صحافة دولية » كيف صنع الإعلام الأميركي الرئيس المنتخب؟

في 30 أيلول الماضي، سجلت صحيفة «سان دييغو يونيون تريبيون» سابقة في تاريخها الممتد لـ148 عاما، إذ أعلنت تأييدها لمرشح ديموقراطي للرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون. كان هذا أيضا أول تأييد لمرشح ديموقراطي من جانب صحيفة «ديترويت نيوز» منذ 143 عاما، والأول في تاريخ صحيفة «أريزونا ريبابليك» منذ 126 عاما.
لم يكن دونالد ترامب يحظى بشعبية لدى الصحف الأميركية، ومن بين الصحف المئة الأوسع انتشارا، لم يحظ المرشح الجمهوري سوى بتأييد اثنتين. وبينما أيدت أكثر من 200 صحيفة كلينتون، حصل ترامب على دعم أقل من 20 صحيفة. وحتى بعض هذا الدعم لترامب كان فاترا على أقل تقدير، وكان أفضل تعليق في هذا الصدد قد ورد من صحيفة «فورت واين نيوز سنتنيل» في السطور التالية: «شكرا للرب على مايك بنس (نائب الرئيس المنتخب)». كذلك وصفت صحيفة واشنطن تايمز ترامب بأنه شخص معيب وأقرت بأنه «فظ وسوقي».
ما فعلته وسائل الإعلام بالفعل هو أن ترامب أصبح لديه «جميع الأعداء المتوقعين: الخبراء، علماء الاجتماع، أفراد النخبة والأكاديميين ومروّجي الأخلاق المناهضين للسياسات الفاشلة». لقد شعر الإعلام بأن صورة ترامب يمكن أن تُرسم من جانب «وسائل إعلام حزب واحد».
كان انتصار ترامب ضربة قاسية لهؤلاء الخبراء المبغوضين والمضطلعين ببواطن الأمور المقربين من النخبة السياسية «ومروجي الأخلاق»، لكن هذا الانتصار كان أيضا إهانة لآلاف الصحافيين الذين قضوا شهورا يحاولون تحذير الرأي العام من دونالد ترامب.
فشل الصحافة
 أشار البروفسور جيف جارفيز، من مركز «تو ـ نايت سنتر في ريادة الصحافة» التابع لـ «جامعة مدينة نيويورك»، وهو داعم قوي لكلينتون، إلى فشل الصحافة بشكل واضح. «الحقيقة الخالصة لترشيح دونالد ترامب هي فشل الصحافة.» ويشعر جارفيز، مثل كثيرين آخرين من طبقة الإعلام الليبرالي، بأن نجاح ترامب هو إشارة إلى أن وسائل الإعلام فشلت في نقل الحقيقة بالفاعلية اللازمة. ويرى أن عقد مقارنة بين قضية تسريب رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون وجميع الانتقادات الموجهة لترامب بداعي تحقيق التوازن هي مقارنة مضللة.
هناك وجهة نظر (ليبرالية) أخرى تقول إن وسائل الإعلام منحت ترامب مساحة كبيرة جدا للتعبير عن نفسه بدون تنقيح. فبدلا من الشعور بالفزع أحبت قطاعات كبيرة من الجمهور مشاهدة ما يقوله ترامب. ويمكن أن يُنظر إلى الصحافة المطبوعة بشكل أساسي على أنها فشلت في رواية القصة الحقيقية، فيما منحت شاشات التلفاز مساحة مفتوحة لترامب.
انتصار التلفزيون
 في عام 1968، واجه روجير آيلز، الذي أصبح لاحقا رئيسا لشبكة «فوكس نيوز»، مشكلة تتمثل في كيفية ظهور (الرئيس الأميركي الأسبق) ريتشارد نيكسون على شاشة التلفاز بدون أن يخضع ذلك لرقابة أو تنقيح من جانب ما كان يعتبرها وسائل إعلام معادية.
وكان الحل الذي لجأ له آيلز هو تصوير فقرات تلفزيونية خاصة لنيكسون وعرضها بعد ذلك على المحطات التلفزيونية. وبعد مرور 48 عاما، فعلت شبكة «سي ان ان» بالفعل الشيء نفسه لترامب مجانا. والحماسة داخل فريق «سي إن إن» تجاه ترامب كان مردها لشيء بسيط هو نسب المشاهدة. بالإضافة إلى ذلك فإن جيف زوكر رئيس شبكة «سي إن إن» كان الرجل الذي استعان بترامب في برنامج «ذا ابرنتيس» حينما كان يعمل الأول لدى شبكة «إن بي سي»، وربما زوكر، وأكثر من أي شخص آخر، هو الذي جعل من ترامب نجما تلفزيونيا.
لم يكن أحد يعلم ما سيقوله ترامب، ولذا فإن الكاميرات لم تلجأ مطلقا إلى فقرات من خطابه. لدينا الآن رئيس يمتاز بجاذبية تلفزيونية ولا يمكن التنبؤ بما سيقوله، وهو الشخص الذي ستتعقبه الكاميرات وتقديرات الشعبية في أي مكان ذهب إليه. لكن الأمر الغريب بشأن خُطب ترامب هو إلى أي مدى كانت كلماته تشير إلى قضايا وموضوعات لا تكون جزءا من الأجندة الإخبارية المعتادة.
الإعلام البديل
 في الصيف الماضي، أكد ترامب مجددا أن كلينتون هي من «اخترعت تنظيم الدولة الإسلامية»، وهذا الزعم لا يجذب المزيد من الدعم في معظم الصحف أو المواقع الإلكترونية. لكن مثل هذا الزعم كان له صدى كبير في موقع «انفو ورز» الذي يديره الصحافي والمذيع الأميركي ألكس جونز. وقدم الموقع مزاعم أخرى تقول إن كلينتون لديها «شبكة شريرة» سرية وتعاني مرض شلل الرعاش «باركنسون» بالإضافة إلى العشرات من نظريات المؤامرة الأخرى.
ومن خلال تحليل خُطب ترامب يمكن اكتشاف إشارات إلى العديد من القصص التي ترفضها معظم وسائل الإعلام التقليدية، لكنها حظيت بدعم وحماسة في العالم المتنامي لمصادر إخبارية بديلة. وهذه «المجموعة» الإعلامية الجديدة، أي الإعلام البديل، تمتاز بقدر كبير من الرواج والإقبال. وقالت شركة «توبيولار انسايتس» للتحليل الإلكتروني في منتصف الحملة الانتخابية إن موقع «انفو ورز» كان الموقع صاحب أعلى مستوى مشاركة (إشارات الإعجاب وتبادل التعليقات) من خلال المقاطع المصورة التي يبثها.
وهناك نجم آخر بزغ تحت لواء ما عُرف بـ «اليمين البديل» وهو موقع «برايت بارت» الإخباري الذي يتبنى أجندة تناقض أي شيء يُعتبر مسلما به من الناحية السياسية أو متعدد الثقافات. وتشير تقديرات لمؤسسة «أليكسا» الإلكترونية إلى أن موقع برايت بارت تجاوز في شعبيته صحف «لوس انجلوس تايمز» و «نيويورك بوست» و «فوكس» و «سليت» و«نيويوركر» بالإضافة إلى المواقع الإخبارية لشبكات «سي بي اس» و «إن بي سي» و «ايه بي سي». وإذا أردت أن تعرف مدى القرب بين موقع «برايت بارت» وترامب، يمكنك أن تنظر إلى ستيف بانون الرئيس التنفيذي لبرايت بارت الذي أصبح مدير حملة ترامب الانتخابية.
أكثر تسلية
 في خضمّ الحملة الانتخابية، درست مؤسسة «امباكت سوشال» التي تحلل نشاط وسائل الإعلام على مواقع التواصل الاجتماعي في ولاية فلوريدا. وبعد استبعاد التعليقات الخاصة بالخبراء والصحافيين وباقي مجتمع المتحدثين على «تويتر»، اكتشفت مؤسسة «امباكت سوشيال» أن ترامب يتقدم بفارق كبير عن كلينتون من حيث التعليقات الإيجابية للمغردين، وهذا جاء مناقضا لاستطلاعات الرأي التي كانت تشير إلى تقدم بسيط لكلينتون على ترامب.
وتنفي مؤسسات استطلاعات الرأي تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي في الاستطلاعات لأنها تراها تمثل فئة واحدة لا تعكس جموع جمهور الناخبين في الولايات المتحدة، لكن هذا بالفعل ربما لا يقدم دليلا على التأثير العاطفي للناخب.
وفّر ترامب فرصة للناس للتحدث في أمور كثيرة وكان لذلك صداه، وفي ما يتعلق «بالحصة الإلكترونية للتعبير عن الرأي»، كان ترامب هو الفائز. الحاجة إلى عناوين رئيسية جاذبة وقصص تحظى بالمشاركة غيرت من كل شيء، والمقالات الرصينة والمتوازنة (مثل هذه المقالة) لا تثير الغضب أو الضحك أو الكثير من حيث العاطفة والمشاعر.
كان ترامب ببساطة أكثر تسلية وأثار المزيد من العاطفة. وفي وجود بيئة أخبار تنتقل بعيدا من عالم مشاهدة الاشتراكات والتعيينات الطويلة الأجل إلى عالم جديد من النقرات وتوصيات الأصدقاء وخدمة «فايسبوك» الإخبارية، فاز ترامب.
(ديفيد سيليتو ـ بي بي سي)

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد