أبحاث ودراسات » الخطر القادم: حلف ناتو جديد اميركي ــ اسرائيلي ــ عربي ــ اسلامي

صوفيا ــ جورج حداد

يوجد اجماع بين مختلف الحركات والقوى الوطنية العربية، اليسارية والقومية والدينية، بأن "وعد بلفور" ــ الصادر في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 ــ حول انشاء "الوطن القومي اليهودي" في قلب الوطن العربي، كان جزءا لا يتجزأ من "اتفاقية سايكس ــ بيكو" ــ في 1916 ــ حول التقسيم الاستعماري للبلدان العربية.

وقبل هذا التاريخ كان المفكر النهضوي العربي نجيب العازوري (وهو من قرية عازور قرب جزين بجنوب لبنان) قد كتب سنة 1904 يقول: ان مستقبل المنطقة العربية يتوقف على الصراع بين الحركة القومية العربية والحركة القومية الصهيونية.

وطوال قرن واكثر فإن الصراع العربي ــ اليهودي، الصهيوني (فالاسرائيلي) كان يمثل ــ موضوعيا او مباشرة ــ الحلقة المركزية في صراع جماهير الامة العربية وحركة التحرر الوطني العربية مع النظام الامبريالي العالمي.

وفي الظروف التاريخية الراهنة، تغيرت الاوضاع وانقلبت 180 درجة وصار مستقبل منطقة "الشرق الاوسط الكبير" يتوقف بشكل رئيسي ليس على الصراع العربي ــ الاسرائيلي بل على خطر "السلام" العربي ــ الاسرائيلي، وخطر قيام حلف عدواني امبريالي جديد: اميركي ــ ناتوي ــ اسرائيلي ــ عربي ــ اسلامي، يقف ضد محور المقاومة الفلسطينية ــ العربية ــ الاسلامية.

وقد نشأ هذا الخطر بناء للمتغيرات الجيوسياسية العالمية والعربية والاسرائيلية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
عــالميــا:
1ــ بناء على جدلية قانون مركزة وتمركز (concentration and centralization) الرأسمال، فبعد حربين عالميتين طاحنتين آلت الرأسمالية الاحتكارية العالمية الى اندماج الطغمة المالية الاحتكارية اليهودية بالاحتكارات المالية الاميركية العالمية، والى ازاحة الامبريالية البريطانية عن مركز الصدارة، وتزعم  الامبريالية الاميركية ــ اليهودية للنظام الامبريالي العالمي. ومن خلال هذا الواقع عملت الامبريالية الاميركية ــ اليهودية لان تفرض، بقوة السلاح، نظاما عالميا جديدا يقوم على هيمنة القطب الامبريالي الاميركي ــ اليهودي الواحد على العالم، وتحويل جميع شعوب العالم الى مزرعة دواجن بشرية يتحكم بحياتها ومصائرها زمرة من "اشباه آلهة معتوهين" من طغاة الرأسمال الاحتكاري الاميركي ــ اليهودي العالمي. ويعتبر ذلك ايديولوجيا تجسيدا للمزعومة او الاكذوبة "الالهية" التوراتية ــ التلمودية حول التمييز بين "شعب الله المختار" وكل ما عداه من "الغوييم" (اشباه البشر).

ـ2ــ ولكن، بناء على قانون "وحدة وصراع المتضادات" و"ان الرأسمالية تنتج ذاتها بذاتها حفّاري قبرها"، فإن نزعة الهيمنة العولمية للامبريالية الاميركية ــ اليهودية انتجت "المحور الشرقي" الجديد الذي يضم ثلاثا من اعظم واقوى واغنى دول وامم العالم واعرقها حضاريا هي: روسيا والصين وايران، التي جاءت الى هذا "المحور" بمسار تاريخي، سياسي وايديولوجي وديني مختلف لكل منها. وقد انضمت ايضا الى هذا المحور دولة فنزويلا التي هي "غربية الموقع ــ شرقية الهوى" (وتعتبر فينزويلا  ثالث دولة منتجة للنفط ورابع دولة مصدرة له في العالم، ويبلغ انتاجها 2,276,967 برميل يوميا، وهي عضو في منظمة اوبك). وعلى الضد من نزعة الاحادية القطبية لاميركا، فإن "المحور الشرقي" الجديد، وبمجرد وجوده كرّس التعددية القطبية في العالم، وهو يعمل لإسقاط نزعة الهيمنة الاميركية ــ اليهودية على العالم، وتوسيع التعددية القطبية لتشمل جميع دول وشعوب العالم، الكبيرة والصغيرة، الغنية والفقيرة، القوية والضعيفة.

3ــ ان توسيع نطاق التعليم وتعميمه، وتقليص المسافة بين العلوم والانتاج، وبين العمل الفكري والعمل اليدوي، والتطور في قطاع العلم بما في ذلك علوم الالكترونيات والتحكم عن بعد والتكنولوجيا الحربية، وغيرها من ظواهر التقدم الحضاري ــ التقني للمجتمعات البشرية حتى افقرها، كل ذلك لا يصب في الحساب الاخير في مصلحة النظام الرأسمالي الاحتكاري والامبريالية العالمية، القائمة على احتكار وسائل العلم والانتاج. ونرى بالعين المجردة كيف ان كوريا الشمالية الصغيرة والمحاصرة والفقيرة اصبحت تهدد بالصواريخ عابرة القارات وبالاسلحة النووية اميركا ذاتها، وكيف ان اسرائيل صاحبة اقوى واحدث جيش في المنطقة اصبحت تحسب الف حساب لاية مواجهة مع شباب ورجال المقاومة الفلسطينية في جيب غزة الصغير والمحاصر، او مع المقاومة الشعبية بقيادة حزب الله في لبنان الصغير والمجوّع.

4ــ ان الكتلة الامبريالية العالمية وعلى رأسها الاميركية ــ اليهودية فقدت الى الابد اولوية التفوق العسكري على "المحور الشرقي"، حيث يقدّر الخبراء ان روسيا تتقدم، بالنوع لا بالكم، 50 سنة على اميركا، في قطاع التكنولوجيا العسكرية المتطورة. وجميع الجنرالات الاميركيين اصبحوا يرتعدون امام فكرة احتمال مواجهة عسكرية شاملة بين روسيا واميركا. كما تقترب الامبريالية الاميركية بسرعة  من فقدان اولوية التفوق الاقتصادي، انتاجيا وتجاريا وماليا، امام العملاق الصيني.

5ــ في العقود الاخيرة تدور بين الكتلة الامبريالية الغربية و"المحور الشرقي" معركة رئيسية للسيطرة على العمود الفقري للاقتصاد العالمي اي قطاع الطاقة (اساسا النفط والغاز) من الاستخراج الى الانتاج الى النقل الى التسويق. وفي اطار هذا الصراع تدخل كل الحروب العدوانية التي شنتها اميركا و"اسرائيل" منذ مطلع القرن الـ21؛ وتحت عنوان السيطرة على تزويد اوروبا بالنفط والغاز تدخل "الثورات الملونة" في اوكرانيا وجورجيا وغيرهما من البلدان "الاشتراكية" السابقة، والحرب الاوكرانية الراهنة؛ وتحت عنوان السيطرة على استخراج النفط والغاز من شرقي المتوسط يدخل "الربيع العربي" المشؤوم، ومشروع "الخلافة الداعشية" الفاشل، و"ثورة 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019" و"حرب التجويع" الاميركية ضد الشعب اللبناني، والحرب الظالمة على الشعب اليمني التي تقودها السعودية. وقد واجهت كل هذه الحروب و"الثورات"، وتستمر في مواجهة الفشل، بفضل مقاومة شعوب المنطقة والدعم الحاسم من قبل "المحور الشرقي".   
 
6ــ انطلاقا من هذه المعطيات الجيوسياسية والجيوستراتيجية، فإن عقارب ساعة الزمن التاريخي اصبحت تسير بعكس مصلحة الامبريالية الغربية بزعامة اميركا. وقد فقدت الامبريالية الاميركية ــ اليهودية نهائيا ترف الوقت الكافي "لادارة" الصراع العربي ــ الاسرائلي وتوجيهه في اتجاه تثبيت وجود اسرائيل عبر تدعيم عدوانيتها وتضخيم حجمها عبر احتلال المزيد من الاراضي العربية. واصبحت مصلحة الامبريالية العالمية بزعامة اميركا تقتضي توحيد الانظمة العربية العميلة والمطواعة وجميع الطوابير الخامسة العربية، مع اسرائيل، ومع تركيا "العثمانية الجديدة"، ومع الرجعية الاسلاموية العميلة في مختلف البلدان الاسلامية، في جبهة موحدة ضد المقاومة الشعبية الفلسطينية واللبنانية والعربية والاسلامية، المدعومة من قبل الجمهورية الاسلامية الثورية الايرانية خاصة، و"المحور الشرقي" وجميع احرار العالم عامة.

