مقالات ودراسات » الرقمنة والأتمتة تهبّان على سوق العمل وتعصفان بمرافقها

بياتريس بارِّينو(*)
تشهد سوق العمل انقلابات حادة لا ترى بالعين المجردة. والرقمنة والأتمتة هما العاملان البارزان في هذه الانقلابات. فقبل عشرة أعوام، لم يكن يدور في حسبان مختص في المستقبليات وتوقعاتها أن في مستطاع سيارة التملص من ازدحام السير من غير سوّاق يقودها. وها إن الـ &laqascii117o;غوغل" كاد يبرهن على أن المستحيل صار جائزاً وواقعاً. وقوة أجهزة الحساب والتسجيل التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من هيكلة الآلات وعملها تصنع ما بدا إلى أمس قريب مستحيلاً أو معجزاً. وفي غضون السنوات العشر المقبلة يقدر المصممون أن سيارات من غير ربان أو سواق ستكون جزءاً من السير. وبعد السيارات الشاحنات، وبعد الشاحنات ربما الطيارات.
وهذه محركات تغيرات تتطاول إلى الاقتصاد، وتوشك أن تعمل بكامل طاقتها. والتحميل على الإنترنت المتنقلة يتجاوز العام المقبل، التحميل على الإنترنت الثابتة. وتتعاظم مساحات تخزين المعطيات على نحو طردي. وإنجازات علم الجينات والمعلوماتية تقلب رأساً على عقب أساسيات الطب. والأجهزة الموصولة، إن في المنزل أو في المكتب أو في المصانع، تتكاثر. والروبوتات الجديدة لا تقتصر على القيام بأعمال رتيبة، بل تكيف ردودها مع الإشارات الخارجية. فالعالم كله، بقضه وقضيضه، دخل في &laqascii117o;البيغ داتا"، أو بحار المعطيات التي تعالجها الحواسيب الضخمة والقوية. والمقارنة بين الابتكارات الجديدة والابتكارات الصناعية، في أوائل أواسط عصر التصنيع، مثل القطار أو الكهرباء أو السيارة، تنبه إلى تواضع الابتكارات الجديدة في ميزان الإعلام والأصداء العامة التي تثيرها هذه الابتكارات.
فبعض ما ينجم عن إنجازات الرقمنة والأتمتة، بل معظمه يبقى طي الخفاء. فما لا شك فيه هو أن الآلات التي تتولى مبادلات الأسهم والسندات حلت محل عدد كبير من عملاء الصرافة، ولكننا نجهل عدد الصرافين هؤلاء. ولا أحد، من الجهة الأخرى، يرى هذه الآلات. ووتيرة التغيير تحصل بسرعة خاطفة. والآلات التي تسمى &laqascii117o;الآلات المعلِّمة"، وتعمل في حقل التنظيم والابتكار الآليين، تلقن برمجيات جديدة أيضاً. ولا يعقل ألا يكون للتجديد البرمجي أثار عميقة في المهن والمعارف، وفي سوق العمل أخيراً. والأمر الجديد حقاً، هذه المرة، أن موجة الرقمنة الهاجمة لا تقتصر مفاعيلها على المصانع، بل تتعداها إلى المكاتب والخدمات.
وأحصى مكتب دراسات واستشارات رولان بيرجيه استجابة لطلب &laqascii117o;لوبوان"، مرافق العمل الموصوفة بمستوى تأهيلها العالي، ويُتوقع أن تصيبها مفاعيل موجة الرقمنة والأتمتة. والمهنة الأولى على لائحة هذه المهن هي مهنة الساعي في جمع التأمينات والوسيط بين المضمونين وبين شركات الضمان. وذلك لأن تعرفات الضمان منشورة على الشبكة، وبهذه الحال على الساعي الانصراف إلى مهمة واحدة هي استشراف حاجات الزبائن، والمفاوضة على التعرفات مع الضامنين، والتحكيم في حال الخلاف. وفي حقل آخر مثل الصحافة المختصة، في مقدور برمجية &laqascii117o;كيل" تحرير مقالات نموذجية (في الطب، وكرة القدم، وقطاع البناء والمواصلات...). وتتولى برمجية ETQ معظم العمل الذي تقتضيه مراقبة الشركات وهيئات التحكيم في دعاواها. وعمد أستاذان في معهد ماساتشوستيس للتكنولوجيا (إم آي تي) ببوسطن، هما إريك برينجولفسون وأندرو ماكفي صاحبا كتاب &laqascii117o;عصر الآلة الثاني"، إلى تحليل نتائج الرقمنة وغلبتها على الاقتصاد وسوق العمل. ويرى المؤلفان أن وتيرة الرقمنة السريعة هي العامل الأول في ركود سوق العمل في الولايات المتحدة، على رغم استئناف النمو العام.
ولا تعفّ هذه الظاهرة عن فرنسا حيث يفوق نمو الإنتاجية في الساعة (وهي بلغت 0.64 في المئة سنة 2014، على تقدير رولان بيرجيه) زيادة دخل الفرد (0.34 في المئة). ويخلص المؤلفان الأميركيان إلى أن الدينامية التكنولوجية تفاقم الفرق بين الوظائف الضرورية والعالية التأهيل وبين غيرها من الوظائف، وهي التعليل الوافي لركود الأجور المتوسطة في الولايات المتحدة، ولتعاظم أرباح قلة قليلة من النافذين وأصحاب القرار (في المرافق والمنشآت الاقتصادية). فالرقمنة أضعفت، في المرتبة الأولى، أصحاب المهن المتوسطة التأهيل وجرت المصائب على الطبقة الوسطى.
والاقتصاد المنتج الجديد، والمفرط الإنتاجية، بخيل بمرافق العمل والوظائف. وعندما اشترى فايسبوك، في 2012، موقع تبادل الصور إنستاغرام مقابل بليون دولار، لم يكن عدد مستخدَمي الموقع الذي يبلغ عدد مشتركيه 30 مليوناً، يتجاوز الـ13 مستخدَماً. وفي آخر تصنيف شهرية &laqascii117o;فورتشِن" للشركات الـ500 الكبرى في الولايات المتحدة، حلت وول – مارت في المرتبة الأولى، ويبلغ عدد عامليها مليوني شخص. ويحل غوغل المرتبة 43، ولا يزيد عدد العاملين في الشركة عن 50 ألف مستخدم. ولكن قيمة محرك البحث في البورصة تبلغ 375 بليون دولار حين لا تتجاوز قيمة شركة التوزيع 246 بليوناً.
وفي كانون الأول (ديسمبر) 2013، قام باحثان بجامعة أوكسفورد، كارل بينيديكت فراي ومايكل أوسبورن، بقياس آثار موجة الرقمنة في 702 وظيفة أو مرفق عمل بالولايات المتحدة. وانتهيا إلى أن 42 في المئة من المرافق يتوقع انهيارها. وحذت شركة رولان بيرجيه حذو دراسة باحثي أوكسفورد، وتناولت السوق الفرنسية ومهنها. وخلصت إلى أن أكثر المهن تعرضاً للأخطار الناجمة عن الرقمنة والأتمتة هي مهنة مستشاري الضرائب (99 في المئة) والوساطة العقارية (81 في المئة)، وفي مجالات أخرى مهنة مشغلي آلات الإضاءة (97 في المئة ) والساعاتية (99 في المئة). وعلى خلاف هذا، الأرجح أن تبقى بمنأى من الأخطار مهنة إدارة الموارد البشرية (1 في المئة) ومهنة التجهيز العملاني (1 في المئة) وتركيب البدائل الطبية (صفر في المئة) والتحليل النفسي (صفر في المئة). والخلاصة أن 42 في المئة من المهن (وعددها 702) معرضة لأخطار التنحية والضمور. وليس بين هذه المهن تلك التي تتولى إزجاء الخدمات للأفراد، ولا الحرف التقليدية (الطهي، المجوهرات، صناعة القوالب...). فهي آمنة.
ويلاحظ باحثا أوكسفورد أن مهن الخدمات، وهي رتيبة ومتوسطة العوائد، تتصدر الأعمال الهشة. فتقدمُ الأتمتة يفرغها من مضمونها، ويتركها من غير عمل تؤديه. فينشأ تدريجاً عالم آخر من سماته تعاظم المهن اليدوية التي تفتقر إلى التأهيل والمهارة مثل الحفاظ على نظام الآلات ولياقتها أو المراقبة أو المساعدة البيتية. ولائحة مهن المساعدة البيتية مرشحة للتكاثر، على ما يرى رولان بيرجيه. وإلى الطبابة، فمعظم المهن التي يُقدَّر نموها وتكاثرها تدور في 4 أفلاك أو حقول: البيئة، التجارة، الإدارة والتكنولوجيا. وغداً، ينهال الطلب على خبراء استهلاك الكربون، ومديري العلاقات الجمعية، وجامعي مناجم المعلومات، وغيرهم من أمثالهم. ويحصي رولان بيرجيه حوالى 60 مهنة يتوقع لها مستقبلاً زاهراً، أولاها مهنة مولج بدراسة البيئة (ويتولى قبل إنشاء المواقع الصناعية دراسة آثار المصنع المتوقعة في ضوء المعايير السائدة)، ومسؤول الطاقة (ويتولى احتساب النفقات المترتبة على أعباء الطاقة وحاجاتها) ومسؤول الأمن المعلوماتي، ومهندس أبحاث وتنمية، وخبير في قانون العمل... إلخ. ويقتضي معظم هذه المهن إنجاز دراسة جامعية واختصاصٍ في حقولها المتفرقة.
ودَأَب التجديد التقني على إلغاء مرافق عمل و &laqascii117o;تدميرها" وعلى خلف أو إنشاء وظائف بديلاً منها. والحال تجري اليوم على المثال نفسه، وهو مثال &laqascii117o;التدمير الخلاق" أو &laqascii117o;المبدع الذي وصفه جوزيف شوميتير، وهو حمله تفاؤله على الحسبان أن كفة الأعمال الجديدة ترجح كفة الأعمال &laqascii117o;المدمرة" أو الملغية، على الأمد البعيد. أليس التجديد &laqascii117o;إكسير التقدم"، على قول &laqascii117o;ذي إيكونوميست"؟ والمشكلة أن الحساب، على الأمد القريب، مخيب للتوقعات، وقد يتطاول الأمد القريب ويدوم فلا تلوح نهايته المرتقبة - وينبغي ربما تصنيف إريك برينجولفسون وأندرو ماكفي في خانة المتشائمين. فهما يريان أن موجة الابتكارات الحالية لا مثيل لها من قبل، فهي بركانية، وتلغي في طريقها المثالات الاقتصادية المعهودة والمجربة.
ومن القرائن على صدق تشاؤمهما الرعب الذي بثه موقع استئجار الشقق السكنية بين الأفراد، Airbnb، في صفوف الفنادق، أو موقع ascii85ber في صفوف سوّاقي التاكسي بأوروبا. فموجة الرقمنة لا تعفّ عن الصحافة وعن سوق المال أو النقل أو التوزيع أو التلفزة أو المطاعم. وينهض تيسير الانتقال الحتمي من عالم إلى آخر هذه المرة كذلك على التعليم. وتشاء سخرية التاريخ أن يتطاول الانقلاب الاقتصادي إلى أساسياته: فشيوع الـ &laqascii117o;موكس" (Moocs) أو المحاضرات المتاحة للجمهور على الشبكة، يدعو إلى التفكير في اقتصادات الجامعات والمعاهد العالية. وتحتل الرياضيات مكانة متصدرة في الإعداد للمهن الرائجة والمتوقعة، شأن التدريب على البرمجة المعلوماتية.
(*) صحافية، عن &laqascii117o;لوبوان" الفرنسية، 3/8/2014، إعداد منال نحاس.
المصدر: صحيفة الحياة

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد