البحريـن: 'شـد حبـال' بين التجديديين والمحافظين
ـ 'السفير' وسام متى: تكشف البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي سربها موقع &laqascii117o;ويكيليكس" عن صراع، ما زال بعيداً عن الأضواء، داخل أسرة آل خليفة التي تحكم البلاد، بين تيار تجديدي يقوده ولي العهد الأمير سلمان ووزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد، وآخر متشدد، من أبرز رموزه وزير الديوان الملكي الشيخ خالد بن أحمد بن سلمان، وهو ينعكس بشكل أو بآخر على السياسة الخارجية للمملكة في ما يتعلق بالملفات الكبرى في المنطقة كالموقف من إسرائيل وإيران.وفي برقية سرية يعود تاريخها إلى 17 نيسان العام 2009، وتتناول الاستعدادات لزيارة المبعوث الأميركي جورج ميتشل للبحرين، يشير القائم بأعمال السفارة الأميركية في المنامة كريستوفر هنزل إلى أن ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة يواجه عملية شد حبال داخل الأسرة الحاكمة، بين التجديديين والرجعيين.وتشير البرقية إلى أن العناصر التجديدية، الذين يقودهم ابن الملك وولي العهد الأمير سلمان، ووزير الخارجية الشيخ خالد بن أحمد بن محمد، يسعون لوسائل تمكنهم من تطويق المتشددين وتهميشهم، سواء داخل البحرين أو في العالم العربي.وتنقل الوثيقة عن ولي العهد قوله &laqascii117o;بشكل صريح" أنه طالما بقي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مفتوحاً فإن ذلك سيغذي العناصر السنية المحافظة في البحرين، والتي تعارض الانفتاح والإصلاح لكونهما غير ضروريين، من وجهة نظرهما، في ما يتعلق بنمو البلاد وتقدمها، كما أنه سيعزز موقع قوى، مثل حركة حماس وحزب الله وإيران، يعتبر القادة البحرينيون أنها قد تشكل تهديداً لنظامهم وللمنطقة.
وتشير الوثيقة إلى أن الأمير سلمان والشيخ خالد حثا الإدارة الأميركية على أن توضح لأولئك الذين يدعمون المتشددين بأنهم سيدفعون ثمناً لمواقفهم، وخصوصاً في ما يتصل بالعلاقات مع الولايات المتحدة. وتوضح أن المسؤولين البحرينيين كانا يقصدان بشكل خاص قطر، التي تدعم في سياستها الخارجية حركة حماس، التي ينظر إليها في المنامة على أنها عنصر تهديد. وتضيف الوثيقة أن الأمير سلمان والشيخ خالد، ينظران في المقابل إلى دول عربية معتدلة مثل الإمارات والأردن، على أنها حليف طبيعي.
على الجهة المقابلة في عملية شد الحبال، التي تدفع السياسة الخارجية للبحرين في &laqascii117o;اتجاهات غير مساعدة"، تشير الوثيقة إلى بروز تيار داخل آل خليفة يبدو أقرب إلى الأحزاب الدينية السنية، التي تحظى بالغالبية في البرلمان البحريني، والتي نجحت في فتح الباب أمام رئيس المكتب السياسي في حركة حماس خالد مشعل لزيارة البحرين في أيلول العام 2008 وآذار 2009. وتشير الوثيقة إلى أن أولئك المحافظين يعارضون إجراء أي تسوية مع الغالبية الشيعية في البلاد، وقد أبدوا امتعاضاً تجاه العفو الذي منحه الملك لـ178 شيعياً اعتقلوا لأسباب أمنية.
وتشير الوثيقة على أن وزير الديوان الملكي الشيخ خالد بن محمد بن سلمان هو أحد أبرز أولئك المتشددين.
وتنقل الوثيقة عن وزير الخارجية البحريني قوله للقائم بالأعمال الأميركي إن ثمة حاجة ملحة لبعض الخطوات ضمن روحية مبادرة السلام العربية، بما يوفر الدعم للدور الأميركي. كما تنقل عنه استعداده للانفتاح على وسائل الإعلام الإسرائيلية، وطلبه من الإدارة الأميركية أن تقنع الملك البحريني بذلك.
وفي تعقيبه على ملاحظة من جانب القائم بالأعمال الأميركي بشأن التطور الذي شهده الموقف البحريني خلال العامين الماضيين، لجهة الانفتاح على إسرائيل سراً وعلناً، حذر وزير الخارجية البحريني من أنه لم يعد قادراً على الدفاع عن تلك السياسة التي انتهجها في السابق، وخصوصاً بعد الموقف السلبي لوزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان من مؤتمر أنابوليس.
ويعرب الشيخ خالد عن أمله في أن الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة ستكون قادرة على اقناع حكومة بنيامين نتنياهو بالتراجع عن موقفها السلبي، والمشاركة في مؤتمري موسكو أنابوليس – 2. كما تنقل الوثيقة عن الشيخ خالد اقتراحه بإنشاء منظمة إقليمية يمكن أن تشمل إيران وإسرائيل، وتشير إلى أن هذا الاقتراح هو أحدى النتائج التي خرج بها اللقاء بين ملك البحرين والرئيس التركي عبد الله غول في بداية العام 2008.
'كيف نرفع مستوى المساعدة المالية من الرياض؟'
النفط السعودي: بين التحكم بالأسعار العالمية والشراكة الأمنية في خدمة المصالح الأميركية
ـ 'السفير' مازن السيد:
النفط، بعائداته وأمنه وأبعاده الاستراتيجية، عصب أساسي للعلاقة الأميركية السعودية منذ مرحلة تأسيس شركة &laqascii117o;أرامكو" إلى تضخم الوجود العسكري الأميركي في الخليج عقب أزمة النفط في العام 1973. وتسلّط وثائق &laqascii117o;ويكيليكس" الضوء في هذا السياق على ثلاثة أبعاد أساسية لهذه العلاقة: التحكم بأسعار النفط عالميا، &laqascii117o;التعاون الأمني" حول المنشآت النفطية السعودية، والاستفادة الأميركية من أموال العائدات النفطية السعودية.
الاستراتيجية النفطية : قبل الخوض في تجليات المحاور الثلاثة عبر برقيات &laqascii117o;ويكيليكس" الدبلوماسية، يجدر التطرق إلى برقية من السفارة الأميركية في الرياض بتاريخ 21 شباط 2010، بعنوان &laqascii117o;ما الذي يقلق السعودية حول مستقبل الطاقة والتغير المناخي؟". وتنقل البرقية إجابة مساعد وزير النفط السعودي الامير عبد العزيز بن سلمان عن هذا السؤال. ويقول الأمير عبد العزيز إن السعودية قلقة حيال نقص الوضوح في اتجاه أسواق الطاقة، فسيناريوهات العرض والطلب لم تكن سابقا بهذا الغموض. ويشتكي المسؤولون السعوديون من أن التوقعات الدولية للطاقة قد تبدلت بشكل متكرر مما يقوض قدرة المملكة على اتخاذ قرارات استثمارية منطقية حيال تطوير قدراتها على الانتاج والتكرير. وتعلّق السفارة الأميركية على إجابة الأمير عبد العزيز بالقول إن &laqascii117o;السعودية قلقة من أن اتجاه الأحداث في العالم لن يترك لها مجالا لبيع انتاجها الأساسي، مما يعني أن الحكومة والعائلة المالكة لن تتمكنا من ضمان النجاح المستقبلي للعدد الكبير من السعوديين الذين يدخلون المدارس الآن. الملك دعا إلى تنويع الاقتصاد خلال الأعوام الـ20 المقبلة. ونصف هذه الهدف بأنه طموح على أقل تقدير، لأنه سيتطلب مئات مليارات الدولارات استثمارا، إضافة إلى ثورة اجتماعية حقيقية في ثقافة العمل والتربية ومشاركة المرأة في الانتاج. ويرزح المسؤولون السعوديون تحت ضغط كبير لانجاح هذه الرؤية، لا استجابة لدعوة الملك فحسب، بل لأنهم يعتقدون فعلا أن لديهم سنوات قليلة لقيادة تنويع الاقتصاد السعودي، وتجنب بعض المشاكل التي تواجهها دول مثل اليمن".
في المقابل، تنقل برقية أخرى بتاريخ 17 آب 2009 تفاصيل لقاء بين الدبلوماسيين الأميركيين ووزير النفط السعودي علي النعيمي. وخلال اللقاء أثنى الأميركيون على &laqascii117o;الدور الذي تلعبه السعودية في منظمة اوبك، وبشكل عام دورها المشجع للاستقرار في اسواق الطاقة العالمية، مقابل الأعضاء الآخرين الذين يريدون رفع أسعار النفط". وأجاب النعيمي بان هذا الدور لطالما كان جزءا أساسيا من سياسة الطاقة لدى المملكة، مشيرا إلى أن ذلك يعني العمل في لقاءات &laqascii117o;اوبك" وحولها لـ&laqascii117o;السيطرة على الأمزجة".
وأشار الاميركيون للنعيمي إلى أنهم لا يمانعون قيام السعودية بزيادة صادراتها النفطية إلى الصين لاستبدال الصادرات الايرانية &laqascii117o;في سبيل تخفيف التأثير الايراني على الصين". ورد النعيمي بأن السعودية كانت تبيع 700 ألف برميل يوميا لبكين، في الدرجة الثانية بعد انغولا التي تعد أول مصدر للصين بمستوى 700 ألف برميل يوميا. لكنه أكد أن &laqascii117o;مبيعات انغولا للصين كانت حدثا استثنائيا لن يتكرر"، مشيرا إلى أن السعودية ستصبح قريبا المصدر النفطي الاول للصين.
الحماية الامنية : وتفيد برقية من الرياض بتاريخ 25 حزيران 2009، بأن السفير الأميركي وقع مع مساعد وزير الداخلية السعودي للشؤون الأمنية الأمير محمد بن نايف اتفاقا يؤسس &laqascii117o;مكتب إدارة المشاريع - قوة أمن المنشآت"، بتمويل أولي بقيمة 6 ملايين و824 ألف دولار. وتوضح برقية ثانية تعود إلى العام 2008 أن &laqascii117o;قوة أمن المنشآت" ستكون مسؤولة عن تدريب القوى الأمنية السعودية وتجهيزها لحماية منشآت الطاقة السعودية، ومنشآت تحلية المياه، والمفاعلات النووية المدنية في المستقبل. وتنقل البرقية عن مسؤول في وزارة الداخلية السعودية قوله إن حماية المنشآت السعودية ستحتل 25 في المئة من موازنة الوزارة التي تصل إلى حوالي مليار دولار، مشيرا إلى أن &laqascii117o;قوة أمن المنشآت" ستحتوي على 35 ألف عنصر على الأقل.
وخلال لقاء مع مسؤولين أميركيين من وزارتي الدفاع والطاقة، &laqascii117o;ذكر محمد بن نايف بان جده الملك عبد العزيز كان يمتلك رؤية الشراكة الدائمة مع اميركا"، وشدد على أنه يشاركه هذه الرؤية، وأنه يريد أن تشارك الحكومة الأميركية في حماية المنشآت السعودية الحساسة: &laqascii117o;بنينا أرامكو سويا وعلينا أن نحميها سويا".
لكن التعاون الحثيث بين وزارة الداخلية السعودية وأميركا لا يقتصر على &laqascii117o;قوة أمن المنشآت هذه" فتشير برقية بتاريخ 30 آذار 2009، إلى وجود &laqascii117o;منظمة مساعدة امنية" أميركية أخرى في السعودية هي &laqascii117o;مكتب إدارة المشاريع-وزارة الداخلية"، وهي الأخرى تقوم أيضا على &laqascii117o;تقييم أميركي لأمن المنشآت النفطية السعودية". وتوضح البرقية أن هذه المنظمة تتميز بأنها تحت قيادة وزارة الامن الأميركية إضافة إلى مكونات من وزارة الدفاع. وتهتم هذه المنظمة &laqascii117o;الممولة بالكامل من الحكومة السعودية" بحماية المنشآت الحساسة، إضافة إلى تدريب عناصر وزارة الداخلية السعودية وتحسين مستوى ادائهم، ويديرها جنرال متقاعد من الجيش الأميركي. و&laqascii117o;سيكون أمن الحدود السعودية، والبحري والنووي والالكتروني والداخلي، ضمن صلاحية البرنامج".
وتشير السفارة الأميركية في تعليقها على اداء هذه المنظمة، إلى أنها &laqascii117o;تقدم لنا (الاميركيين) فرصة رائعة مع السعودية التي تعد القائد الفعلي للعالم الإسلامي. فتجاريا ستتمكن الشركات الأميركية من الحصول على عقود طويلة الأمد بمليارات الدولارت، كما ستوظف المنظمة مئات المواطنين الأميركيين في المملكة، كمدربين، معلمين، ومقيّمين لأمن المنشآت... عبر تطبيق هذه البنية التحتية الحساسة سنتمكن من التقرب أكثر من أكثر الوزارات السعودية تأثيرا وأوسعها سلطة. وإضافة إلى حماية المنشآت، سنحصل على تأثير أكبر في عدد من القضايا الاقليمية، الاقتصادية، السياسية والامنية".
المساعدات المالية : وبالإضافة إلى هذا المجال الواسع من الاستفادة الأميركية من الموارد السعودية، تطرح وثيقة أميركية صادرة عن سفارة الرياض في 30 آذار 2009 أيضا السؤال التالي: &laqascii117o;كيف نرفع مستوى المساعدة التمويلية السعودية؟". وتشير البرقية إلى أن الحكومة الاميركية قدمت خلال الأعوام الخمسة الماضية 66 طلب تمويل رسمي من السعودية، &laqascii117o;وفي معظم هذه الحالات، ساهم السعوديون في القضية المناسبة. لكنهم قاموا بذلك كما يبدو في معظم الحالات لأسبابهم الخاصة، لا لأننا طلبنا منهم ذلك". وتشير البرقية إلى أن معظم الطلبات الاميركية تعلقت بالعراق (12)، فلسطين (10)، لبنان (10)، وافغانستان (9). وتنصح البرقية بان الطريقة الأكثر فعالية لحمل السعوديين على التجاوب مع طلبات التمويل الاميركية تقوم على: إصدار الطلب من البيت الأبيض أو على مستوى وزاري، وألا تتخطى القيمة 40 مليون دولار، وأن يتعلق الامر بقضية وافق السعوديون مسبقا على دعمها. وتقدم البرقية مثلين على ذلك: &laqascii117o;الطريق العام بين قندهار وهراة في افغانستان، وضمان نقل المعدات العسكرية من الأردن إلى الجيش اللبناني في العام 2006". وفي هذا السياق أيضا، تشير برقية أخرى تعود إلى نيسان 2009 إلى أن &laqascii117o;أميركا ومجلس التعاون الخليجي مهتمان بتمويل إعادة الإعمار في غزة. لكن ردة الفعل على طلبنا الأخير حول هذه القضية، يوضح أنه من الضروري معالجة قلق المجلس ازاء قدرات السلطة الفلسطينية في القطاع إذا أردنا أن تنصاع دبلوماسية دفتر الشيكات الخليجي لمآربنا".
ظاهرة الحركة 'الأسيرية' في صيدا
ـ 'المستقبل' فادي شامية: شهدت عاصمة الجنوب اللبناني خلال شهر رمضان الماضي التظهير السياسي للحركة 'الأسيرية'، بعدما نمت الحركة دعوياً في الأعوام الأخيرة بشكل لافت. ولا يزال الجدل قائماً حول هذه الظاهرة الدعوية ـ السياسية إلى يومنا هذا، لا سيما مع تزايد النشاطات العامة للشيخ أحمد الأسير، مؤسس هذه الحركة ورئيسها. في الواقع؛ لم يكن الشيخ الأربعيني أحمد الأسير معروفاً على المستوى العام في صيدا قبل سنوات عدة، لكن حماسته الدينية كانت واضحة لكل من يعرفه. اقترب الأسير لفترة من 'الجماعة الإسلامية' ونهل من مدرستها الفكرية (من دون أن ينتسب إليها رسمياً)، ثم نحا باتجاه جماعة 'الدعوة والتبليغ'، و'خرج' معها في عدد من رحلاتها الدعوية، وتشرّب مبادئها وأصبح وجهاً من وجوهها في صيدا، لكن نقطة التحول في سيرته العامة، تمثلت بانتقاله إلى إدارة مسجد صغير في ضاحية عبرا ـ شرق صيدا، حيث نجح بشكل لافت للانتباه في استقطاب شرائح متعددة من المجتمع، وتمكّن بخطابه المؤثر من تحويل المسجد الى أحد أكثر المساجد استقطاباً في المدينة، وتالياً توسَّع المسجد ومرافقه، بالتوازي مع توسع جمهور الأسير، الذي بات ممسكاً اليوم ـ من خلال مريديه ـ بنحو ستة مساجد في صيدا وخارجها، ومتمتعاً بنفوذ شعبي كبير (ضم مسجد بلال بن رباح الذي يؤم فيه الناس ليلة القدر نحو أربعة آلاف مصلٍ، معظمهم صلى في الطرقات المحيطة).
وقد شكّل الصعود الجماهيري الكبير للشيخ الأسير إلى ولادة ظاهرة يمكن تسميتها بالحركة 'الأسيرية'؛ فالرجل ـ خلافاً لما يكتب عنه كثيرون من غير الملمين بالفروق بين القوى الإسلامية ـ ليس ظاهرة سلفية، لأنه لا يعتمد المنهج السلفي لا فكرياً ولا عملياً، كما أنه لا يمكن ربطه اليوم بجماعة 'الدعوة والتبليغ' بالمعنى التنظيمي، لأن أحد الأركان الفكرية لهذه الجماعة هو الابتعاد عن الشأن العام (لا سيما السياسي، ولو كان مجرد موقف من ثوابت لدى الأمة، كجهاد العدو الإسرائيلي مثلاً)، ولا يرتبط أيضاً بالمعنى العملي بفكر 'الأخوان المسلمين'، وإنما حركته خليط من هذا كله، تأخذ جوانب عقدية وفقهية من السلف، وتمارس النشاط الدعوي المعتمد لدى جماعة 'الدعوة والتبليغ'، وتستمد بُعدها الحركي من منهج 'الأخوان المسلمين'. وأهم من هذا كله؛ أن لا أثر لأي تربية عنفية أو تكفيرية في طروح الشيخ أحمد الأسير، خلافاً للتهويل الذي تبثه القوى المتضررة من حالته الشعبية.
ومع أن الحركة 'الأسيرية' تضم اليوم أعداداً كبيرة من المريدين والمؤيدين، إلا أنها ليست حالة تنظيمية متماسكة، وهي لا تملك مؤسسات متدرجة ومنتجة للقرار، ولا تزال متمحورة حول الشيخ 'القائد'، فضلاً عن افتقارها إلى 'كوادر' تتمتع بالخبرة الإعلامية والسياسية...، ذلك أن النجاح في العمل الدعوي والمسجدي شيء (وهذا العمل منظم ومتناسق إلى حد كبير)، والخوض في وحول السياسية وتحاشي منزلقاتها المميتة شيء آخر تماماً. لم تبق الحركة 'الأسيرية' ظاهرة دعوية فقط، ولكنها تحوّلت الى ظاهرة سياسية ـ بالمعنى العام ـ لا سيما في شهر رمضان المنصرم لسببين:
ـ خروجها من دائرة المسجد (تظاهرات واعتصامات ومحاضرات في أماكن مفتوحة).
ـ وارتباطها بالدعم المطلق للثورة السورية والتشنيع على داعمي نظام بشار الأسد، لا سيما إيران و'حزب الله'.
وقد زادت هذه الطروح من شعبية الشيخ الأسير، ولكنها حولته هدفاً سياسياً لحلفاء 'حزب الله' في المدينة، فتارة يُقال إنه يبني 'إمارة سلفية'، وتارة تثار شبهات حول علاقاته مع قوى سياسية محلية وغير محلية، وتارة يُعرض نشاطه على أنه عامل عدم استقرار في مدينة حساسة جغرافياً وديموغرافياً، وتارة يُستعمل فزاعة لتخويف المسيحيين في شرق صيدا... وتارة تكون المقاربة هادفة إلى زرع الشقاق بين القوى الإسلامية في المدينة، أو بين 'الحركة الأسيرية' ودار الفتوى في عاصمة الجنوب!.
اللافت أن هذه المواقف لا تقال علانية، من خلال تصاريح أو بيانات، وإنما من خلال كتابات وتسريبات إعلامية من جهة، وفي الاجتماعات والصالونات المغلقة من جهة أخرى، والأخطر أن ثمة من تطوّع تكراراً للإدلاء بشهادات غير موضوعية عن هذه الحركة، لمخابرات الجيش اللبناني ولغيرها من الأجهزة الأمنية الرسمية وغير الرسمية، اللبنانية وغير اللبنانية، ما جعل حركة الشيخ الأسير تحت الضوء الأمني أيضاً!.
والواقع أن ربط الشيخ الأسير بقوى سياسية محلية، أو بـ 'التشدد' الديني، أو بتأجيج الخطاب المذهبي أمر غير دقيق (ألقى الشيخ الأسير قبل أيام محاضرة تحت عنوان: 'من المسؤول عن تأجيج الخطاب المذهبي'، رد فيه على ذلك)، وإنما الدقيق في الشق السياسي من الحركة 'الأسيرية' أنها لامست بطروحها الجريئة مزاج الشارع العام في عاصمة الجنوب، المستاء من الأداء العام لـ 'حزب الله'.
وقد زاد الغضب الشعبي على 'حزب الله' في صيدا ـ وفي غيرها من المدن التي لا تدين بالولاء للحزب المذكور ـ بسبب موقفه المتضامن مع النظام السوري، ما جعل الطرح السياسي لجماعة دينية كجماعة الشيخ الأسير مرتبطاً بعمق الطروح الدينية، القائمة على أساس مناصرة المظلوم في وجه الظالم وأعوانه.
ويضاف الى هذه الأسباب أن 'حزب الله' أوجد ودعَمَ في صيدا واجهات سياسية تابعة له بالمطلق، وتتقاضى الرواتب منه، وأكثرها لا يتمتع بالصدقية أو الشعبية، ما جعل الأمر يرتد على الحزب المذكور سلباً، وتالياً فقد استفادت جماعات أخرى، على رأسها جماعة مسجد بلال بن رباح (جماعة الأسير) من هذا الواقع، بسبب تبنيها خطاباً منتقداً لأداء الحزب. وبهذا المعنى فقط يمكن ربط الحركة 'الأسيرية' بصعود الحالة المذهبية، مع فارق أن المسؤول عن هذه الحالة هو الذي يتحدث عنها، أي 'حزب الله' والشخصيات المرتبطة به في صيدا.
من الطبيعي أنه، مع ظهور حركة شعبية ذات خطاب سياسي بهذا الحجم، أن تُدرجها القوى السياسية المختلفة في المعادلة القائمة في المدينة، وأن تنظر إليها من منطلقاتها الخاصة، سلباً أو إيجاباً.
وعليه؛ فإن واقع الحال في صيدا اليوم أن القوى المؤيدة لـ 'حزب الله' ('التنظيم الناصري' وبقايا القوى اليسارية) غير مرتاحة أبداً لصعود القوى الإسلامية في المدينة عموماً، وللحركة 'الأسيرية' خصوصاً، وهي تعمل بصمت على محاصرة هذه الحال، بأساليب مشروعة في السياسة، وأحياناً بأساليب غير مشروعة. والموقف نفسه ينسحب على الشخصيات والواجهات الإسلامية التي يرعاها 'حزب الله'، وجميع هؤلاء سواء في الخسارة الشعبية، مع فارق أن الإسلاميين المرتبطين بـ 'حزب الله' فاقدو الشعبية أصلاً (بدلالة الانتخابات النيابية والبلدية على التوالي)، وأن الخسارة تلحق بالطرف الذي يرعاهم (لا يوجد أي فارق في السياسة بين خطاب 'حزب الله' وخطاب الواجهات المرتبطة به، بما في ذلك مقاربة الثورة السورية، ما يجعلهم في نظر الشارع مجرد أتباع فاقدي الصدقية، علماً أن العدد الأكبر من أئمة المساجد في صيدا كانوا يبتهلون دُبُر الصلوات في رمضان، تضامناً مع الشعب السوري ضد 'الطاغية'، ما يؤشر الى المزاج العام في المدينة).
أما 'تيار المستقبل'، الذي يحظى بالشعبية الأكبر في عاصمة الجنوب، فإن خطابه السياسي يتقاطع مع الحركة 'الأسيرية'، ولكن بـ 'تحفظ'، على اعتبار أنه لا يمكن قياس حسابات القوى السياسية الكبرى، بحسابات أي جماعة ناشئة، فضلاً عن أن منطلقات 'المستقبل' الفكرية تختلف عن المنطلقات الدينية للحركة 'الأسيرية'، مع أن 'تيار المستقبل' ـ بما هو تيار ـ يضم مزيجاً واسعاً من الخلفيات الدينية وغير الدينية. وتالياً؛ فإن 'تيار المستقبل' غير متضرر شعبياً من خطاب الشيخ الأسير، وإن كان ظهور أية قوة سياسية جديدة يستدعي إعادة الحسابات، على أساس إعادة صياغة المعادلة الشعبية. بدورها، لا ترى 'الجماعة الإسلامية' أن خطاب جماعة مسجد بلال بن رباح ينفصل عن المزاج العام للشارع اللبناني السني عموماً، ولا سيما في هذه الأيام، كما أنها تعتبر أن 'الحركة الأسيرية' مكملة لها، لا سيما في الجانب الدعوي، وهي جزء من الحالة الإسلامية العامة (مناصرو 'الجماعة' يصلّون في غالبهم في مسجد بلال بن رباح بسبب خلافهم مع أمام مسجد حمزة المجاور له، بعد فصله من 'الجماعة' وارتباطه بـ 'حزب الله')، ولا ترى 'الجماعة' أن مواقف الأسير خارجة عما هو طبيعي في مقاربة الثورة السورية (اشتركت 'الجماعة' والشيخ الأسير وقوى إسلامية أخرى في تظاهرة ضد النظام السوري في صيدا، ونظّمت 'الجماعة' منفردة تظاهرة أمام السفارة السورية في بيروت وفي الملعب البلدي في صيدا)، ولكنها تقارب الموضوع ـ على ما يبدو ـ من منطلقين:
ـ الحرص على 'سلامة' الحركة 'الأسيرية'، ومنع استهدافها، لا سيما أمنياً، انطلاقاً من مبدأ 'وحدة الحالة الإسلامية' وتآزرها وتكاملها في وجه المخاطر والتحريض المستمر (خطاب التيار العوني على سبيل المثال).
ـ الحرص على عدم جنوح هذه الحركة أو استدراجها إلى منزلقات أو دعسات ناقصة، تؤذي الساحة الإسلامية كلها.
وعُلم أن 'الجماعة الإسلامية' اتخذت خطوات عملية، ووجهت رسائل الى من يعنيه الأمر بهذا المعنى.
أليس غريباً جداً أن ينتقد البعض في صيدا صعود 'القوى الأصولية'، في الوقت الذي يتحالف فيه إلى حد التبعية الكاملة مع أكبر تنظيم أصولي في لبنان (حزب الله)؟، أليس غريباً أكثر أن ينادي البعض في صيدا بعودة الروح إلى القوى العروبية في الوقت الذي يأخذ المال والدعم من دولة غير عربية، وذات نظام لا يؤمن بشيء اسمه عروبة، إلا من باب العداء لها؟
'حزب الله' والتفكير في معزل عن الانتفاضة
ـ 'الحياة' بشير هلال*: مع تسخين لهجة الخطاب السياسي بين الثنائي الشيعي و &laqascii117o;المستقبل"، اثر صدور وثائق جديدة عن &laqascii117o;ويكيليكس" تُظهِر انعدام تأييد &laqascii117o;حزب الله" حتى لدى حلفائه وضمنهم قيادة &laqascii117o;أمل"، يبدو عديم الاحتمال مُجرَّد التفكير في تسوية لبنانية &laqascii117o;تاريخية" أو حتى مرحلية. تسخينٌ يأتي في غير شروطه الزمنية كأنه استمرارٌ لما عناه انهيار اتفاق الدوحة و &laqascii117o;السين سين" وحكومة الوفاق الوطني الحريرية. وهو انهيار أنجزه فريق 8 آذار لاعتقاده بإمكان تحقيق انتصار حاسم على خصمه الـ14 آذاري بسبب فائض القوة العسكرية والتحشيدية لقائده الفعلي &laqascii117o;حزب الله"، ولما بدا من انتصار حلفائه الإقليميين على &laqascii117o;المعتدلين" العرب ولقرار الحزب استباق المحكمة الدولية وأعمالها بتغيير في الحكم وعلى الأرض يجعل استمرارها غير ذي بال.
الإشكالية أن الحزب يبدو عبر التسخين الاعلامي كما لو أنه يُفكِّر اليوم كما وبما كان بإمكانه أن يفعل قبل انبثاق ثم تبلور الانتفاضة السورية وغلبة رمزيتها على المشهد السياسي العربي، متجاهلاً بذلك احتمال تدمير معبرٍ إلزامي ونظامٍ حليف ومجابهة شروط وجودٍ غير مسبوقة وغير آمنة.
إلاّ أنه سيكون تبسيطاً غير واقعي الاعتقاد أنه سينهار بين ليلة وضحاها. فالحزب تجاوز مرحلة النشأة المدعومة ثم الصعود المضبوط بالهيمنة الأمنية والسياسية للنظام السوري قبل انحلالها النظري، وانتقل خصوصاً بعد حرب تموز الى حافظٍ لآثارها وشخوصها ومُعيداً تأهيلها وتدويرها بقيادته ولصالح توازنٍ جديد بينه وبين الحليف القريب كما داخل الثلاثي الذي يقوده مركز &laqascii117o;الثورة الاسلامية" الايراني في تحولاته الجهازية ما بعد الخمينية. فتبعيته للتمويل والتسليح الايرانيين وللمعبر والدعم السوريين لا تزال مهمة لكنها غدت نسبية.
وثمة سببان آخران لعدم الاندفاع في القول بحتمية انهيار سريع للحزب:
الأول، لأنه ليس مُجرَّد مشروع اقليمي في لبنان على ما يقول البعض. فهو لم ينغرس بسبب &laqascii117o;نسبه" الإيراني ومحموله التيولوجي المذهبي، بل لأنه التقى أساساً مع مصالح وتمثيلات الهوية الطائفية الفرعية المُزدادة فاعليةً بتحلُل المُشترَكات العامة والدولة والمشاريع السياسية العامة خلال الحروب المتناسلة وما تضمنته من تهجيرٍ واحتلال واجتياح ووصاية ومقاومة.
والثاني، لأن سياسة سورية المستقبل من الحزب ستكتفي على الأرجح بإنهاء دعمها وتسهيلاتها الاستثنائية الفوق دولتية له دونما صدام عنفي معه، ضمن منظور إعادة بناء الدولة وسياستها الخارجية بما ينهي الممانعة الأسدية المخاتلة ونتائجها التفتيتية ويُوفِّر شروط بناء آليات ضغط عربية فاعلة على إسرائيل لإنهاء احتلالاتها وإقامة الدولة الفلسطينية.
وبالتالي فالحزب سيكون امام وضعٍ يُصعِّب شروط عمل تنظيمه العسكري ويُنقِص حجم الشرائح المرتبطة مداخيلها جزئياً او كلياً به. وهي وجهة تضعه على قدم المساواة مع تنظيمات أخرى سبق لمعظمها أن شهد أوضاعاً مماثلة. كما تتيح إضعاف العصبيات التي يستثيرها السلاح وهيمنته وتقليص غلبة الأحادية السياسية والاثنينية التنظيمية الشيعيين. ما يفرض على الحزب تحدِّي تعديل خطابه السياسي ويمنحه في الوقت نفسه فرصة إنهاء المعادلة القائلة إنه غير قابل جوهرياً للانخراط في &laqascii117o;النظام اللبناني" على عكس &laqascii117o;أمل" المنخرطة حتى العظم في تحاصصيته وتكراريته العقيمة. الأمر المرهون بدوره بتجاوزه للعبة التي اتقنها منذ نشأته والقاضية بتحويل الحرمان الاجتماعي والمناطقي والاحتلال إلى مظلومية مذهبية سياسية فاصلة للشيعة عن بقية اللبنانيين. وهي عملية بدأتها باعتدال وفي ظروف مختلفة حركة &laqascii117o;امل" وحوّرتها الحركة الوطنية على طريقتها خلال الحروب المتناسلة عندما اعتمدت نظرية الطائفة - الطبقة.
في المحصلة ثمة توازن جديد بدأ ويستمر بالتشكل في غير صالح توطيد هيمنة الحزب بأشكالها المعتادة ومُزاوِجَتها بين التهويل بفائض القوة العسكرية والتحشيد الغرائزي وضد تفلُت تنظيمه العسكري وإسناده الاقليمي من أي ضبط دولتي. سيكون الأمر أقرب إلى عودة للتوازن وإرساءً للمشهد السياسي على أدوات وتمثيلات جديدة يفرضها &laqascii117o;الربيع العربي"، وتنال بتأثيرها كل القوى السياسية في لبنان. توازنٌ لن يعني انهياراً طالما لا يتصدى الحزب لدفعه باستخدام مباشر وشامل للقوة ضد اللبنانيين الآخرين أو مُوارِِب عبر تفجير حرب إقليمية أو المشاركة في ما يُروِّج له النظام السوري من حرب أهلية تشمل البلدين ويعتقدها مُنقِذة لوجوده.
الإشكال اليوم أن الحوار الفعلي مستبعدٌ من القطبين، فيما تُلح التغيرات على تطلبه لمواكبتها وتأطيرها وإنهاء الانسداد الناجم عن هلهلة الدولة وحِدَّة الانقسامات الأهلية: حزب الله لأنه يتصرف و/أو يُحمَل من حلفائه الإقليميين على التصرف كما لو كان واثقاً بنجاة النظام السوري بما يعفيه، في اعتقاده، من أي حوار لا يؤدي إلى شرعنة هيمنته وانقلابيته ويتيح له استمرار خطابه التوتيري بتقديس السلاح ووضع أعضائه فوق القانون والقضاءين المحلي والدولي. والثاني يُفضِّل انتظار تحقُق العكس لمباشرة الحوار متذرِّعاً بيأسٍ راكمته التجارب الحوارية السلبية السابقة فيما &laqascii117o;ينسى" أنه عقد مع هذا الحزب تحالفاً رباعياً وشكل معه حكومات عدّة، الأمر الأبعد أثراً من حوارٍ لم يغل يوماً بالأصفاد أطرافه.
يزيد المشكلة الرسميون الذين يتعاملون مع دعوة الحوار كما لو كانت تعويذة أو روتيناً يخفي طبخة حصى مهمتها تمديد وقت مُستقطَع من حرب مقيمة، أو - وهذا الأسوأ - أداة لتحويل عجزهم عن ممارسة وسطية حقيقية لا يملكون عناصرها وصفاتها إلى محاولة ضحلة لتمديد بقائهم الافتراضي. فتغدو السياسة سذاجة تجعل بقايا الدولة مجرَّد امتدادات للعصبيات الأهلية والقوى المهيمنة.
النتيجة استئخار متجدِّد لاطلاق آلية حوارية تُشكِّل بداية بحثٍ في بناء اجماعات جديدة تنطلق من عودة التوازن ومن استنتاج أنه لا خيار غير الحوار وأن &laqascii117o;الحلول" العنفية أسوأ من المشاكل والظاهرات التي تدعي حلَّها. وهي إجماعات كان ولا يزال مُفتَرَضاً بحركة 14 آذار تصورها واقتراحها فيما لو عادت إلى روحية البدايات. ولا يعني ذلك الامتناع عن نقد سياسة &laqascii117o;حزب الله" ومسؤوليته كَحائزٍ وكمُستَخدِمٍ أول للسلاح خارج الدولة، بل تقديم مخارج له ولطائفة يلجأ اليوم إلى القول بأنها مُستهدَفَة باستهدافه. ولكن؟