صحافة دولية » مقالات مختارة من مواقع إلكترونية أجنبية

 - موقع 'كاونتر بنتش'
آرنو ماير / أستاذ الشرف في التاريخ في جامعة برينستون
يرصد ماير بعض التناقضات في النفسية الجمعية الإسرائيلية، حيث يجتمع الحس بالاضطهاد وتقمص دور الضحية إلى نزعة انتقامية قوية تظهر في أشكال اعتداءات عسكرية على دول الجوار وعلى الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ويرى الكاتب أن إدامة ارتباط إسرائيل براعيها الأميركي أمر ينطوي على الكثير من المخاطر، نظراً لمؤشرات يراها على أفول هذا الراعي وخفوت هيمنته في منطقة الشرق الأوسط. ومرة أخرى، يطرح ماير ما سبق أن طرحه صهاينة قدامى أو يساريون إسرائيليون من ضرورة أن تشرع إسرائيل في البحث عن سبل للتكامل مع محيطها الإقليمي واللجوء إلى خيارات أكثر سلمية وتصالحية من نهجها الماضي والراهن.

تبدو إسرائيل واقعة في قبضة نوع من الفصام الجمعي. وينطوي الإسرائيليون على أوهام بالتميز والاضطهاد معاً، ليس على مستوى الحكام فقط، وإنما على مستوى كامل سكان إسرائيل من اليهود، وذلك للتعويض عن التشوه الحادث في الواقع والسلوك غير المتساوق في إسرائيل. ويرى اليهود الإسرائيليون أنفسهم، كما يقدمون أنفسهم على أنهم شعب مختار وجزء من حضارة غربية متفوقة. وهم يعتبرون أنفسهم أكثر منطقية وعقلانية وأخلاقية وديناميكية من العرب والمسلمين بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. وفي الوقت نفسه، يشعر هؤلاء بأنهم المحصل النهائي لمعاناة الشعب اليهودي الفريدة عبر العصور، والذين ما يزالون موضوعاً لغياب الإحساس بالأمن، وبأنهم بلا دفاع في وجه هجمة عقابية متطرفة ومستمرة لا تكف عن تهديدهم.

تفضي مثل هذه الحالة النفسية إلى نجوم حس بالغطرسة ونزعة الانتقام، بحيث تكون الأخيرة ردة فعل على التعذيب اليهودي المقيم الذي يقال إن ذروته تمثلت في الهولوكوست، كما لو كان ذلك لغاية مقصودة. وقد أصبح إحياء ذكرى المحرقة الآن بمثابة الوصية اليهودية الحادية عشرة والأكثر مركزية في دين الدولة المدني والرسمي. وتشيع الأسرة والمدرسة والكنيس والثقافة الرسمية رواية منظورها هذا وتروج لهذه الرواية، هذه الرواية المقطوعة عن سياقها النصي والمحتشدة بالمركزية العرقية. ويخضع إحياء ذكرى وضع الضحية اليهودي لشكل طقوسي في يوم إحياء ذكرى المحرقة، ويتجلى تعبيره المؤسسي والحسي في متحف إحياء ذكرى الهولوكوست.

تستخدم إسرائيل الهولوكوست لتستحضر شبح معضلة وجودية غير محدودة بزمن، والذي يستخدم بالتالي لتبرير نزعة الدولة الحربية ودبلوماسيتها المتصلبة العاطلة من أي مرونة. وبتقديم نفسها للأبد على أنها داود التوراتي العصي على الانكسار في مواجهة جوليات الإسلامي، تصر إسرائيل على أن حروبها كافة عبر الحدود وعملياتها القصاصية والتأديبية هي كلها دفاعية، وقائية أو استباقية. ومع ذلك، يهيل قادتها، ومعظمهم من كبار مسؤولي القوات المسلحة والأجهزة الاستخبارية، يهيلون الثناء على مغامرات الجيش، والأسلحة المتقدمة، والاستراتيجيين المثاليين، والمواطنين الجنود المنضبطين على نحو فريد في 'قوات الدفاع' التي لا تقهر، وهي واحدة من أكثر آلات القتال قدرة في العالم كله.

