- "السفير"
سوريا ما لها وما عليها
محمد عبيد:
لم يعد من المبكر قراءة تداعيات المشهد السوري على الوضع الداخلي السوري وعلى دول المنطقة وتحالفاتها وتوازناتها أو انعكاسه على القضايا الإقليمية ومساراتها .. وبالتالي صار ممكناً مقاربة ما يجري على أرض الواقع خصوصاً مع بروز مؤشرات تستبعد الاقتراب من نهاية الأزمة التي تضرب العمق السوري. تسميات كثيرة أطلقت على هذه الأزمة، كلٌ من منطلق مفاهيمه وحساباته، لكن من المؤكد أنها بمعظمها ليست نتيجة حراك شعبي سلمي ولا هي إرهاصات حركة مطلبية تسعى لتحقيق أجندة إصلاحية بوسائل ديموقراطية، كما أنها لم تبرز كحالة تتوسل الحوار طريقاً لإثبات حضورها وتحقيق توازن شعبي أو حتى نخبوي في مواجهة السلطة .. إنما ما ظهر خلال هذه الأزمة يعبر عن مخطط يهدف الى تقويض النظام السياسي في سوريا وفكفكة تحالفاته الإقليمية بهدف إعادة تشكيله لينخرط في منظومة «عرب أميركا». وبعيداً عن سؤال الإصلاحات التي هي حق لكل سوري، فإن هذه الأزمة أفرزت مجموعة معطيات أبرزها: أولاً، إن جزءاً محدوداً من الشارع تمسك به قوى أصولية إجرامية تمارس الإرهاب وتستثمر الدم كأداة لإجبار المجتمع على مشاركته المواجهة مع السلطة، ومن الواضح أن هذه القوى كانت قد جهزت نفسها بالسلاح ووسائل الاتصال الحديثة وكافة الإمكانيات لإدارة معركة سياسية وإعلامية، ومن غير المنطقي القول إن ذلك كله ابن ساعته أو تم تكوينه بين ليلة وضحاها .. ثانياً ، إن الشخصيات «المعارضة» الموزعة بين الداخل والخارج التحقت تلقائياً بالقوى الأصولية وصارت تتحرك وفق إيقاعها وإيقاع ارتباطاتها الخارجية الدولية والإقليمية. إلا أن أكثر ما ثبت خلال هذه الأزمة هو أنكشاف ضعف هذه الشخصيات خصوصاً على صعيد غربتها عن الشارع السوري وافتقارها الى مشروع «إنقاذي» واقتصار خطابها على شعارات معولمة تشبه الوجبات الجاهزة بعيدة عن أي قراءة للواقع السوري.. ثالثاً، حصل ما كانت تتمناه الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وبعض الدول العربية والإقليمية منذ غزو العراق، وما بدأت تعمل عليه بعد انتصار تموز 2006 . فهذه المنظومة وجدت في الأزمة الداخلية السورية فرصة لطالما انتظرتها ومادة دسمة لابتزاز القيادة السورية على صعيد تحالفاتها الإقليمية ، لكن الأهم ممارستها ضغوطاً مختلفة بهدف إعادة توزيع القرار السياسي في السلطة وفق موازين ومعايير تضمن تكريس انفكاك هذه التحالفات والانتقال العملي الى المحور الأميركي وحلفائه في المنطقة .. معادلة وحيدة أنقذت سوريا وهي في طريق إخراجها من الأزمة وتداعياتها: الرئيس، الغالبية الساحقة من الشعب والقوى العسكرية والأمنية.
كذلك فإن الأزمة في سوريا أثارت أسئلة كثيرة حول أسبابها الداخلية التي كانت كامنة أو تلك المعلنة والتي كان يحاول بعض أركان النظام تجاهلها أو تجاوزها تحت عنوان تقديم أولوية المواجهة الإقليمية على ماعداها. وقبل الشروع في تفنيد هذه الأسئلة، لا بد من الوقوف عند الواقع السياسي السوري الذي يمكن اختصاره بحزب البعث العربي الإشتراكي والأحزاب الرافدة له أو التي تدور في فلكه والتي اصطلح على تسميتها «الجبهة الوطنية التقدمية». فقد شكل هذا الحزب مدرسة ثقافية ـ سياسية استطاعت أن تطبع الأجيال السورية على مدى أربعة عقود تقريباً، بطابعها القومي المدني بحيث مكنها من تجاوز التعقيدات الطائفية والمذهبية المتجذرة في المجتمعات العربية، فصار السوري يعرف نفسه عند سؤاله عن هويته: أنا عربي سوري .. في حين كان معظم المواطنين العرب غارقون في «الانعزالية» الوطنية - مصر أولاً ، الأردن أولاً، لبنان أولاً ..إلخ- ولم يتبدل هذا الوضع السوري إلا شكلياً مع الحملة الإعلامية - السياسية التي رافقت اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش العربي السوري من لبنان، وصرنا نسمع بعض الأغاني الوطنية السورية التي تتغنى بهذا الانتماء المحدود مثل «أنا سوري يانيالي .. وغيرها». أمران أساسيان أثرا على هذا المعطى التربوي القومي: أولهما، اتساع رقعة المد الإسلامي الأصولي في العالم العربي بعد 11 أيلول وأفغانستان والعراق على حساب الهويات القومية أو الوطنية. وثانيهما، سقوط المعطى السياسي القومي بعد خروج مصر ودخول العرب في ما سمي بعملية السلام، والأهم بالنسبة لحزب البعث فشل التجربة البعثية العراقية على أيدي صدام بل ثبوت لاعقلانية هذه التجربة إثر تورطها في حرب مدعومة من الغرب والعرب ضد الثورة الإسلامية الإيرانية مباشرة بعد انتصارها، وغزو صدام للكويت مما مهد الطريق للغزو الأميركي وحلفائه للمنطقة وأخيراً سقوط العراق بأكمله في القبضة الأميركية واجتثاث البعث من جذوره. والحال هذه كان من الواجب على القيادة السورية إجراء مراجعة حزبية سياسية وتنظيمية تعيد ترتيب الأولويات وفق المتغيرات المذكورة، بحيث يعاد النظر بمقاربة حزب البعث للواقع العربي وخصوصاً المفاهيم والمصطلحات التي وفدت على مجتمعاتنا والتي لطالما ركز عليها وحللها الرئيس الدكتور بشار الأسد في مداخلاته في أكثر من مناسبة، وبما يمكن هذه القيادة من الحفاظ على الجوهر القومي وتحديث آليات طرح المبادئ الحزبية كي تكون مؤهلة لجذب الشباب السوري وتسهيل انخراطهم في العمل الحزبي ولعبهم أدواراً قيادية كبدائل لحالة الترهل التي أصابت قيادات الحزب وانعكست خبواً في حضوره السياسي والإعلامي .. وإلا ما هو تفسير هذا القحط الذي ظهر خلال هذه الأزمة على مستوى الحضور السياسي والإعلامي لقيادات وكادرات الحزب في مواجهة الحملة على سوريا. أما ثالثهما، فهو سؤال إصلاح النظام السياسي وتباعاً الدولة .. وعلى الرغم من التبريرات أو التفسيرات السياسية التي قد يسوقها محبو سوريا ـ وأنا منهم - لتأخر الرئيس ومعه بعض أركان النظام في قيادة عملية الإصلاح ووضع آلياتها وأجندات زمنية لتحقيقها، فإن الموءامة بين الحفاظ على الخيارات القومية والسير بعملية إصلاحية ولو بطيئة الإيقاع كان ممكناً لتفادي وقوع الرأي العام السوري في خطأ التمييز بين الرغبة يالإصلاح والاستجابة للحملات السياسية والإعلامية الخارجية الساعية لنقل سوريا من موقع سياسي الى آخر. وفي كل حال، وبعد أن كشفت الأزمة مواقع القوة والخلل في الوضع الحزبي وكذلك في بنية النظام والدولة فإن الوقت لم يفت للاستفادة من هذه التجربة خصوصاً على صعيد التمييز بين الصديق والعدو أو لجهة التحصن بالشعب الذي كان وما زال محباً للرئيس الشاب ويأمل منه الكثير.
- "السفير"
السياسة الخارجية... ومزاد التطرف "الجمهوري"
جيمس زغبي:
لم تكن الانتخابات الرئاسية الأميركية لتأتي في وقت أسوأ من هذا، بالنسبة للولايات المتحدة والعالم العربي. ولما كان المرشحون عادة ما يركزون على السياسة الدعائية أكثر منهم على اتباع السياسات السليمة والحكيمة، فإنه يمكن القول إن القضايا الأساسية لن تحظى بالاهتمام والتركيز اللذين تحتاجهما. ذلك أنه بدلا من معالجة الأزمات المتفاقمة عبر العالم العربي والعمل على نحو ابتكاري على حلها، ستُمضي واشنطن موسم الانتخابات في الشعبوية السياسية، والتركيز فقط على كيفية الحصول على أكبر عدد ممكن من أصوات الناخبين، والعمل بذلك على انتقال الأمور من سيئ إلى أسوأ، مع التسبب في ازدياد عزلة أميركا وعجزها عن التأثير إيجاباً في عالم عربي يتغير الآن بسرعة.
وهذا السلوك بالطبع ليس مقتصراً على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط؛ فهذه المشاحنات القبيحة والعقيمة نفسها أضرت بقدرتنا على معالجة وحل تحديات داخلية حقيقية أيضاً، والشاهد في ذلك هو شبه الشلل الذي يصيب واشنطن حاليّاً في محاولاتها التوصل إلى توافق بشأن خفض الميزانية والحد من العجز. ولكن على غرار الضرر الذي يمكن أن تتسبب فيه السياسة الحزبية المتعصبة القبيحة التي تجعل حل المشاكل في الداخل أكثر صعوبة، فإن هذا السلوك يضر بقدرتنا أيضاً على التعاطي مع مسائل معقدة من السياسة الخارجية. ويمكن القول إنه لا مكان في العالم حيث التحديات كبيرة، والرهانات عالية، وتكلفة الفشل باهظة جدّاً، مثلما هو الحال في العالم العربي اليوم.
فالوقائع التي تواجه أميركا في العالم العربي في هذا الوقت تشمل على سبيل المثال لا الحصر: تحولات دراماتيكية على مستوى القيادة في العديد من البلدان في وقت ما زالت فيه الأوضاع غير مستقرة في كثير منها؛ ورأياً عامّاً عربيّاً ازداد قوة مؤخراً وبات اليوم يحد من قدرة الولايات المتحدة على إظهار الزعامة الأميركية، ولا سيما بخصوص مسائل لا تحظى بتأييد الرأي العام العربي؛ هذا مع اقتراب سريع من «نقطة اللاعودة» في الموضوع الإسرائيلي - الفلسطيني، حيث بات التوصل إلى تسوية سلام أمراً شبه مستحيل بسبب التصلب الإسرائيلي واستمرار توسيع المستوطنات بالأساس؛ ويشمل المشهد أيضاً حال إيران أكثر جرأة وبات لديها اليوم موطئ قدم في العراق وقيادة تعمل على توظيف المشاعر المناوئة لأميركا لمصلحتها؛ وثمة انقسام حزبي يزداد تعمقاً في الداخل ويقيد يدي الإدارة فعليّاً ويمنعها من ممارسة الدبلوماسية الإقليمية، ويعمل في الوقت نفسه على نشر مشاعر ضارة وخطيرة مناوئة للمسلمين داخل التيار الرئيس في أميركا.
ومع اقتراب موعد سحب القوات الأميركية من العراق، فإن واقع حال المنطقة يشير إلى واحد من أعظم الأمور إثارة للسخرية في هذا القرن الجديد: إن الحرب التي صُممت ونفذت من أجل إظهار هيمنة أميركية تركت الولايات المتحدة بدلا من ذلك أكثر ضعفاً وأقل احتراماً، والشرق الأوسط أكثر تقلباً وأقل أمناً. وهذا هو الواقع الذي على إدارة أوباما أن تتعامل معه في وقت تواجه فيه تحديات خطيرة وخيارات محدودة؛ غير أنه إذا كان البيت الأبيض يعترف على ما يبدو بهذا المآل الذي آلت إليه الأمور، فإنه من الواضح أن الجمهوريين لا يفعلون الشيء نفسه.
في نهاية هذا الأسبوع، سيناقش المرشحون الجمهوريون الطامحون للوصول إلى البيت الأبيض موضوع السياسة الخارجية، وسيتخذون بدون شك موقفاً هجوميّاً حيث سيقومون بتحدي سياسات الرئيس في كل تفاصيلها. وانطلاقاً من تصريحات أدلى بها المرشحون الجمهوريون الرئيسيون، فإن من الواضح أنهم لن يقبلوا بأرضية مشتركة مع البيت الأبيض في ما يخص ممارسة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك، فإنهم يهاجمون البيت الأبيض روتينياً بسبب: «ضعفه» في عدم مواجهة إيران؛ وعدم دعمه لإسرائيل؛ وفشله في العمل بشكل أكبر في ليبيا وسوريا؛ وقراره الوفاء بالالتزامات التي تم التوصل إليها في عهد الإدارة السابقة بخصوص الانسحاب من العراق. ثم إن التطورات الأخيرة لن تزيد الأمور إلا سوءاً ولن تزيد النار الحزبية إلا اشتعالا؛ ذلك أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول برنامج إيران النووي وتهديدات إسرائيل المتجددة بشن هجوم أحادي الجانب عليها، جعلا الجمهوريين يطالبون الإدارة بأن تكون أكثر دعماً لإسرائيل وأكثر صدامية مع إيران.
وعلاوة على ذلك، فإن الحوار المسرب الأخير الذي دار بين الرئيسين ساركوزي وأوباما، والذي أوضح فيه الرجلان امتعاضهما من نتنياهو، لم يجعل الجمهوريين يطالبون الرئيس بالاعتذار للزعيم الإسرائيلي فحسب، وإنما بأن يطالب نظيرَه الفرنسي بالاعتذار أيضاً. وعلى رغم قلق العرب الذين يجدون أن أداء الولايات المتحدة في السعي وراء سلام إسرائيلي - فلسطيني مخيب للآمال وغير متوازن (وبخاصة بعد خطاب أوباما السياسي المؤيد لإسرائيل بوضوح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة)، إلا أن الجمهوريين يعمدون مراراً وتكراراً إلى كيل الانتقادات للرئيس بسبب «خيانته لحليفنا الوحيد» أو «رمي إسرائيل إلى التهلكة».
وعلاوة على ذلك، فإن المأساة المتواصلة في سوريا دفعت الجمهوريين إلى انتقاد أوباما بشدة لفشله في إظهار الزعامة. وعلى غرار دعواتهم الإدارة إلى أن تكون أكثر انخراطاً في ليبيا، فإنهم يطالبون اليوم أيضاً بتحرك ضد نظام الأسد، وذلك على رغم حقيقة أن أي لاعب مسؤول في سوريا أو في المنطقة لم يدع ولن يرحب بدور أميركي.
إن انتقادات الجمهوريين للرئيس لا تستند إلى الواقع؛ ولو نُفذت السياسات التي يدعون إليها، لأدى ذلك إلى عواقب كارثية طويلة المدى على أميركا والعالم العربي. ولكن المحزن جدّاً في كل هذا هو إلى أي مدى فشل الجمهوريون في استخلاص الدروس من إخفاقات بوش. فالجمهوريون، الذين لم يدركوا مدى عمق الحفرة التي تسبب فيها طيش إدارة بوش، مستمرون في دفع أوباما إلى اتباع سياسات لن تؤدي إلا إلى تعميق تلك الحفرة نفسها.
ـ "الديار"
"المعطيات" تشير الى تعامل مختلف لحزب الله مع المرحلة الجديدة...
لا معنى لوجود حكومة اذا اكتفت بدور "الجمهور" فالمطلوب الحسم
ابراهيم ناصرالدين:
الازمة في سورية والمنطقة اليوم تشبه الى حد بعيد تصفيات مونديال 2014في كرة القدم، فهي تتم على مراحل، ومع كل جولة جديدة تزيد الامور صعوبة وتعقيدا، وهي تخضع في حساباتها الى عملية تجميع للنقاط تسمح للفريق الاكثر قوة وتحضيرا بالانتقال من مرحلة الى اخرى وصولا الى المواجهات النهائية التي لا يمكن ان تنتهي بالتعادل فالمطلوب هو تتويج بطل واحد وفي المحصلة لا توجد الا كأس واحدة اما الجوائز الاخرى فهي جوائز ترضية لا تلغي الفرق الاخرى ولكنها تعيدها الى حجمها الطبيعي، فمنها من يكون وصيفا فيما الاخرى تسقط في منتصف الطريق ولا تصل اصلا الى المرحلة النهائية ،لان دورها ليس الا «كمالة عدد»بين الفرق وينتهي دورها عندما تصبح الامور اكثر جدية في مرحلة الحسم التي لا يخوضها الا الاقوياء.
هذه المقاربة بين عالم السياسة وكرة القدم تفرض نفسها اليوم مع الدرس البالغ الاهمية الذي قدمه المنتخب الوطني اللبناني بفوزه على كوريا الجنوبية ،وبغض النظر عن حديث الوحدة الوطنية ومفاعيله وانعكاسه على ارض الواقع، فان الاشارة الاهم التي يجب ان يلتقطها الساسة اللبنانيون من خلال هذا الامر، هي ان التحديات الكبرى لا يمكن مواجهتها بلعب دور الجمهور الذي يصفق ويشجع ويكتفي بتقديم «الصوت «لاضافة نوع من الحماسة لتحفيز اللاعبين، كما لا يمكن في هذه المناسبات لعب دور الحكم الحيادي، والاكتفاء باعطاء النصائح والانذارات ولعب دور «حامل الصفارة»، فلبنان هو جزء من هذه «المباراة» ولا يجوز التعامل مع احداثها بخفة وعدم الاكتراث بانتظار المرحلة المقبلة للتعويض ،فهذا الامر غير مضمون وقد تكون النقاط المجمعة غير كافية اصلا لمواكبة المرحلة المقبلة التي ستكون بالطبع اكثر خطورة.
وهذه المقارنة مطلوبة اليوم لفهم حقيقة موقف لبنان في الجامعة العربية ازاء قرار عزل سورية، وبحسب مصادر سياسية مطلعة على حيثيات اتخاذ هذا القرار، فأن انتقال الموقف اللبناني من الامتناع عن التصويت في مجلس الامن الى التصويت ضد قرار تعليق عضوية دمشق في الجامعة العربية، لا يحتاج الى تبرير من رئيس الجمهورية ميشال سليمان او رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فالمواربة ومحاولات تدوير الزواية لم تعد تصلح في هذه المرحلة بعد ان اصبحت المواجهة مكشوفة وتخاض دون قفازات، وما كان يحكى سرا بات يقال علنا، دول الخليج العربي ومعها تركيا والغرب اتخذوا قرارا علنيا وواضحا بان لا ينجوا الرئيس بشار الاسد من هذه الازمة وبات الكلام دون مواربة عن ترتيب مرحلة ما بعد الاسد، وبالتالي المطلوب من لبنان باكثريته الجديدة الحاكمة ان يجيب عن سؤال اساسي مفاده اين انت من هذه المعادلة؟ هل ستكون شريكا فيها، هل ستقف على الحياد، ام انك ستذهب الى النهاية في الدفاع عن العلاقة الاستراتيجية مع النظام السوري؟
القرار الواضح في الجامعة العربية اوحى بأن الحكومة اللبنانية اتخذت قرارها النهائي بعدم الوقوف على الحياد واتخاذ قرار بمساندة الرئيس السوري في معركته الفاصلة ،لكن الساعات التي تلت اتخاذ القرار جعلت مواقف اكثر من طرف في هذه الاكثرية موضع شك بعد ان باتت التبريرات والتوضيحات الصادرة عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بشكل خاص، عن كيفية اتخاذ القرار، توحي بأن ثمة من يخجل حقيقة من الموقف الذي اتخذه، وكان البعض اراد ان يفهم من يعنيهم الامر ان الموقف اللبناني لا يعكس حقيقة قناعاته الشخصية، وانما الظروف القائمة وتوازنات القوى هي التي املت اتخاذ القرار. فيما يبدو موقف النائب وليد جنبلاط الاكثر وضوحا في مواصلة دعوته للبقاء على «رصيف الانتظار» وعدم الدخول في مواجهة مع «العاصفة» الغربية والعربية التي تضرب دمشق والانحناء في هذا الوقت، علّ الحياد يجنب لبنان التداعيات التي يرى ان نتائجها باتت قريبة.
الاوساط نفسها تشير الى ان حالة «التذبذب» في المواقف لم يعد لها اي مكان اليوم في اجندة المكون الاخر للاكثرية وفي طليعته حزب الله، والواضح من خلال الاتصالات التي جرت خلال الساعات القليلة الماضية ان الحزب لم يرض باي حلول وسطية ازاء الموقف من قرار الجامعة العربية وهو كان حاسما في موقفه ازاء عدم اتخاذ اي قرار هزيل في مواجهة قرار «المواجهة» الذي اتخذه المعسكر الاخر، كي لا يفسر موقف الحكومة اللبنانية «المحسوبة عليه» بأنه نوع من الاستكانة او التراجع عن دعم حليفه في دمشق، وهو اصر على صدور قرار لا يحتمل اي تأويل بدعم الموقف السوري، وذلك لمواكبة اللهجة الواضحة والعالية النبرة لامينه العام السيد حسن نصرالله الذي حدد صراحة موقع الحزب في اي اعتداء قد يطال سوريا، وكذلك كنوع من الرد غير المباشر الذي يروج له المعسكر الاخر عن صفقات تعقد تحت الطاولة مع ايران لاقناعها بالقبول بصفقات على حساب النظام السوري. وبحسب الاوساط نفسها اوحى حزب الله لمن يعنيهم الامر ان تمسكه بالحكومة لن يكون على حساب المعركة الاستراتيجية الاكبر التي تخاض في المنطقة ،واذا كانت المناكفات في زواريب السياسة الداخلية امرا «صحيا» بين مكونات الاكثرية، فأن بقاء الحكومة لن يكون له اي معنى اذا ما تخاذلت عن التصدي للمشروع «الخطير» الذي يرسم للمنطقة، ومن خانته الذاكرة عليه ان يعود قليلا الى الوراء كي تتضح الرؤية لديه، فاساس المعركة الاستباقية التي خيضت لاخراج مشروع «الحريرية» من السلطة كان سببه الاول والاخير حسم ملف السياسة الخارجية للبنان واخراج المتورطين في المشروع من سدة القرار كي لا يكونوا الخاصرة الرخوة لضرب سوريا ومعها قوى المقاومة في المنطقة، وبالتالي اذا تخلت الحكومة ومكوناتها عن هذه الاستراتيجية التي وصلت من خلالها الى السلطة يكون وجودها مثل عدمه وتدخل حينها البلاد في حسابات اخرى. وامام هذه المعطيات يبدو ان حكومة الاكثرية قد حسمت امرها لجهة عدم اتخاذ قرارات «مائعة «في هذه المرحلة ،ولم يعد مهما معرفة حقيقة القناعات الموجودة عند البعض من قوى الاكثرية حول الموقف من الازمة السورية سواء كانت قراراتهم عن قناعة ام نتيجة «ضعف الحيلة»، فالمهم الموقف العلني الذي يعبر عن حقيقة التوازنات القائمة، ولكن ما اصبح واضحا لاكثر من جهة في الداخل والخارج، ونتيجة معطيات محسوسة على الارض ، وبفعل الكلام السياسي الذي يقال في الغرف المغلقة، فان حزب الله يتعامل مع الموقف في هذه المرحلة بطريقة مختلفة عما سبقها خلال الاشهر القليلة الماضية، بما يوحي ان ثمة تطورات اتية، لا احد يعرف طبيعتها ،فهي قد تكون تحسبا لمزيد من «الافعال» قد يرتكبها «المعسكر الاخر» ضد جبهة دول المقاومة، او ربما تكون بداية الخروج من مرحلة «ردود الفعل» الى مرحلة «المبادرة الى «الفعل» بعد ان وصلت الامور الى مرحلة «التصفيات» النهائي
ـ "اللواء"
المعارضة تُعطي الأولوية لتمويل المحكمة على ما عداها من ملفات سياسية أخرى
التحالف الوسطي يعتقد أن تحالف 8 آذار مجبر على القبول بالتمويل لاعتبارات فوق قدرته
"لم يعد سراً أن المسؤولين اللبنانيين تبلّغوا رسائل صريحة بمعاقبة لبنان في حال تمنعت الحكومة عن التمويل"
عامر مشموشي:
خلافاً للانطباع السائد عند الكثيرين من أن تحالف الثامن من آذار يُمسك بعنق الحكومة، وهو من يقرر بقاءها أو استقالتها ويحدد الموعد الذي يرغب فيه استناداً لمعطيات مصالحه الداخلية والخارجية، يصحّ القول أن مثل هذا القرار يعود بالتساوي إلى النسيج السياسي الذي يؤلف الأكثرية الجديدة، وبالتالي فإن ادّعاء فريق الثامن من آذار بأنه هو الممسك بزمام الحكومة والقادر على فرض قراره الآحادي عليها في إسقاط بند تمويل المحكمة الدولية غير دقيق، ولا يخدم بقاء الحكومة في أي حال من الأحوال، لأنه سيدفع حتماً بقية مكونات هذه الأكثرية، التي أعلنت التزامها بتمويل المحكمة، إلى إعادة حساباتها بشأن الاستمرار في المشاركة، وفي تحمل مسؤولية وزر تداعيات هذا الخطأ الجسيم، بحيث يصبح استمرار الحكومة مكلفاً سياسياً وشعبياً جداً على القوى الوسطية وعلاقتها بالشرعية الدولية التي ربطت منذ تكليف الرئيس ميقاتي تشكيل الحكومة تعاونها معها واستطراداً مع الدولة اللبنانية بمدى احترامها لقرارات الشرعية الدولية والتزامها بما يصدر عنها ولا سيما المحكمة الدولية التي أنشأها مجلس الأمن الدولي بموجب البند السابع، وجاء هذا القرار في وقت كان لبنان يشهد انقساماً حاداً حول المحكمة، كاد أن يصل إلى حد الاقتتال الداخلي، وما أحداث السابع من أيار سوى أحد تداعياته•
ولم يعد سراً أن المسؤولين اللبنانيين وتحديداً رئيسي الجمهورية والحكومة تبلّغا سابقاً كما تبلّغا مؤخراً رداً على ما ردده أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، بإسم الحكومة من رفض قاطع وجازم للتمويل رسائل دبلوماسية بمعاقبة لبنان في حال تمنعت الحكومة عن تسديد موجباتها المالية للمحكمة•
ويُذكر في هذا المجال ما سمعه الرئيس نجيب ميقاتي من رئيس وزراء بريطانيا، خلال زيارته الأخيرة إلى المملكة المتحدة، وما سمعه من رؤساء دول ووزراء خارجية عندما كان في نيويورك مترئساً مجلس الأمن الدولي، وما قاله مؤخراً بوضوح مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان من أن لبنان سيكون في مواجهة المجتمع الدولي، وسيتعرض لعقوبات قاسية في حال تخلّف عن التزامه بتمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بالإضافة إلى إعلانه أن العلاقات الثنائية بين بلاده ولبنان ستتأثر سلباً كما ستنعكس أيضاً على علاقات لبنان مع سائر الدول الغربية التي عبّرت في عدة مناسبات عن مواقف مشابهة للموقف الأميركي•
الوسطيون في الحكومة، من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، والنائب وليد جنبلاط، غير مستعدين للرضوخ إلى تهديدات الأمين العام لحزب الله، لأنهم يعرفون مدى حاجته إلى الحكومة، ومدى حرصه على بقائها إلى أن ينجلي الزلزال الذي يضرب حليفته سوريا والذي دخل في مرحلة جديدة بعد قرار الجامعة العربية بالمواجهة مع النظام السوري ورفع الغطاء العربي عنه، وبالتالي سوف يواجهونه بالتمسك بتمويل المحكمة تحت طائلة التهديد باستقالة الحكومة، وتغيير المعادلة القائمة حالياً على التحالف الذي مكّن قوى الثامن من آذار من أن تُمسك بالقرار•
وقد عبّر الرئيسان سليمان وميقاتي والنائب جنبلاط كل من موقعه عن تمسكهم بتمويل المحكمة، ليس تحت عامل التهديد الخارجي بمعاقبة لبنان، بل نتيجة إقتناعهم بأن لبنان جزء من المجتمع الدولي يلتزم بموجباته تجاهه، فضلاً عن اقتناعهم بما يترتب على عدم التمويل من انعكاسات داخلية، قد تطيح بكل مرتكزات الدولة ورهانها على الاستقرار الأمني في ظل ما يشهده العالم العربي من تطورات متسارعة، وفي مواكبة الزلزال الذي يضرب سوريا• وهذا التمسك للتحالف الوسطي الثلاثي من شأنه أن يدفع الأمين العام لحزب الله إلى إعادة النظر في الموقف الذي اتخذه من التمويل، ولو ظهر أمام محازبيه ومناصريه بأنه تراجع تحت ضغط التهديدات الخارجية، خصوصاً وأن حليفه النظام السوري لم يعد في الموقع الذي يسمح له بالوقوف إلى جانبه في مواجهة الداخل والخارج وتقديم الدعم على مختلف أشكاله، بل هو في وضع من هو بحاجة إلى أي دعم يأتيه من الخارج بعدما أصبح معزولاً عربياً ودولياً ويواجه في الداخل ثورة شعبية يتعاظم حجمها كل يوم على عكس ما يحاول هو وبعض حلفائه كالنائب ميشال عون تصوير الأمور، وكأن الثورة الشعبية لفظت أنفاسها الأخيرة وأن النظام استرجع مواقعه وسيطرته على الأمور، ويتهيّأ للانتقال إلى مرحلة جديدة، لإثبات قوته على الأرض•
واستناداً إلى هذه المعطيات، يلتقي المراقبون على أن الكلام التحذيري الذي يتردد في الكواليس عن الوضع الدقيق الذي تمر به الحكومة وهي على مسافة لا تزيد عن الشهر عن القرار الحاسم بالنسبة إلى تمويل المحكمة، هو في محله، غير أن الائتلاف الوسطي داخلها ما زال يملك من الأوراق الداخلية والخارجية ما تجعله قادراً على إدارة دفة اللعبة وإنقاذ الحكومة على خلفية رضوخ فريق الثامن من آذار والتسليم بتمويل المحكمة•