عــربيــا:
1ــ  في الفترة ما بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية سيطرت الامبريالية العالمية على منابع النفط والممرات التجارية الدولية في منطقة الشرق الاوسط، وأنشأت اسرائيل، وصنعت الانظمة العربية لحماية منابع النفط ولتدعيم وحماية وجود اسرائيل تحت الشعارات الشوفينية "العربية" الزائفة والدينية "الاسلاموية" الكاذبة. وقد تأكد هذا الدور الخياني  للانظمة العربية في حرب 1948-1949، التي لم تكن سوى مسرحية حرب لتثبيت وجود الدولة الاسرائيلية، عبر اجهاض الثورة الشعبية الفلسطينية ضد الغزو الصهيوني، وطبع الصراع بطابع صراع دولي بين: الدولة اليهودية "المعتدى عليها"، والدول العربية التي "تعتدي" على اسرائيل وحقها "المشروع" في الوجود. وقد تكرس هذا الواقع في توقيع اتفاقيات الهدنة بين الدول العربية واسرائيل، برعاية الامم المتحدة، وهي الاتفاقيات التي تعتبر اول اعتراف رسمي عربي "دي فاكتو" (de facto) بالدولة اليهودية الغازية. وتثبت ابحاث مراكز الدراسات الفلسطينية وغيرها ان الجيوش العربية "الشقيقة" التي شاركت في حرب 1948-1949 كانت كلما دخلت منطقة تطلب اولا وقف عمليات المقاومة الشعبية الفلسطينية والانصياع للقيادات الميدانية العربية. وكانت النتيجة ان كل منطقة دخلتها الجيوش العربية تمت في النهاية السيطرة عليها، بهذا الشكل او ذاك، من قبل العصابات الصهيونية، وكأن الحرب لم تكن سوى تخريجة مسرحية لعملية تسليم الارض الفلسطينية لليهود. وينطبق ذلك على القدس الغربية ذاتها التي كانت محاصرة من قبل المقاومة الشعبية الفلسطينية، وقطعت عنها المواد الغذائية والمياه، وكانت القيادة الصهيونية فيها تبحث في كيفية الاستسلام. فجاءت القوات العربية "الشقيقة" وطلبت فك الحصار الشعبي الفلسطيني، وان تلك القوات هي التي ستتولى تحرير القدس الغربية، وهو ما حدث عكسه طبعا. وينطبق ذلك على "جيش الانقاذ" للمتطوعين الشعبيين العرب الى جانب المقاومة الشعبية الفلسطينية، فإن الدور الفعلي لـ"جيش الانقاذ"، الذي شكلته الانظمة العربية، كان: احتواء حركة التطوع الشعبي العربي، ومنع التواصل المباشر بين المتطوعين العرب وبين المقاومة الفلسطينية. وتفيد الابحاث التاريخية ان كل منطقة فلسطينية دخلها "جيش الانقاذ" كان يتم فيها تعطيل وشل المقاومة الشعبية الفلسطينية، وتسليم تلك المنطقة بهذا الشكل او ذاك للعصابات الصهيونية. كما تفيد الابحاث التاريخية ان الجيوش العربية طلبت من المواطنين الفلسطينيين اخلاء بيوتهم وقراهم والنزوح "لبضعة ايام فقط" من اجل "تسهيل المهمة القتالية" للقوات العربية المحاربة. وبعد تشتيت الفلسطينيين خارج فلسطين، وبموجب اتفاقيات الهدنة العربية ــ الاسرائيلية، صارت "خطوط الهدنة" بمثابة "حدود دولية" معترف بها من قبل الامم المتحدة والانظمة العربية ذاتها، وصار "حق العودة" والعمل الفلسطيني المقاوم، عبر خطوط الهدنة، يعتبر "عدوانا" عربيا على اسرائيل، بموجب قوانين ما يسمى "الشرعية الدولية"، ويتوجب على الانظمة العربية منعه ومحاربته حفاظا على تلك "الشرعية الدولية" وعلى اتفاقيات الهدنة وما تبعها من اتفاقيات "فصل القوات" و"البوليس الدولي" وما اشبه. وفي لبنان مثلا اعلنت الدولة منطقة الجنوب الحدودية كمنطقة عسكرية تخضع لقانون الطوارئ، وذلك ليس لحماية لبنان من الاعتداءات الاسرائيلية، بل لمنع اي مقاومة ضد اسرائيل. وكانت القوات المسلحة النظامية اللبنانية مخولة باطلاق النار للقتل بدون انذار على اي عنصر او مجموعة مقاومة ضد اسرائيل. وبعد حرب 1967، فإن الفدائيين الفلسطينيين الذين قاموا بالتسلل ونسف انبوب النفط للتابلاين (الذاهب الى حيفا) في الجولان المحتل، ماتوا تحت التعذيب "الاخوي" في اقبية المخابرات العربية المعنية.

ـ2ــ ان مهمة تكريس وتوسيع وجود "اسرائيل" لم تقتصر على الانظمة العربية "الرجعية" و"العميلة"، بل امتدت هذه المهمة لتشمل الانظمة "الوطنية" و"التقدمية" و"الثورية" العربية، كالنظام الناصري في مصر والنظام البعثي في سوريا والعراق.
وظهر ذلك في العدوان الثلاثي على مصر في حرب السويس في 1956. فتحت صخب الاناشيد الحماسية والشعارات الطنانة مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"  و"ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" و"ارفع رأسك يا اخي"، تم تنفيذ قرارات الامم المتحدة بالانسحاب من سيناء، مقابل تنازلين مصريين هما:

ــ الاول: الاعتراف باعتبار قناة السويس ممرا دوليا يحق لـ"اسرائيل" استخدامه على ان لا ترفع السفن العلم الاسرائيلي لان "اسرائيل" هي في "حالة حرب!؟" مع مصر.

ــ والثاني: اعتبار خليج العقبة ممرا دوليا ايضا يحق لـ"اسرائيل" استخدامه. وبموجب هذا الاعتراف فإن ميناء ايلات الاسرائيلي في رأس خليج العقبة تحول الى اكبر مرفأ في اسرائيل، اكبر من ميناء حيفا على البحر الابيض المتوسط.

وعشية حرب حزيران 1967، كان النظامان "الوطنيان" و"العروبيان" و"التقدميان" و"الثوريان": الناصري، يحكم في مصر؛ والبعثي، يحكم في سوريا والعراق؛ بكل الامكانيات الهائلة لهذه البلدان والطاقات الثورية لجماهيرها.

ومع ذلك جرى إخراج سيناريو الحرب في حزيران 1967، بطريقة تم فيها تدمير جميع المطارات الحربية المصرية والطائرات الرابضة على الارض في الساعات الاولى من الحرب، ومن ثم تم تمزيق  القوات المصرية التي كان قد جرى تجميعها وتكديسها في صحراء سيناء بدون خطة لا دفاعية ولا هجومية، وصارت منذ الساعات الاولى للحرب بدون غطاء جوي، فجاء الطيران الاسرائيلي وصار الطيارون الاسرائيليون يمارسون ساديتهم بالتسلّي وهم يقصفون بالقنابل ويحصدون بالرشاشات الجنود والضباط المصريين الشجعان، ولكن العطشى والجوعى والمتروكين، التائهين قي رمال الصحراء الحارقة، وهو ما يدخل تحت عنوان "جرائم حرب" لم يتم الى اليوم محاسبة اسرائيل عليها من قبل ما يسمى "الشرعية الدولية".

وفي مرتفعات الجولان، وكما يقول العديد من الخبراء العسكريين، كان يحتشد 70 الف جندي وضابط من خيرة قوات الجيش العربي السوري، ومن كل انواع الاسلحة: الطيران والمدفعية والمدرعات والمشاة. وكانت المواقع السورية مبنية، حسب المخططات السوفياتية المجربة، تحت وفوق سطح الارض، في ثلاثة خطوط، كل خط منها مجهز حتى ضد الحرب النووية وغير قابل للسقوط (اذا امكن إسقاطه)، الا بعد معارك شرسة وحصار طويل لمدة شهور. ويقول هؤلاء الخبراء انه لا يوجد اي تفسير عسكري لسقوط الجولان؛ وبالعكس فإن كل شمال ووسط اسرائيل كان تحت رحمة المدافع السورية في الجولان، التي كانت مخفية ومحمية في اوكار تحت الارض. ومع ذلك تلقت القوات السورية امرا لا يزال لغزا الى اليوم، يقضي بـ"الانسحاب الكيفي" امام القوات الغازية اليهودية  التي تقدمت في شبه "نزهة عسكرية". كما ان راديو دمشق اذاع بلاغا لا يزال ايضا لغزا الى اليوم، يعلن سقوط مدينة القنيطرة، بسكانها الـ500 الف، قبل ثلاثة ايام من وصول اي جندي اسرائيلي اليها. وكان محافظ القنيطرة حينذاك احد ابرز قادة حزب البعث العربي الاشتراكي في حينه السيد عبدالحليم خدام، نائب الرئيس السوري لاحقا. وحتى اليوم لم يعلن عن اجراء اي تحقيق رسمي سوري كيف امكن السقوط "العجائبي" تحت الاحتلال للجولان والقنيطرة. وحتى اليوم لا يزال الجولان محتلا، واتخذ الكنيست الاسرائيلي في 1981 قرارا بضم الجولان الى اسرائيل التي اخذت تبني فيه  المستوطنات.

3ــ وبعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر استمر النظام الناصري، او نظام "الضباط الاحرار" في السلطة، وتسلم زمام القيادة انور السادات الذي كان اليد اليمنى لعبدالناصر، والى جانبه الماسوني محمد حسنين هيكل الذي احتفظ بمركزه بوصفه المستشار الاول للرئيس، من عبدالناصر الى انور السادات.

وتعود للنظام "العروبي" و"الثوري" الناصري، بقيادة انور السادات، وليس لاي نظام عربي رجعي وعميل مكشوف، مأثرة تدشين عصر "التطبيع" القانوني "دي جور" (de jure) ، مع "اسرائيل"، عبر توقيع اتفاقية كامب دايفيد، التي اخرجت مصر، الدولة العربية الاكبر، من معادلة الصراع العربي ــ الاسرائيلي. وبعد توقيع اتفاقية كامب دايفيد تم وضع انور السادات تحت حماية المخابرات الاميركية. ويقول الكثير من المعلومات الاعلامية انه قبل ساعات من اغتيال السادات سحبت عناصر الحماية الاميركية عنه. و"اعطي شرف" تصفية الخائن السادات للاسلامويين المصريين. ولكن النتيجة كانت انه: ذهب السادات، وجاء مبارك، وبقيت كامب دايفيد. وفيما بعد، وعلى خلفية "الربيع العربي" المشؤوم، ذهب مبارك، وبقيت كامب دايفيد؛ وجاء بعده الى الرئاسة الاسلاموي محمد مرسي، وبقيت كامب دايفيد؛ ثم ذهب مرسي ايضا، وبقيت كامب دايفيد؛ ثم جاء من جديد الضابط "الناصري" عبدالفتاح السيسي، وبقيت كامب دايفيد.

4ــ وبعد كامب دايفيد، كانت خطوة التطبيع الثانية من قبل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها التي، من وراء ظهر الشعب الفلسطيني ومنظمات المقاومة الفلسطينية بمن في ذلك كوادر وقواعد منظمة فتح، وقع رئيسها المرحوم ياسر عرفات مع اسحق رابين وبرعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون، ما يسمى "اتفاقية اوسلو" في 1993، التي بموجبها اقيمت سلطة المختارية الفلسطينية في رام الله برعاية الاحتلال الاسرائيلي. وقد شقت هذه الاتفاقية صفوف الفلسطينيين، ووصل الامر بالسلطة الفلسطينية الى حد التنسيق الامني مع قوات الاحتلال الاسرائيلي ضد المقاومين الفلسطينيين. وطبعا علينا ان لا ننسى ابدا ان ما يسمى زورا وبهتانا "منظمة  التحرير الفلسطينية" ليست منظمة للشعب الفلسطيني المظلوم والمقاوم، بل هي منظمة مفروضة على الشعب الفلسطيني، وتابعة لنظام الانظمة العربية، جرى تأسيسها بموجب قرار صادر عن مؤتمر قمة الملوك والرؤساء العرب المنعقد في القاهرة عام 1964.
ثم اعقبت اتفاقية اوسلو "اتفاقية السلام" الاردنية ــ الاسرائيلية، المعروفة تحت اسم "اتفاقية وادي عربة"، على قاعدة "لن نكون "فلسطينيين" اكثر من الفلسطينيين انفسهم".

ـ5ــ وفي هذه الاجواء "التطبيعية"، وعلى خلفية الصراعات الداخلية والطائفية والمذهبية والشوفينية (ضد ايران الثورية) التي اثارها وجرى في ظلها "الربيع العربي" المشؤوم، الذي حركته وادارته المخابرات الاميركية والاسرائيلية والتركية والسعودية، كُسر طابو "التطبيع" مع اسرائيل، واصبح التطبيع مسلكا سياسيا "عاديا" ومجرد "وجهة نظر" بل "حقا" من "الحقوق السيادية" لكل دولة عربية على حدة. وفي السنوات الاخيرة كرت سبحة "التطبيع" مع اسرائيل، وفتح السفارات وتبادل الزيارت على اعلى المستويات بين الدول العربية "المطبعة" وبين اسرائيل. بل وذهبت بعض الدول المطبعة الى القول ان التطبيع انما هو لمصلحة الشعب الفلسطيني.

ـ6ــ وعلى خلفية النزاع المذهبي التاريخي، السني ــ الشيعي، وامام تصاعد شعبية ونفوذ الجمهورية الاسلامية الايرانية كنتيجة منطقية لتبنيها الصادق للقضية الفلسطينية ودعمها غير المحدود للمقاومة الشعبية الفلسطينية واللبنانية والعربية والاسلامية ضد اسرائيل وحاضنتها الدولية الامبريالية الاميركية ــ اليهودية، فإن الانظمة العربية المطبعة والنازعة الى التطبيع مع اسرائيل، وهي جميعها انظمة تحكمها "السنية السياسية"، اصبحت ترى ان المقاومة المدعومة من قبل ايران الثورة والتي تشكل تهديدا ضد وجود اسرائيل،  اصبحت تشكل موضوعيا تهديدا ضد وجود تلك الانظمة ايضا، وان احتمال سقوط اسرائيل سيؤدي حتما الى سقوط تلك الانظمة. ولذلك فإن تلك الانظمة تتجه للسير بالتطبيع مع اسرائيل الى النهاية، بالاستعداد للدخول في تحالف وجودي، عربي ــ اسرائيلي ــ اسلامي (سني) ــ دولي، ضد ما يسمى "الخطر الايراني ــ الشيعي". وعلى هذه الخلفية تستبدل الانظمة العربية والاسلامية الخائنة (التركية والباكستانية وغيرها) شعارات المتاجرة القديمة بالقضية الفلسطينية والعداء الكلامي الكاذب لاسرائيل، بشعارات العداء لايران والشيعة وضرورة التحالف مع اسرائيل والامبريالية الاميركية والصهيونية واليهودية العالمية.

اسرائيليا:
ـ1ــ تاريخيا، ظهر ما يسمى "المسألة اليهودية"، ونبذ اليهود وعزلهم في غيتوات وشن حملات عدائية ضدهم، في اوروبا، كردة فعل على الممارسات السلبية (الربا، النخاسة، اللصوصية، ادارة اوكار القمار والمواخير، الاحتكار وبيع السلع الضرورية باسعار فاحشة في وقت الازمات الخ) من قبل الطغمة المالية اليهودية المتحدة مع كبار الزعماء الدينيين والسياسيين اليهود.
وقد اتخذت الامبريالية العالمية، بزعامة بريطانيا في حينه، من "المسألة اليهودية" ذريعة لاصدار وعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917، لاستخدام اليهود العاديين لتشكيل قاعدة متقدمة للامبريالية العالمية في منطقة الشرق الاوسط. وكان ذلك طبعا بالتنسيق التام مع الطغمة المالية اليهودية العليا والزعماء الدينيين والسياسيين اليهود، الذين وجدوا في ذلك فرصة لتكوين ما يسمى "الوطن القومي اليهودي" كحل لـ"المسألة اليهودية" في اوروبا.
ولكن في 7 تشرين الثاني 1917، اي بعد خمسة ايام فقط من صدور وعد بلفور، انفجرت الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا، التي طرحت حلا آخر، اشتراكيا، انسانيا وامميا، لـ"المسألة اليهودية"، وهو الاندماج الوطني لليهود في كل بلد يولدون ويعيشون فيه.
وقد اختارت قلة قليلة جدا من اليهود العاديين "الحل القومي اليهودي" الانعزالي الذي طرحه وعد بلفور، وسافر بضعة آلاف فقط من اليهود العاديين الى فلسطين.

في حين ان الغالبية الساحقة من اليهود العاديين في روسيا واوكرانيا وبولونيا والمانيا واوروبا اختارت "الحل الاشتراكي الانساني ــ الاممي" الاندماجي، لـ"المسألة اليهودية". وقد شارك مئات الآلاف بل ملايين اليهود العاديين في الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية وبولونيا، ثم في المانيا والمجر وغيرها. وقدم عشرات الالوف منهم حياتهم في الثورات الاشتراكية في اوروبا بعد الحرب العالمية الاولى.
هذه الوقائع جعلت القيادة اليهودية العالمية تصاب بالهستيريا (بالمعنى الحرفي للكلمة)، فاتخذت قرار التصفية الجسدية لغالبية اليهود السوفييت والاوروبيين لاجبار من يبقى منهم حيا على الهجرة الى فلسطين.

ولهذه الغاية عمدت القيادة اليهودية العالمية (التي نقلت مركزها من بريطانيا الى اميركا) الى:
اولا ــ الدعم السري لهتلر والحزب النازي في المانيا لاستلام السلطة والقيام بتصفية اليهود الاوروبيين العاديين بما يسمى الهولوكوست.
وثانيا ــ الدعم السري للمغامر السياسي الوصولي، قاتل زعيم الثورة الروسية لينين، والخائن الاكبر للشيوعية، الدكتاتور المتوحش والديماغوجي الكذاب الكبير، جوزف ستالين، الذي تولى اعدام مئات آلاف الشيوعيين اليهود السوفيات، بفبركة شتى التهم ضدهم كـ"التروتسكية" و"الانحراف اليميني" ثم "الانحراف اليساري" او التخريب او العمالة للانكليز او العمالة للالمان. ومن ابرز ضحايا عمليات "التطهير" في 1937 المارشال الفذ ميخائيل توخاتشيفسكي، رئيس اركان الجيش الاحمر، وصاحب الفضل الاول في تحديث وتجديد الجيش الاحمر وصياغة وتطوير اسس العلم العسكري السوفياتي. والجدير ذكره في هذا السياق ان كل وزراء الداخلية الذين اشرفوا على عمليات "التطهير" في عهد ستالين كانوا من اليهود (الذين كانوا ينفذون الخطط السرية لليهودية العالمية)، وهم:   هنريخ ياغودا، ونيكولاي يجوف، واخيرا لافرينتي بيريا. كما كان يوجد لدى ستالين "لجنة مستشارين" خاصة، سرية، مشكلة من اليهود فقط. وكانت مهمة هذه اللجنة مراجعة قوائم المحكومين في حملات "التطهير"، ولا سيما المحكومين بالاعدام، واعطاء الموافقة على كل اسم على حدة. وكان ستالين يصادق على اللوائح الصادرة عن تلك اللجنة.
وفي 29 تشرين الثاني 1947 صوت المندوب الستاليني في الامم المتحدة لصالح قرار تقسيم فلسطين واقامة الدولة اليهودية، جنبا الى جنب مندوب الولايات المتحدة الاميركية.

ـ2ــ منذ المؤتمر الصهيوني العالمي الاول في بازل في سويسرا في 29 اب 1897 وحتى حرب 1948-1949، كان هدف القيادة اليهودية العليا، واداتها "القومية": المنظمة الصهيونية العالمية، اقامة وتثبيت وجود الدولة اليهودية في فلسطين. ووضعت الدولة اليهودية الغاصبة علما لها يتألف من نجمة داود (وترمز الى مملكة داود) وقلمين ازرقين في الاعلى والاسفل ويرمزان الى نهري الفرات والنيل. اي ان علم اسرائيل هو رمز لمشروع توسيع "مملكة داود" وانشاء "اسرائيل الكبرى" من النيل الى الفرات.

3ــ ومنذ حرب 1948-1949 وحتى الاجتياح اليهودي للاراضي اللبنانية، بمساعدة معسكر الخيانة الوطنية: حزب الكتائب اللبنانية وتفريخاته وحلفائه، في حزيران 1982، كان هدف الدولة اليهودية، المدعومة بشكل كلي وشامل من قبل الامبريالية العالمية وعلى رأسها الاميركية، ومن قبل الانظمة الرجعية والنفطية  العربية والاسلامية العميلة (كالسعودية وتركيا وباكستان واندونيسيا)، والمدعومة ايضا بشكل سري من قبل الجيوب العميلة في النظامين "الوطنيين": الناصري في مصر، والبعثي في سوريا والعراق، ــ كان الهدف توسيع رقعة الاحتلال "الاسرائيلي" للاراضي العربية، على طريق انشاء "اسرائيل الكبرى".

4ــ وفي 25 ايار 2000 اضطر الجيش الاسرائيلي، لاول مرة في تاريخ الصراع العربي ــ اليهودي والصهيوني والاسرائيلي، للانسحاب من الجنوب اللبناني المحتل بدون اي اتفاقات مسبقة، اي انه اضطر للانسحاب مهزوما تحت نار المقاومة الشعبية اللبنانية بقيادة حزب الله.
وشكل هذا الانتصار التاريخي نقطة تحول جذري في الصراع العربي ــ الاسرائيلي، في بعدين رئيسيين هما:

الاول ــ عسكريا وجيوستراتيجيا: انه كشف نهائيا فشل ستراتيجية الحرب النظامية (سياسيا كأنظمة، وعسكريا كجيوش نظامية خاضعة للانظمة) في مواجهة اسرائيل؛ ومن ثم أكد صحة وامكانية ستراتيجية حرب التحرير الشعبية لتحرير جميع الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.

والثاني ــ وهو الاهم: ان هذا الانتصار وضع حدا فاصلا بين مرحلتين تاريخيتين في وجود اسرائيل. فحتى احتلال الاراضي اللبنانية كانت اسرائيل تواصل مرحلة الصعود وتوسيع رقعة الاحتلال للاراضي العربية، ولكن في 25 ايار 2000 تم توقيف مرحلة التوسع، وبدأت مرحلة الانحدار والانكماش الاسرائيلي. وبكلمات اخرى: بدأت مرحلة تحرير الاراضي العربية والفلسطينية المحتلة، على ايدي المقاومة الشعبية الفلسطينية واللبنانية والعربية والاسلامية. وباعتبار ان اسرائيل، كل اسرائيل، ليست سوى قوة استعمارية غاصبة، فهذا يعني انه بدأت مرحلة ازالة وجود اسرائيل كدولة غاصبة ومحتلة لكل شبر ارض تقف عليها هذه الدولة الاستعمارية المصطنعة، التي اقامتها ولا تزال تحميها وتدعمها وتغذيها الامبريالية العالمية بقيادة الامبريالية الاميركية ــ اليهودية.

5ــ ان هذا التغيير الجذري في الوضع الجيوستراتيجي لوجود اسرائيل يجبرها على التحول من ستراتيجية الهجوم الى ستراتيجية الدفاع عن وجودها كدولة، وهذا ما يدفعها بقوة نحو التطبيع مع الانظمة العربية الخائنة، لمساندة بعضها بعضا في مواجهة موجة المقاومة الشعبية الثورية الفلسطينية واللبنانية والعربية والاسلامية.

6ــ ان هذا الواقع الجيوستراتيجي المستجد سيجبر اليهودية العالمية لان تسحب من الاستعمال اسطوانة المفاهيم التوراتية المشينة حول اسرائيل الكبرى واسرائيل من الفرات الى النيل والصهيونية المتطرفة المعادية للفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين، وان تدفع الى مؤخرة المسرح السياسي الاسرائيلي اليمين الاسرائيلي المتطرف، وتدفع الى مقدمة المسرح "اليساريين" و"الانفتاحيين" و"الدمقراطيين" الصهاينة، وترفع شعارات "حوار الاديان" و"اخوة ابناء الديانات الابراهيمية" وشعار الدولتين اليهودية والعربية في فلسطين وغير ذلك من الديماغوجيا الهادفة الى تضليل الجماهير الفلسطينية والعربية المظلومة ودفعها للقبول "السلمي" بالاحتلال الاسرئيلي ووجود الدولة الاسرائيلية.

7ــ وعلى قاعدة تلاقي المصلحة الوجودية لاسرائيل وللانظمة الرجعية العربية الخائنة، مع المصالح الكبرى للامبريالية الاميركية ــ اليهودية والعالمية في منطقة "الشرق الاوسط الكبير" (حسب التوصيف الاميركي)، ينشأ الان خطر تكوين حلف عدواني امبريالي جديد: اميركي ـــ ناتوي ــ اسرائيلي ــ عربي ــ اسلامي، لمواجهة وضرب معسكر المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعربية والاسلامية.

***

بعد "اكتشاف" اميركا في نهاية القرن الخامس عشر، وفي ظروف تخلّف وسائل الاتصال والمواصلات في ذلك الزمن، ومن خلف ظهر جميع شعوب العالم، استطاعت الامبريالية الاوروبية الصاعدة ان تصدّر الى شمال القارة الاميركية الغزاة الاستعماريين البيض، وخصوصا من اليهود والبروتستانت والانغليكانيين، الذين ابادوا 112 مليون "هندي احمر" سكان البلاد الاصليين، واقاموا فوق جماجمهم "الدولة الدمقراطية جدا!" المسماة "الولايات المتحدة الاميركية".

اما اليوم فإن الزمن هو زمن الشعوب المظلومة الطامحة الى الحرية؛ وان تراجيديا "الهنود الحمر" في اميركا لن تتكرر في "الشرق الاوسط الكبير"؛ ومهما كبرت التضحيات، فإن المقاومة الشعبية الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعربية والاسلامية، المدعومة من قبل "المحور الشرقي" الجديد، وخصوصا من قبل الثورة الايرانية، ستنتصر على المعسكر الامبريالي ــ الصهيوني ــ الرجعي العربي والاسلامي، وعلى جميع الطوابير الخامسة "التطبيعية" و"الحيادية" و"السيادية" الخيانية، اللبنانية والعربية والاسلامية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد