الإمبريالية والصهيونية، وهي مع التحرر العربي العام.
2) لا بد من تحديد الشعارات انطلاقاً من هذه المطالب وعدم الاكتفاء بـ&laqascii117o;ارحل"، أو &laqascii117o;الشعب يريد إسقاط النظام"، أو &laqascii117o;الحرية"، أو التعبيرات الدينية المعهودة. فليست المطالبة بالعمل أو الأجر تقزيماً للشعار الكبير الذي يتعلق بإسقاط النظام، بل هي تحديد وإشارة لما يجب أن يقوم به النظام الجديد، وهي في الوقت ذاته، توضيح لقطاعات مجتمعية لم تشارك بعد، بأنّ المسألة تخصها مباشرة لأنّها تطرح مطلبها. فما يحصل ليس &laqascii117o;حقداً" على نظام، بل مسألة بديل يحقق مصالح طبقات وفئات أوسع، ويسقط النهب والاحتكار.
لا بد من التركيز على البطالة والأجور، والتعليم والصحة، والزراعة والوظائف وغيرها. لا ينبغي التخوّف من أن يؤدي طرح ذلك إلى إجهاض الانتفاضة، لأنّ النظام غير قادر على تحقيق تلك المطالب، فهو عاجز عن تحقيقها، ولو كانت لديه القدرة لفعلها منذ زمن، فقد نهب الاقتصاد وصاغه بما لا يسمح بأن يعيد تقديم الحلول للمشكلات الاقتصادية كلّها، لأنّ الحل يقوم على حساب الفئات التي تحكم ذاتها. أزمة السلطة تتمظهر في الاقتصاد أكثر مما تتمظهر في الدمقرطة، لأنّ الدمقرطة سوف تفتح باب المحاسبة على ما نهب، وتسمح بالتركيز على الفارق الطبقي الهائل. ولهذا يمكن أن تقدم &laqascii117o;تنازلات ديموقراطية"، لكنّها عاجزة عن تقديم حلول اقتصادية حقيقية.
3) ترتبط تلك المسألة بدور الفئات المسيسة، ولهذا لا بد من أن تقوم بدورها ذاك. إنّ تدمير التسييس الذي قام به النظام في العقود الماضية، من خلال القمع والاعتقال الطويل، جعل الطبقات الشعبية التي تنتفض اليوم دون &laqascii117o;مصطلحات سياسية"، وبالتالي، دون مقدرة على التعبير عن المطالب بنحو محدَّد واضح، مما جعل التعبيرات تنهل من المخزون الثقافي &laqascii117o;التقليدي"، أو تبتعد عن &laqascii117o;السياسة". وإذا كان هناك من رأى أنّ ذلك هو نتيجة &laqascii117o;وعي سياسي أصولي"، فإنّ المسألة تتعلق بنقص في الوعي السياسي، أكثر من أي شيء آخر.
4) لا بد من جهد لكسب الفئات التي لم تنضم بعد، ولا تزال مترددة، خصوصاً أنّ سبب عدم انضمام كثير منها ليس وضعها المعيشي، بل تخوفها من البديل، مع إشارة بعض وسائل الإعلام إلى طابع أصولي للانتفاضة. يفرض ذلك العمل في شقين، الأول: تأكيد مطالب المفقرين، وثانياً: مواجهة كلّ المنطق الطائفي والأصولي الذي يتعمم من خلال الإعلام، وفي تصريحات بعض ممن يرى أنّه من الثورة.
5) بذل جهد أكبر لتنظيم التنسيقيات وتحديد طبيعة نشاطها، وتحقيق الترابط في ما بينها، وعدم التشويش من خلال &laqascii117o;اختراع" أسماء لتنسيقيات عامة لا تعبّر عما يجري في الواقع، ووقف الانقسامات التي أوجدتها الخلافات السياسية بين أطراف المعارضة.
صيرورة الانتفاضة واحتمالات التغيير
في تونس ومصر، تقدم الجيش لطرد الرئيس، وادعاء تبنّي مطالب الشعب والعمل على تحقيقها. في اليمن، لم يتحرك الجيش، واستطاع الشعب أن يحتل الشوارع، وأن يبقى معتصماً حتى يسقط النظام. ورغم انشقاق الجيش، ثم محاولة قتل الرئيس، ظهر أنّ التغيير يطرح في صيغتين: من &laqascii117o;السلطة" بدعم أميركي، كما في تونس ومصر، فتعاد صياغة السلطة على الأسس ذاتها، وربما بالتفاهم مع بعض الأحزاب. ومن الشباب الذي طلب تشكيل مجلس انتقالي. اما في ليبيا، فقد تشكّل مجلس انتقالي، لكي يكون هو السلطة بعد رحيل القذافي.
كيف يمكن أن تتطور الانتفاضة في سوريا؟ وكيف يمكن أن يجري التغيير؟
ربما لن يكون التغيير مثل تونس ومصر، ولا مثل اليمن أو ليبيا، ويمكن أن يكون خليطاً من كل ذلك. فقد استخدمت السلطة العنف والحرب كما في ليبيا، وبدأ &laqascii117o;تشقق" محدود في الجيش، كما في اليمن، لكن لا يمكننا أن نتجاهل إمكانية الخيار التونسي/ المصري. فالصراع لم يتحوّل إلى حرب كما جرى في ليبيا، وإمكانية أن يفرض الشباب سيطرتهم على الشارع، كما في اليمن، تبدو صعبة، وليس من الممكن أن يحدث التغيير من دون تحوّل في السلطة عبر الجيش، كما في تونس ومصر.
الواضح أنّ الانتفاضة تتوسع وتتجذر، ولا يبدو أنّ كلّ قوة السلطة قادرة على وقفها أو سحقها. الشباب والطبقات الشعبية في وضع لم يعد يسمح لهم بالتراجع، لأنّهم تحركوا بعد انتهاء خياراتهم الأخرى، وبالتالي لا تراجع قبل تحقيق التغيير وفق &laqascii117o;الشعب يريد إسقاط النظام". وقوة السلطة تتآكل كل يوم، ووضع الدولة الاقتصادي يتآكل كذلك. لهذا فإنّ ميزان القوى بات يميل لمصلحة الانتفاضة، بعدما تكسرت قوى السلطة ودعايتها التي هدفت إلى التخويف والتفكيك، وبات واضحاً أنّ الصراع ليس طائفياً، ولا من أجل الإتيان بسلطة أخرى فقط، بل هو صراع نتج من التفارق الطبقي الهائل الذي بات يحكم البلد، وجعل هذه النسبة العالية من الطبقات الشعبية في وضع التهميش.
لقد سقط منطق القوة أمام صلابة وقوة الطبقات الشعبية. وسقط الخطاب التخويفي من السلفية والطائفية، أمام الممارسة اليومية من قبل الطبقات الشعبية التي لم تُظهر أي ميل طائفي أو ميل لنشوء دولة دينية (سلفية). يتركز الاتجاه العام اليوم على مشاركة كل الطبقات الشعبية بغض النظر عن طابعها &laqascii117o;الطائفي أو الديني"، لأنّ المسألة لا تكمن هنا، بل في الوضع المزري الذي أوجدته المافيا الحاكمة.
يشير ذلك إلى عدم إمكانية نشوء صراع طائفي، كما تهذي بعض النخب، أو دفعٍ لحدوث صراع طائفي من أجل تدخل إمبريالي. وكذلك لا يشير إلى إمكانية ألّا تفرض قوى الانتفاضة الحسم، وبالتالي الوقوع في حالة من الاهتلاك المتبادل، بل إلى تطور الانتفاضة وضعف السلطة. وإذا لم يكن ممكناً للانتفاضة أن تنتصر فتفرض بديلها، كما يحاول شباب اليمن، فإنّ تطورها سيفرض ضعف السلطة وتفككها، لأنّها ستكون إزاء خيارين: إما تصعيد العنف والتدمير والقتل في وضع دولي بات يشير إلى إمكانية التدخل (ربما عبر تركيا)، وهذا يعني نهاية السلطة ومصيراً أسود لأفرادها عموماً. أو تفكك السلطة وتحوّل قطاع منها إلى قبول &laqascii117o;المطالب الشعبية" كما جرى في تونس ومصر، وبالتالي فتح أفق لتعديل وضعها. وهنا ربما تتبع الطريق المصري، أو ربما التونسي، لكن في كلّ الأحوال، سيصار إلى التخلي عن طابع السلطة الراهن، والدعوة إلى بناء دولة &laqascii117o;ديموقراطية"، والدخول في مرحلة انتقالية يتحكم فيها هذا القطاع، وربما بالتنسيق مع قوى معارضة.
في كل الأحوال، لن يخرج البديل السوري عن ذلك كما أظن. فانتفاضة الشعب ستنعكس على الجيش، وضغطها سيفرض تفكك &laqascii117o;النواة الصلبة" في السلطة، وكلاهما سيفرضان تحقيق تغيير &laqascii117o;سلطوي"، لكنّه يفتح الأفق لديموقراطية ما، دون تعديل جدّي في الوضع الاقتصادي، كما حدث في تونس ومصر، وما يمكن أن يحدث في اليمن. وهو الأمر الذي سيفرض استمرار الصراع لتغيير عميق، وليس من أجل تغيير شكل السلطة جزئياً، ومشاركة أحزاب لا تحمل برنامجاً يتضمن إمكانية حل مشكلات الطبقات الشعبية والاقتصاد عموماً.
بالتالي، سوف ينفتح الأفق لمسار ديموقراطي، ربما مشوش ومقزّم، ومنضبط، لكنّه سيفتح على إمكانية إعادة بناء الأحزاب السياسية التي تعبّر عن الطبقات الشعبية، وخصوصاً العمال والفلاحين الفقراء، الذين سيكون أمامهم دور أساس بعدئذ، لأنّهم القادرون على تحقيق التغيير الجذري، المتعلق بتغيير النمط الاقتصادي الذي تكوّن بالترابط مع النمط الإمبريالي.
في هذا الوضع لا بد من التأكيد أنّ المطلوب واقعياً هو التالي:
أولاً: تطوير الانتفاضة وتوسيعها، لكي تشمل الطبقات الشعبية كلّها خصوصاً، وبالتالي السيطرة على المدن والبلدات والمناطق. وهذا يعني كسر قوة السلطة عبر الحراك المستمر، اليومي. فليس من أفق واضح دون ذلك، إلا إذا تفككت السلطة أسرع من ذلك، نتيجة تأثر بنية الأجهزة والجيش بالحراك، وشعور أطراف في السلطة بأنّ لا خيار سوى بالتغيير المنضبط. إنّ توسيع الانتفاضة هو الهدف الآن، وهو الضرورة.
ثانياً: تنظيم الانتفاضة عبر تطوير التنسيقيات وتكوينها في بنية متماسكة، وتحويلها إلى قيادة فعلية للحراك.
ثالثاً: يجب الدفع نحو تحقيق ديموقراطية قصوى، من خلال فرض مرحلة انتقالية من قوى فعلية يحددها المجلس العام، أو من خلال الضغط على من يحاول أن يغيّر من قوى السلطة. المهم هنا، وفي ظل موازين القوى الطبقية القائمة، هو ان تكون الديموقراطية أساساً لنضال الطبقات الشعبية، من أجل تحقيق مصالحها. إنّ غياب القوى السياسية المعبّرة عن تلك الطبقات، يمثّل نقطة ضعف كبيرة في سياق الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك. ولذلك لا بد من التركيز على أقصى ما يمكن من دمقرطة. ليس من السهل تحقيق ذلك، لأنّنا في كل الأحوال الممكنة للتغيير سنصطدم بقوى سياسية ليست ديموقراطية، أو تريد الالتفاف على الانتفاضة للحفاظ على مصالحها.
- 'الأخبار'
الاستبداد والثورة: عودة الكواكبي
هشام صفي الدين:
في أواخر 1899، غادر القاضي والسياسي والصحافي عبد الرحمن الكواكبي بلاد الشام، خلسة، الى مصر. كان مهموم الفؤاد مجروح الكبرياء، بعدما بلغ الخلاف بينه وبين ولاة السلطنة العثمانية في حلب أشده. لم يمض على رحيله ثلاثة أعوام ونيف، حتى توفي في القاهرة عن 47 عاماً، في ظروف غامضة، على الأرجح مسموماً. تخلصت السلطنة من مشاكس سياسي ومحرض فكري، لكنّها لم تستطع أن تتخلص من إرث الرجل. بعد انقضاء أكثر من مائة عام على رحيله، تستحضر الانتفاضات العربية الراهنة، وخاصة تلك المشتعلة في موطنه سوريا، سيرة الكواكبي وكتاباته عن الاستبداد. فمرور الزمن عدّل في آليات الاستبداد، لكنّه لم يغيّر الكثير من جوهره، تماماً كما لم تبدل الرأسمالية التي قلبت المجتمع الإنساني رأساً على عقب، ماهية العلاقة بين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف (علاقة استغلالية). والكثير مما كتبه الكواكبي يلقي الضوء على ما تعانيه الانتفاضات العربية من قمع أو مزايدة أو انحراف عن مسارها الأساس. ولعل المسافة التاريخية التي تفصلنا عنه، تسمح بقراءته دون أن يكون الشك ثالثنا، ودون أن يتحوّل السجال حول أفكاره وحول ما للانتفاضات وما عليها، الى حفلة سباب وابتذال وتخوين، وهو ما يضر بالانتفاضات، ويخدم أعداءها في الداخل والخارج.
تقرأ كتاب الكواكبي &laqascii117o;طبائع الاستبداد"، فتشعر وكأنّه يحدثك عن الحكام العرب المعاصرين (الذين خُلعوا والذين لا يزالون يكابرون). فالمستبد، كما ينقل لنا الكواكبي عن الحكماء، عدو للحق والحرية &laqascii117o;يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد"، ويتحكم في أمور الناس بإرادته لا بإرادتهم، وبحسب أهوائه لا طبقاً لشريعتهم، ويدرك أنّه الغاصب المعتدي، &laqascii117o;فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدّها عن النطق بالحرية والتداعي لمطالبته".
أدرك الكواكبي، كما تدرك الشعوب العربية اليوم، أنّ خوف المستبد من نقمة شعبه أشد من خوفهم منه، فخوفه نابع من إدراكه لما يستحقه من عقاب على أيديهم، بينما خوفهم ناشئ عن جهل لما يملكون من حق وحيلة. والجهل والجند المنظمة هما سلاحا المستبد الأساسيان، وهو ما يظهر جليّاً في الانتفاضات الحالية. فقد خلعت الشعوب العربية رداء الخوف، وحيث لم يستطع المستبد الاستعانة بجنده كما يحلو له (مصر وتونس، ونوعاً ما في اليمن)، لم يصمد طويلاً. أما في حالة اصطفاف العسكر الى جانبه (سوريا والبحرين، ونوعاً ما في ليبيا) فلا يزال المستبد يكابر، والشعب يناضل، والانتفاضات تتعثر، وتواجه المؤامرة والمصادرة من شتى الأطراف.
لم يكتف الكواكبي بالحديث عن شخص الحاكم المستبد وخصائصه، بل أسهب في وصف &laqascii117o;المجتمع المستبد"، عبر شرح شبكة العلاقات الوثيقة بين الاستبداد من جهة، والعلم والدين والمال والتربية والأخلاق، من جهة أخرى. تشعّب تلك العلاقات يفسر صعوبة التخلص من الاستبداد، رغم التخلص من رأسه أو بعض رموزه، كما هي الحال الآن في كلّ الأقطار العربية المنتفضة التي تواجه ثورات مضادة محلية، أو من صنع الخارج. ويلعب المال دوراً محورياً في طول أمد الاستبداد وتجذره (اسألوا آل سعود وأعوانهم). والعلاقة بين المال والاستبداد معقدة ومتشعبة. الاستبداد يجعل المال عرضة للسلب على يد المستبد وأعوانه غصباً أو بحجج باطلة وعلى يد اللصوص والمحتالين المستظلين بأمان الإدارة الإستبدادية. والأغنياء بحسب الكواكبي أعداء للاستبداد فكراً، لكنّهم يخدمون حكمه عملاً، فهم يتذمرون إن ذلّهم ويحنّون إن استدرّهم. وقد تكون ثروة بعض الأغنياء في ظلّ الحكومات العادلة أو غير المستبدة، أكثر ضرراً منها في ظل الاستبداد، فالأغنياء في الأولى &laqascii117o;يصرفون قوّتهم المالية في إفساد أخلاق الناس وإخلال المساواة وإيجاد الاستبداد، أما الأغنياء في الحكومات المستبدة فيصرفون ثروتهم في الأبهة والتعاظم إرهاباً للناس وتعويضاً للسفالة الحقيقية" (يجمع أمراء الطوائف وسلاطين الحريرية في لبنان بين النموذجين ـــــ من قال لا استبداد في لبنان). والفقر في الأمّة المستبدة لا تظهر آثاره واضحة جليّة، إلا فجأة، عندما يوشك الاستبداد على الاندثار. أما الفقراء، فيتحبب المستبد إليهم ببعض الأعمال ظاهرها الرأفة، كي &laqascii117o;يغصب قلوبهم التي لا يملكون غيرها". ويحذر الكواكبي من استتباب الخوف في تلك القلوب الى درجة ان يتوهم أصحابها &laqascii117o;أنّ داخل رؤوسهم جواسيس عليهم". وكأنّه يصف حالنا في ظل رهاب &laqascii117o;الاندساس" الذي يعصف اليوم ـــــ وإن خلافاً لرأي الكواكبي ـــــ بعقول النخب، أكثر مما تؤرّق ضمائر الفقراء الذين لا لبس في انتماء غالبيتهم، بعقلهم وقلبهم ودمائهم، لمعسكر الانتفاضات.
وكما يُفصّل الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والمال، كذلك يُبيّن تلازم الاستبداد السياسي مع الاستبداد الديني، دون الوقوع ـــــ كما يفعل بعض غلاة العلمانية ـــــ في التعميم والتسطيح للدين، أو التهويل من كل ما يرمز إليه، أو ينهل من رموزه وخطابه. وخلافاً لمحمد عبده والأفغاني وغيرهما من أعلام النهضة، لم يتوقف الكواكبي كثيراً عند إشكالية الحداثة والدين، وهي الإشكالية التي سوّق لها الفكر الغربي الاستشراقي على أنّها العائق الأساس الذي يحول دون &laqascii117o;رقيّ" العرب والمسلمين، ويحاكي الكثير من مثقفي العالم العربي الغرب في إعادة إنتاجها. وقد باتت تلك الإشكالية لازمة كل من يريد بقاء الأنظمة المستبدة، بحجة درء خطر السلفية وحجة القوى الدينية الليبرالية، لإخافة الناس من مشروع الدولة المدنية العادلة. لقد أدرك الكواكبي إذن أنّ الإشكالية الجوهرية هي إشكالية السلطة السياسية بكل جوانبها. هاجم الكواكبي الفقهاء لا لكونهم فقهاء فحسب، بل لادعائهم احتكار حق المعرفة والإفتاء، ولتلهّيهم بصغائر المعصيات، والسكوت عن الظلم والابتعاد عن تطبيق العدل بمعناه الحقيقي، أي المساواة بين الناس على مختلف الصعد. قوة رجال الدين إذن كقوة المال وقوة السلاح وغيرها من أدوات السلطة، تحتمل العدل وتحتمل الاستبداد، لا تميل الى الأولى وترتدع عن الثانية سوى بجهد الرعية ومحاسبتها. فالكواكبي يدين الاستبداد دون أن يقع في الفخ الاستشراقي الذي ألصق الاستبداد بشعوب الشرق أو بثقافتهم الدينية بالمطلق. كل مجتمع عرضة للاستبداد في أي زمن، ما لم تُحارب أسبابه دون كلل. وعلى أي رعية أن تكون مسؤولة عن أعمال حكامها وأن تكون كالخيل &laqascii117o;إن خُدمت خدمت وإن ضُربت شرست"، فالأُمّة &laqascii117o;التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية".
لكن الكواكبي رغم مناداته بالتخلص من الاستبداد لا يلبث أن ينهى عن مقاومته بالعنف أو مقاومته قبل تهيئة ما يُستبدل به. فلا معنى برأيه لمقاومة مستبد بجلب مستبد آخر، ولو عبر نيل الحرية عرضاً، لأنّ الحرية حسب قوله لا تلبث أن تنقلب الى &laqascii117o;فوضى" و&laqascii117o;استبداد مشوّش أشد وطأة". ويبدي الكواكبي تشاؤماً حول الثورة لأنّها &laqascii117o;غالباً تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً". وقد يُعزى هذا الحذر الشديد لدى الكواكبي من الثورات الى فقدان ثقته بعوام الناس الذين برأيه لا يثورون غاضبين في وجه المستبد غالباً، إلا في رد فعل على أحوال مهيجة فورية، كمشهد دموي يفتك به المستبد بمظلوم أو عند إهانة المستبد المتمادية لدين العامة، أو موالاته الشديدة لمن تعتبره الأمة عدوّاً لها. ويرى الكواكبي أنّ التوعية السياسية هي الحجر الأساس الذي يبدأ بفرد وينتهي بأن يشمل الأمة التي تصبح حينها فقط مستعدة وقادرة على التغلب على الاستبداد، وقد يكون في ذلك الكثير من المثالية والميل الى المحافظة في العمل السياسي. الكواكبي نفسه هادن النظام العثماني ولم يقطع صلته به نهائياً، حتى مرحلة متأخرة من حياته. وقد تبوّأ مناصب عدّة قبل القطيعة، فعُيّن في فترات مختلفة رئيساً لبلدية حلب، ورئيس قلم المحضرين في الولاية، ومديراً فخرياً للمطبعة الرسمية، وعضواً في محكمة حلب التجارية، ثم رئيساً لغرفة التجارة فيها. وتشير مضامين ثلاث برقيات بعث بها الكواكبي الى اسطنبول منشورة في كتاب أعماله الكاملة (مركز دراسات الوحدة العربية، 2007) أنّه كان يشتكي من ظلم الوالي في حلب لشخصه، ومن عمل الوالي على طرد حراس محاصيله الزراعية، وسلب منتجاته وماشيته. ولم يذكر الكواكبي أي مظالم عامة في معرض شكواه، أي انّ لُبّ الصراع بينه وبين الوالي ربما كان حول مكانة الكواكبي الاقتصادية والاجتماعية ـــــ وكم من الذين يهتفون الآن بحياة الثورات العربية يمارسون ما شابه ذلك. لا يمكن أيضاً إغفال وقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني خلال فترة مكوث الكواكبي فيها، وقيامه برحلة بحرية قبالة شواطئ أفريقيا والجزيرة العربية في ضيافة القنصل الإيطالي. وهي معطيات لا بد أنّ السلطنة استخدمتها لاتهامه بالعمالة والارتهان للغرب، بينما القناصلة الأوروبيون يسرحون ويمرحون في اسطنبول (كم هي الحال شبيهة اليوم). والكواكبي مدح في مقدمة كتاب &laqascii117o;طبائع الاستبداد" حاكم مصر عباس حلمي &laqascii117o;سَمِيّ عمّ النبي الناشر لواء الأمن على أكناف ملكه"، وكأنّه ينافي ما يقوله في كلّ كتابه عن عدم التملق للمستبد، واستبدال واحد بآخر. ذلك التناقض بين القول والعمل ليس حكراً على الكواكبي وحسب، بل يكاد ينطبق على العديد من مثقفي وناشطي السياسة اليوم. ولا ينبغي وضع ذلك التناقض خارج السياق المعقد لمسيرة الرجل والمخاطر التي كانت تحدق به. الأجدى الإشارة الى ما له وما عليه، بعيداً عن التبسيط، وقراءة ما كتبه عن الاستبداد وإعادة تفسيره ونقده في ضوء الانتفاضات العربية الحالية، كي لا يطول بنا أمد الاستبداد أكثر مما طال، وكي لا تقع تلك الثورات في المخاطر التي تحدّث عنها، إن زال الاستبداد. الثورات التي تنتصر هي تلك التي تتعلم من التاريخ، لكنّها تمنعه من أن يعيد نفسه.
ـ 'اللواء'
'فورن بوليسي': حزب الله وإسرائيل يستعدان للحرب
في الـ 30 من يوليو 2006 أسقطت طائرة إسرائيلية قذائفها المهلكة على مبنى سكني في بلدة قانا جنوب لبنان، خلال العمليات العسكرية ضد <حزب الله> عام 2006 وأدى القصف الجوي الى دفن عائلتين لبنانيتين تحت الانقاض، وقتل 28 مدنياً بمن فيهم 16 طفلاً&bascii117ll; وذكّر هذا الهجوم بالقصف الذي شنته إسرائيل عام 1996 على مجمع قانا التابع للأمم المتحدة، إذ قتل 106 من المدنيين اللبنانيين وجرح 116 آخرين&bascii117ll; وكما هي الحال في المرة الأولى، أعرب الإسرائيليون عن أسفهم في المرة الثانية واعتبروا أن ما حدث خطأ مأساوي&bascii117ll; ونتيجة غضب دول العالم الناجم عن قتل المدنيين، توقفت القوات الإسرائيلية عن القصف لمدة يومين، للسماح بإجراء تحقيق حول الحادث&bascii117ll; وانتهت حرب عام 2006 بقرار من الامم المتحدة، طالب بدخول الجيش اللبناني إلى الجنوب، إلى جانب قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة&bascii117ll; ومنذ نهاية هذه الحرب شهدت الحدود بين اسرائيل ولبنان هدوءاً نادراً، على طول الحدود بين البلدين&bascii117ll; لكن كلا الجانبين يقظ تماماً تحسباً من اندلاع هذه الحرب من جديد، وكل منهم يطور اسلحته وتكتيكاته تحسبا للجولة المقبلة&bascii117ll;فهل تقع الحرب المقبلة فعلاً؟ نحن نعتقد انها ستقع فعلاً، وانها ستكون اضخم وأكثر دموية، ونستند في حكمنا هذا إلى بحث ميداني شامل وموسع في لبنان، يشمل العمليات العسكرية لكلا الطرفين، وتحليل تقييمات كل احتمال، وطبيعة الحرب المستقبلية&bascii117ll; وخلال السنوات الخمس الماضية قمنا بلقاء العشرات من <حزب الله> وتحدثنا معهم بمن فيهم قادة سياسيون ومستشارون وخبراء معلوماتية وجنود&bascii117ll;وعلى الرغم من ان أمين <حزب الله> السيد حسن نصر الله اعلن أن حرب عام 2006 كانت <النصر الإلهي>، إلا أن منظمته تعرضت لخسائر فادحة خلال القتال، كما ان الاتفاق على وقف اطلاق النار كلف الحزب بنيته التحتية برمتها، واستقلاليته في جنوب لبنان&bascii117ll; وخلال السنوات الخمس التي تلت توقف القتال، قام <حزب الله> بزيادة كوادره، وشكل وحدات من طوائف متعددة، وحصل أيضا على صواريخ بعيدة المدى مزودة بأنظمة تصويب دقيقة، والتي تمكنه من الوصول الى عدد من الأهداف في البنية التحتية داخل اسرائيل&bascii117ll; ويعتقد ان <حزب الله> تلقى تدريبات على انظمة متطورة من المضادات الجوية التي يمكن ان تشكل خطرا على الطائرات الاسرائيلية المنخفضة الارتفاع مثل المروحيات والطائرات من دون طيار&bascii117ll;وبدعم من إيران تمكن <حزب الله> من تحقيق تطوير في قدرات التجسس والاتصالات لديه، والتي تلعب دوراً حيوياً بصورة متزايدة في الحرب على اسرائيل&bascii117ll; ويتوقع ان يستفيد <حزب الله> من هذه القدرات المتطورة في محاولته الهجوم على اسرائيل خلال حرب مستقبلية، إذ سينقل الحرب الى اسرائيل من خلال الغارات الارضية والبحرية&bascii117ll; وبناء عليه فإن الحرب المستقبلية يمكن ان تكون اكبر من مجرد جنوب لبنان وشمال إسرائيل&bascii117ll;وفي الرد على الفشل الإسرائيلي شكلت القوات الإسرائيلية استقلالية لوجستية أكبر في الوحدات القتالية، وقامت بتعزيز قدرات قواتها البرية البحرية والجوية، كي تقوم بعمليات مشتركة مركزة على تقنيات المناورات السريعة&bascii117ll; وشكل الجيش مراكز عسكرية في المناطق المدنية، بعد فترة قصيرة من حرب 2006 وكان اكبرها مركز التدريب الحربي المدني، الذي يحاكي العديد من البلدات والقرى اللبنانية اضافة الى مخيمات اللاجئين&bascii117ll;وقام الجيش الإسرائيلي بإدخال عدد من التقنيات الجديدة التي من المتوقع ان يستخدمها في اي حرب مقبلة مع <حزب الله>&bascii117ll; وتتضمن الدرع الصاروخي المتعدد الذي يهدف الى اعتراض صواريخ <حزب الله> القصيرة الامد وتدميرها، وكذلك صواريخ ايران طويلة المدى&bascii117ll; وإضافة الى ذلك فإن جميع الدبابات الجديدة أصبحت مزوّدة الآن بنظام دفاعي للحماية من القذائف المضادة للدروع&bascii117ll; ومن غير المعروف كيف ستقوم هذه الأنظمة بالتعامل مع الصواريخ المنهمرة من قبل <حزب الله> وكذلك قذائفه المضادة للدروع&bascii117ll;وحتى الآن أسهم الردع المشترك للطرفين في منع حدوث حرب أخرى، لكن هناك الكثير من الشرر الذي يمكن ان يشعل بعضه هذا الصراع من جديد&bascii117ll; وكان احدثه النزاع على الحدود البحرية بين البلدين، بعد اكتشاف حقول ضخمة من الغاز والنفط قبالة شواطئهما، وترسيم هذه الحدود يمكن ان ينطوي على نتائج اقتصادية ضخمة&bascii117ll; وحذر قادة <حزب الله> اسرائيل بألا تقوم بتطوير حقل الغاز، وتعهدوا بأن المقاومة ستعمل على استعادة السيادة على المياه الإقليمية اللبنانية في وجه ما اعتبروه سرقة اسرائيلية غير قانونية&bascii117ll;
ـ 'المستقبل'
الضغوط ستتواصل لتسليم المطلوبين واستبعاد اللجوء الى مجلس الأمن حالياً
ثريا شاهين:
(...) جواب انطونيو كاسيزي سيتبلور في وقت قريب. لكن الأوساط تستبعد ان يتم اللجوء الى مجلس الأمن في هذه المرحلة، نظراً لعوامل عدة ابرزها:
ـ ان عدم تمكن لبنان من تسليم المتهمين مع كل حيثياته السياسية على مستوى السياسة الداخلية وابعاده الدولية وذات الصلة بالجريمة، لن يتم اعتباره سبباً كافياً للجوء الى مجلس الأمن. وتبعاً لذلك، انه احتمال ضعيف ان يعتبر لبنان مقصراً على هذا الاساس. والسبب يعود الى ان الحكومة ومن وراءها، يستدركون عبر الأسلوب الذي يعتمدونه بعدم اللجوء الى مواقف فيها تحد للمحكمة ولو شكلياً، اي سلبية قد تعتمد من جانب المجتمع الدولي والمحكمة. فالحكومة عبر هذا الاسلوب المقصود وبضوء اخضر من 'حزب الله' لم تقل انها لن تدفع مساهمة لبنان في تمويل المحكمة، بل عمدت الى ارسال رسائل 'ايجابية' عبر القول انها ستدفع تلك المساهمة، وعبر القول انها فتشت على المطلوبين الاربعة، لكنها لم تجدهم، هذه المواقف تصعّب على المحكمة العودة الى مجلس الأمن، لا سيما في حالة عدم القدرة على تسليم المطلوبين. وبالتالي ان العودة الى المجلس واردة، لكنها ليست حكماً ستتم.
ـ تشير الأوساط الى ان عدم العودة الان الى مجلس الامن، لا تعني، انه لن تكون هناك عودة اليه مطلقاً ومهما حصل، هناك مناخ عام حصيلته، ان هنالك قدرة على العودة الى مجلس الأمن عند اي انعدام للتعاون يقوم به لبنان في اي لحظة. وما دام هناك انتظار لاداء الحكومة اللبنانية، فانه في هذه المرحلة لن يتم اللجوء الى المجلس اذا توافرت القناعة القضائية بذلك، كما ان هناك اولويات دولية هي المشكلات في المنطقة، لا سيما المحيطة بلبنان وفي الموضوع السوري تحديداً، لذا فان اللجوء الى مجلس الامن في القضايا ذات الصلة بالتعاون اللبناني ممكن في اي لحظة لاحقاً وليس صعباً.وافادت الأوساط، ان كاسيزي ومعه المحكمة كانوا يتوقعون مثل هذا الرد من القضاء اللبناني، وهم يدركون ان الحكومة ليست قادرة على تبليغ المطلوبين الأربعة، والان سيتم الابلاغ عبر وسائل الاعلام، بحيث اذا لم يسلموا انفسهم، سيتم اعتبارهم فارين من العدالة. وهذه الاجراءات ستسير كما سارت بالنسبة الى محكمة يوغوسلافيا، حيث صدرت استنابات دولية للبحث عنهم، وظل القضاء الدولي وراءهم حتى قبض عليهم، بالتزامن مع الضغوط الدولية على حكومة صربيا لايجادهم وتسليمهم. والضغوط من المحكمة والمجتمع الدولي ستستكمل على الحكومة اللبنانية لتسليمه.
ـ 'المستقبل'
ألغام النظام اليوم أيتامه غداً
حسان الرفاعي(عضو المكتب السياسي في 'تيار المستقبل):
(...) نعم، أولاد وأزلام وشبّيحة هذا النظام في لبنان سيصبحون قريباً الأيتام اللبنانيين لهذا النظام وربما نرى قريباً مَن يسعى منهم إلى تهيئة ابتعاده عن السفينة الآيلة إلى الغرق. أرجو ألاّ يُمنح هؤلاء، تحت أي ظرف من الظروف، أسباباً تخفيفية عن فعلتهم لأنهم بحكم الشريك أو المتدخّل في جرائم قتل وترويع الشعب السوري الشقيق الأعزل.هؤلاء الأيتام كُثر، منهم مَن هو بمراتب رئاسية أو وزارية أو نيابية ومنهم مَن هو رجل دين مسلم أو مسيحي أو إعلامي أو ضابط عالي الرتبة أو قاضٍ أو موظف رفيع أو إلخ..إنهم فئة لم تُجبر على الاستزلام ومناصرة الإجرام بل ذهبت بمحض إرادتها، مختارة! وهي هرباً من هزيمتها ستحاول دفع لبنان وكل اللبنانيين إلى الهاوية مفتعلة الحرائق. فهل سيتصدّى رئيس الجمهورية، الذي أقسم على دستور الأمّة اللبنانية، ويأمر الجيش اللبناني الذي يرفع شعار شرف، تضحية ووفاء للتصدّي فعلياً لعبث وضرر ألغام النظام السوري على لبناننا الحبيب؟؟ أم أنّه 'سينأى بنفسه'...؟؟لا يجب أن يُفهَم ندائي على أنه استباق لفرحة أو نصر، بل هو نداء المتخوّف المحذّر من خطر كبس زرّ هذه الألغام و'تفجيرها' عبثياً في الجسم اللبناني قبل أن تنتهي صلاحيتها!