هذه التهنئة للذات تعمل على تجاوز العدو 'الآخر' الذي بلا حول، بينما تبالغ بكثافة في وصف قوة إسرائيل إلى حد إفساد الحكم والسلوك. من دون الدعم الهائل، وخاصة الدعم المالي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن إسرائيل لن تكون أكثر من دولة شرق أوسطية صغيرة غير استثنائية، وليست قوة إقليمية عظمى. وحتى مع هذا الدعم الخارجي غير المعتاد حقاً (ناهيك عن دعم الشتات اليهودي في العالم)، فإن إسرائيل لا تسجل سوى انتصارات بيرونية، نظراً لفلشها الظاهر في تحسين موقفها الاستراتيجي والسياسي في 'الشرق الأوسط الكبير' –ما عدا الوقت الذي كسبته لتزيد من ترسيخ وتوسيع 'وقائعها على الأرض' التي تواجه تحدياً شرساً، في الضفة الغربية والقدس والجولان.

رغم أن قادتها يتجنبون قول ذلك في العلن، فإن إسرائيل لا تريد السلام، أو تسوية سلمية شاملة ودائمة، إلا وفق شروطها الخاصة. وهم لا يجرؤون على البوح بهذه الشروط علناً، لأنها تفترض مسبقاً استسلام العدو غير المشروط، بل وحتى خضوعه المقيم. بدلاً من ذلك، يستمر الفلسطينيون في أن يكونوا موضع اللوم عن وجود حالة حرب مزمنة تستلزم استمرار الحس الإسرائيلي بالخطر وإدامة نزعة العسكرة. أما الفرضية الاستراتيجية الكامنة وراء هذه السياسة، فهي الحاجة إلى منع حدوث أي تغيير يعتد به في ميزان القوى في غرب آسيا.

لكن هناك احتمالا لوجود سبب أقل استغراقاً في الوهم لرفضهم التكيف والمفاوضات: لسبب تاريخهم الموسوم بالمنفى ورغبتهم في حكم أنفسهم، ربما يكون اليهود وحكماؤهم غير ممتلئي الذهن إلى حد كاف بنظرية وممارسة صناعة الدولة السيادية. وينبغي الاعتراف بأن قادة الكثير من الدول الجديدة في عوالم ما بعد الكولنيالية عام 1945 كانوا على قدر مساو من العجز والجهل. وعلى عكس الكثيرين منهم مع ذلك، ثمنت نخبة إسرائيل السياسية ومفكريها عالياً علاقاتهم العميقة مع الغرب، بما في ذلك إرثه الفلسفي والثقافي، إلى حد وضع طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمام التقارب مع العالم العربي والمسلم. ومع ذلك، يبدو هؤلاء غير قانعين بالأفكار الأساسية من أمثال أفكار مكافيللي وكلاوسفتز، حيث يضع منظرا السياسة والحرب على التوالي، إلى تأكيد قيمة الاعتدال على الإفلات من العقال. ويضع ميكافيللي الفضيلة في مركز معادلته لاستخدام النفوذ والقوة الجبرية. لكنه لا يصنفها مع ذلك على أنها مبدأ أخلاقي –كفضيلة- وإنما كوصفة للحصافة والمرونة والحس بالحدود المحسوبة في سياسة القوة.

من جهته، ينظر كلاوسفتز للحرب المحدودة التي تخاض لخدمة غايات معروفة جيداً وقابلة للمراجعة والتفاوض، حيث يتفارق الإقصاء من أجل التسوية بمعدلات مختلفة لخدمة أهداف المنتصر ومطالبه. لكنه يحذر فوق كل شيء من الحرب 'المطلقة' التي يوضع فيها العقل والمنطق والحكم السليم جانباً موضع الإهمال. ورغم أنه يقيم مع ميكافيللي، حساباً لتأويل السياسات المحلية والدولية، إلا أنهما كليهما يفهمانها على أنها تشكل منطقتين متفارقتين متمايزتين. في إسرائيل، تسود السياسة الداخلية، مع اهتمام قليل بأسباب السياسات الدولية.

تتصل هذا الاستبصارات بشكل خاص بالدول الصغيرة. لكن قادة إسرائيل، وقد أعماهم تجاهلهم الناجح للمحددات والقوانين، يفهمون بلدهم المكون من سبعة ملايين نسمة (أكثر من 20% منهم من غير اليهود الذين أغلبهم من العرب) على أنه قوة عظمى بسبب قواته المسلحة المتضخمة فوق العادة وصناعة الأسلحة لديه. ويخدع هؤلاء أنفسهم بافتراض أن دعم العالم الغربي لقوتهم العسكرية بالغة التفوق لا يمكن أن يتواني أو يذهب. وبتجاهل الفضيلة، يشن هؤلاء حملات عسكرية شبه مطلقة ضد المقاومة الفلسطينية الراديكالية. كما يدرسون إمكانية ضرب إيران المنبعثة بأحدث الطائرات المصنعة أميركياً –أو الطائرات الممولة التي تعمل بطيارين إسرائيليين ذوي شهادات أميركية. كما لا تتردد تل أبيب في إرسال الإرساليات العسكرية والتقنية، و'الاستخبارات' المختفية، كما والأسلحة، إلى عشرات الدول الشرق أوسطية، وفلك الاتحاد السوفياتي السابق، وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وكثيراً ما يكون ذلك بالتنسيق مع واشنطن.

إن إرهاب الدولة يظل متكاملاً على نحو مثالي مع أحدث الأسلحة والتكتيكات التي تشتبك فيها القوات الإسرائيلية مع مقاتلي المقاومة الفلسطينية. ويلجأ الأخيرون بالطبع إلى الإرهاب، باعتباره علامة فارقة في أعمال الحرب اللامتكافئة. لكن إسرائيل هي التي تزرع الريح وتحصد العاصفة. ثمة دورة شرسة لا تنتهي من الانتقام الذي تولده الصدامات بين جيش إسرائيل مفرط الثقة بالنفس والمعقد التركيب والنظامي مع قوات خام غير نظامية وشبه عسكرية، وعلى نحو يكثف أكثر من حالة انعدام الثقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بمن فيهم الإسرائيليون العرب الذين معظمهم من المسلمين. وعلى الرغم من كونه يهدف إلى كسر إرادة الميليشيات المسلحة عن طريق إيقاع ألم لا يحتمل بالمجتمع المضيف، كما في لبنان وغزة، فإن الضرر الجماعي الذي تحدثه حملات إسرائيل من أجل 'الصدمة والرعب'، لا تفعل سوى تسعير نار الغضب ورغبة الانتقام لدى الذين بلا حول.

منذ تأسيس إسرائيل، كان الفشل في السعي نحو تفاهم وتعاون عربي- يهودي هو أعظم خطيئة إسقاط للصهيونية (يوداه ماجنيت). وعند كل منعطف رئيسي منذ العام 1947-48، كانت لإسرائيل اليد العليا في الصراع مع الفلسطينيين، وقد حازت مرة واحدة على الهيمنة العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. وقد أصبحت هذه القدرة علنية بشكل خاص بعد حرب الأيام الستة في العام 1967. ولك أن تتأمل عمليات الضم والمستوطنات، والاحتلال والحكم العسكري، والمذابح المنظمة والاختراقات التي يقوم بها المستوطنون، والمعابر الحدودية ونقاط التفتيش، والجدران والطرق المعزولة المخصصة للإسرائيليين. ولم يكن أقل إيلاماً للفلسطينيين ذلك العدد الهائل غير المتكافئ من المدنيين الذين قتلوا وجرحوا، وما يقارب 10.000 سجين في السجون الإسرائيلية.

رغم الشجب الأخير لعملية 'الرصاص المصبوب' في غزة، تستمر طبقة إسرائيل الحاكمة والمهيمنة بالوقوف موقف اللامبالاة. ومع ذلك، يتزايد الدليل على أن جيش البلاد يصبح أقل تكيفاً باطراد مع خوض أعمال الحرب المعاصرة غير المركزية وغير النظامية، بينما تصبح سياستها الخارجية أقل تساوقاً ورهينة للسياسات غير الثابتة لسياسة الحزبين المتنافسين وصراعاتهما. ولما كانت غير ثابتة على المستوى الجيوبولوتيكي، فإن علاقة إسرائيل مع واشنطن تعاني من وطأة ذات الرياح التي تعصف الآن بمركز وأطراف الإمبراطورية الأميركية.

حتى مع ذلك، وتحت حث الشجاعة التي توفرها أسلحتها القوية التقليدية وغير التقليدية، يتعهد حكام إسرائيل الآن، في ازدراء للمعارضة اليسارية الضعيفة والمتفرقة في الكنيست والبلد كلها، بالتمسك بمعظم أرخبيل المستوطنات وكامل القدس. وعلى أن هؤلاء لا يقدمون سوى الكلام العاطل من المحتوى حول حل الدولتين، إلا أن كل ما هم مستعدون لتقديمه للفلسطينيين لا يتعدى شبه دولة زائفة متداعية ومتشظية، بالحد الأدنى من السيادة، بينما تظل غزة منفصلة عن الضفة الغربية. وإذا ما تعرضوا للضغط، فإنهم ربما يوافقون على حفر نفق بطول 30 ميلاً تحت الأرض السيادية الإسرائيلة لخلق تواصل اصطناعي بين الضفة الغربية المتشظية وقطاع غزة المسيج. لكنهم ينوون مع ذلك إدامة السيطرة على الأرض والحدود البحرية والبرية، كما وعلى المجال الجوي والذبذبات الألكترومغناطيسية.

في الغضون، تستمر إسرائيل في اللعب على الانقسامات الداخلية في الشعب الفلسطيني، وعلى عدم التوافق السائد في العالم العربي والمسلم. ولا يكره قادتها شيئاً قدر كراهيتهم قيام مصالحة بين الفصيلين الفلسطينيين الرئيسين؛ حماس وفتح، أو قيام حكومة وحدة فلسطينية، أو حدوث توافق كامل بين الدول العربية التي تعتبر إسرائيل مبادرتها السلمية التي قدمتها العربية السعودية في العام 2002 منذورة لمصيرها المحتوم. أما آخر الأشباح الظلامية فهي إيران الشيعية غير العربية. وإذا ما استطاعت قوة طهران وتوجهها الأيديولوجي أن تزرع الرعب فيما يدعى بالدول العربية المعتدلة، خاصة مصر والسعودية وسورية، فإن هذه الدول ربما تحتشد جميعاً حول مبادرة السلام العربية الخادعة. ويمكن لهذه الانعطافة أن تدفع بإيران على الأرجح إلى زيادة دعمها للإسلام السياسي الراديكالي في كامل أنحاء الشرق الأوسط الكبير، بما في ذلك حزب الله في لبنان، وحركة حماس في فلسطين، وطالبان والقاعدة في أفغانستان والباكستان. وإذا ما استجابت إسرائيل لذلك بتسرعها المعهود، فإنها ستستمر بالملاحة الخطرة بين الأنظمة العربية.... دائمة الإحساس بعدم الأمان وغياب معرفة الوجهة للعالم العربي والمسلم، وبين اضطراب سياسي يزداد كثافة، دافعاه علماني وديني.

بينما يركز البد على الأمن القومي –بينما يتم التحدث عن إيران باعتبارها الخطر الأخير، المباشر، والوجودي- فإن إسرائيل تفهم في كل الأماكن الأخرى وإلى حد كبير أنها تزيل بسرعة ما يتبقى من رأسمالها الأخلاقي الوحيد ومكانتها الدولية. هناك المزيد والمزيد من الدعوات للمقاطعة، والحظر، والتجريد، والعقوبات، والاستثناءات، بينما الإعلام يعطي أخيراً مزيداً من الحيز والوقت للأصوات التحليلية والمنتقدة. إن أهمال أو شجب هذا الانتقاد المتنامي لسياسات إسرائيل باعتباره معاداة سامية قديمة منبعثة –والتي يزعم بأنها تحظى بتشجيع وشرعية من اليهود الكارهين لذاتهم- لا يعني أن يرى المرء الأشجار غابة. وينطبق الأمر نفسه على وسم قادة إسرائيل قادة أجانب متنوعين مهمين –ناصر، عرفات، صدام حسين، أحمدي نجاد- على أنهم نسخ عن هتلر.

لكن ردات الفعل الانعكاسية القديمة تبقى، كما يعمل أفق نجوم إيران إسلامية، والتي يقال إنها منكبة على حيازة الهيمنة الإقليمية على إبقاء تلك الردات سريعة. بسكان يبلغ عددهم نحو 70 مليوناً، وباحتياطيات تقدر بحوالي 15% من نفط العالم وغازه الطبيعي، تشكل إسرائيل في الحقيقة دولة يمكن وضعها في الاعتبار: إن لها تاريخا طويلا، وإجماعا وطنيا اقوى، وطبقة متوسطة متعلمة متضخمة. كما أن صواريخها ثنائية المراحل والمدفوعة بالوقود الصلب قادرة على حمل رؤوس حربية تقليدية وغير تقليدية وقطع مسافة تتراوح ما بين 930 إلى 1.200 ميل.

بدلاً من الانضمام إلى أولئك الذين يسعون إلى توظيف السبل الدبلوماسية لتعديل موازين القوة الإقليمية، تؤيد إسرائيل فرض حظر اقتصادي شامل على إيران، مدعوم بالتهديد بتوجيه ضربات جوية. أما هدف المتشددين فهو: قدح زناد تغيير في النظام على طريقة ثورة ملونة تشعلها الولايات المتحدة وإسرائيل في الخفاء. ويحذر هؤلاء من أن تل أبيب سوف تبلي حسناً في هذا التهديد بالهجمات الجوية على مواقع إيران النووية لتأخيرها أو منعها من تطوير أسلحة نووية. حتى أن ساسة مهمين ومثقفين مشهورين يعتقدون بأن إسرائيل سوف تضرب في أسوأ الأحوال من دون موافقة واشنطن، واثقة من أن الولايات المتحدة لا تمتلك بديلاً سوى تقديم الغطاء الدبلوماسي والعسكري لها، بل إن إسرائيل ربما تستطيع الآن أن تستخدم القواعد العسكرية الأميركية الخمس في الأرض المقدسة لابتزاز واشنطن.

في شهر آذار (مارس) عام 2009، حيا باراك أوباما وشيمون بيرس الشعب الإيراني والحكومة بمناسبة عيد النيروز، بداية السنة الفارسية الجديدة. وأكد أوباما على 'الإنسانية المشتركة التي تربطنا معاً' وأصر على أن من مصلحة كلا البلدين أن 'تأخذ إيران مكانها المستحق في مجتمع الأمم'. أما بيرس، فضرب على نغمة مختلفة جذرياً، حين حث الإيرانيين على المطالبة بـ'مكانهم المستحق في العالم المتنور' بينما يشرح الظروف السائدة في بلدهم: 'هناك بطالة كبيرة، وفساد، والكثير من المخدرات، وسخط عام. لا يمكنكم أن تطعموا أطفالكم يورانيوم مخصباً ويقال للأطفال أن يظلوا جائعين قليلاً، وجاهلين قليلاً'. إن أطفال إيران يعانون فقط لأن ' حفنة من المتشددين المتدينين يتخذون أسوأ مسار ممكن'. بدلاً من الالتفات إلى أحمدي نجاد الذي شكك في صحة الهولوكست في العام 2006، ينبغي على المواطنين 'إسقاط أولئك القادة... الذين لا يخدمون الشعب'. وإضافة إلى ذلك، وبينما 'يقومون بتدمير شعبهم، فإنهم لن يدمرونا نحن'.

إن هذه الاتهامات ثرية. حتى الوقت الحالي، يظل استقلال القضاء الإسرائيلي منقوصاً، والعلمانية تفقد الأرضية، ورهاب الأجانب يتعاظم، والآن ودائماًَ يتم اختزال الأقلية الفلسطينية إلى مجرد مواطنين من الطبقة الثانية. مع توصيفها للتهديد الإيراني، فإن طبقة إسرائيل السياسية المثقلة بالانقسامات، والمتفقة مع ذلك، إنما تديم حكمها بالرعب، والذي يزرع حسب رأي مونتسكيو بذور الطغيان والاستبداد.

ينبغي على الإسرائيليين أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانت هناك نقطة يمكن وراءها أن يصبح المسعى الصهيوني خطراً على نحو مهدد للذات، ومفسد وحاط للقدر. رغم أن فكرة اجتثاث اليهود تطبع معظم تاريخ الشعب اليهودي، فإنها لا تشكل اللحظة التي تصف تجربته. إن منفى اليهودي الألفي الذي أضفيت عليه سمات الميثولوجيا يمكن أن يكون أي شيء عدا عن أن يكون عصراً مظلماً سرمدياً وأزلياً بلا نهاية: ثمة حياة يهودية كاملة الحيوية سادت قبل حادثة المحرقة النازية، والتي استؤنفت بكامل الطاقة بعد العام 1945، في كل من إسرائيل والشتات. ولعل مما لا ينكر المحرقة ولا يسيء إلى ضحاياها الخمسة إلى الستة ملايين أن نتذكر عضويتهم في فيدرالية تتكون من أكثر من 70 مليون شخص ممن قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية، ما يقارب 45 مليوناً منهم من المدنيين. إن هذا التذكير يأتي ببساطة للإشارة إلى أن الكارثة اليهودية كانت مرتبطة على نحو يتعذر فصمه بأكثر الحروب قتلاً ووحشية في تاريخ البشرية، حرب كانت وحشية على نحو فريد بسبب أحقادها الصليبية، وليس بسبب الحكاية المقدسة عن اليهود.

يظل 'الشرق الأوسط الكبير' مجمعاً قاتماً للصراعات المحلية والدولية. وسيكون على كل دول هذا الحيز الجيو-بولوتيكي المليء بالتحديات المستمرة أن تتكيف مع صعود نظام عالمي متعدد الأقطاب ومع الأفول الراهن للإمبراطورية الأميركية. ويتداخل هذا التغير الهائل والمتسارع في المشهد السياسي الدولي مع الهجوم السريع لعولمة الاقتصاد والتمويل والعلم، مما يختزل الاقتصادات المحلية في الوقت الذي يعمل فيه بالتزامن على تعزيز نوعية من التجارة تضع شروطها جوقة جديدة من القوى العظمى.

يجد قادة إسرائيل أنفسهم على تقاطع طرق: إما أن يتمسكوا ببنادقهم ويجبروا على الدخول في واقع جيو-سياسي معاد التشكيل، والذي لا يستطيعون أن يبزوه في حصافته وسيادته، أو أن يقرروا بشأن طبيعة توافقهم مع الواقع ويقللوا من غطرستهم ويلجموا رغبتهم في الانتقام. فما الذي ينبغي أن يختاروه في لحظة يواجه فيها المجتمع الإسرائيلي انحداراً في مستوى الهجرة اليهودية، وصعوداً في الهجرة الإسرائيلية واليهودية المعاكسة، وتحولاً في التوجهات المكرسة، (هذا إذا ما تجاهلنا الكيفية التي يمكن بها لهذا التنافر أن يؤثر على المعدل المنحدر للاندماج والانسجام في الشتات)؟

كبداية، ينبغي على حكام إسرائيل ومثقفيها البارزين أن يعيدوا التفكير في الفرضيات الأساسية، والأهداف والاستراتيجيات التي انبنت عليها السياسات التي سادت منذ العام 1948. وقد يفعلون حسناً إذا ما استذكروا أفكار ثيودور هيرتزل المبكرة: في مقابل كومونويلث يهودي يخدم كـ'بؤرة أمامية للحضارة في مقابل البربرية' في فلسطين، وهو ما اعتبر حلقة في 'تعالي أوروبا على آسيا'، فإن القوى العظمى ربما تضمن وجودها باعتبارها 'دولة محايدة'. ولعل من المؤكد بالنسبة لمعظم اليهود الإسرائيليين أن النزعة الاستشراقية الصارمة لهذه الرؤية قد أصبحت مستهلكة وفي غير موسمها. لكن فكرة  الدولة المحايدة لا ينبغي تجاوزها وإهمالها باستخفاف. إن الدولة 'الثكنة' الحالية لا تبدو وأنها على وشك أن تصبح، كما استشرف هيرتزل 'ضوءاً ينير على الأمم' – ناهيك عن اليهود في الشتات.

ثانياً، ربما يعترف هؤلاء القادة لأنفسهم بأن الدول الصغيرة لا تمتلك المقومات لتتحدث بصوت عال وتحمل عصا كبيرة، وبأنهم إنما يداومون على إغواء القدر بالإبقاء العنيد على مسار إسرائيلي النووي. لا يمكن لهذا التجاهل أن يساعد سوى بزيادة معضلات الانتشار النووي في الشرق الأوسط ووسط آسيا، والذي لن تكون إسرائيل محصنة منها. إن المراهنة بأمن بلد صغير جداً وبقائه على أساس ريادة أقليمية آنية وتفوق في الرؤس الحربية والطائرات والصواريخ والطائرات من دون طيار والقنابل العنقودية والأسلحة الفضائية، يظل مرة أخرى ضرباً من الوهم. على نحو حتمي، سوف تتحدى إيران ودول أخرى تفوق هذه الدولة، ما يعرض كامل المنطقة في الغضون إلى تحقيق الفكرة التي لا يفكر بها أحد، الخاصة بالدمار المتبادل المؤكد والمحقق للمهاجم والمدافع كليهما، حين يمتلك كل منهما رادعاً على شكل ضربة نووية ثانية أو قدرات كيميائية وبيولوجية. وعلى أن طهران ربما ما تزال تفتقر إلى نظام دفاع جوي فعال ضد الصواريخ، فإنها قد اختبرت صواريخ بالغة السرعة، والتي يبلغ مداها الضارب إسرائيل. لكن لدى إيران ميزتين إضافيتين أخريين: موطئ قدم على المدخل الشمالي لمضيق هرمز الضيق، وهو أهم نقطة عبور لإمدادات العالم من الطاقة، إضافة إلى قرب جيو-سياسي بالغ الحسم والأهمية في كل من العراق وأفغانستان وباكستان.

بدلاً من قيادة الشحنة الإقليمية النووية والبيولوجية، ينبغي على إسرائيل أن تطلق نداء من أجل شرق أوسط خال من الأسلحة النووية، إلى جانب إعلان عن خفض يعتد به في ترسانتها النووية المتضخمة الخاصة وصناعة السلاح لديها، وهما الأمران اللذان يأتيان عليها دائماً بآثار عكسية ويتسببان باستفزاز مشاعر المنطقة. يمكن لإجراء محسوس ورمزي، مثل إجراء خفض عسكري أن يترافق مع إشارة تقول إن إسرائيل مستعدة لأن تناقش بجدية مسألة اللاجئين الفلسطينيين. وربما يتخذ ذلك شكل التعبير عن الندم، وتحمل مسؤولية أخلاقية جزئية عن خروج وهجرة أكثر من 700.000 من الفلسطينيين العرق من ديارهم في الأعوام 1947-49، وبذل جهد دولي من أجل إجراء تعديلات على شكل استعداد للانسجام مع خطوط قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.

في أعقاب الهجوم الدموي والمدمر، جمع مؤتمر للمانحين مبلغاً وصف إلى 4.5 بليون دولار من أجل إغاثة وإعادة بناء غزة. وبينما التزمت الدول العربية بالجزء الأكبر من هذا المبلغ، وعلى رأسها العربية السعودية، التزمت الولايات المتحدة بمبلغ 900 مليون للسلطة الفلسطينية، و300 مليون للإغاثة في غزة. ماذا لو كان قد تم جمع هذه الأموال في وقت أبكر؟ كانت ستذهب إلى تحسين الاستعدادات، وتوزع كإجراء لبناء الثقة، وربما كانت المنطقة ستنجو من غزوات لبنان وغزة السامة سياسيا والمغثية إنسانياً.

إن توجهات من هذا النوع، تتلوها توجهات من دول أخرى، ربما تكون هي الخطوات البدئية والأساسية لإسرائيل من أجل تحديد خطوط قواعدها فيما يخص إقرار اتفاق متفاوض عليه على الأمن والحدود والمستوطنات والقدس والأماكن المقدسة ومصادر المياه. ويمكن لمثل هذا التحول وهذه الأجندة أن ينقضا تعويذة المتشددين العلمانيين والمتدينين وتطلعهم البعيد الشأو إلى بلوغ نهر الأردن والاعتماد على استراتيجية الجدار الحديدي. إن السعي إلى المصالحة والتكيف مع الطبقة السياسية الفلسطينية القائمة، والأنظمة العربية الحادة، والعالم الإسلامي المضطرب، كل ذلك يعني خذلان نمط يوشع العسكري، والصهيونية المغلقة لوايزمن وجابوتنسكي وبن غوريون وبيغن ونتنياهو وباراك. إن مثل هذا السعي سوف يدعو إلى، بل إنه سوف يتيح تعافي واستعادة الاتجاه الإنسانوي من نمط أشعيا، والصهيونية المنفتحة لكل من أحاد هاعام، مارتن بوبر، يوداه ماغنيس، إيرنست سايمون ويشياهو ليبوفيتز، إما لغرض خلق دولتين منزوعتي السلاح أو دولة واحدة ثنائية القومية لشعبين بحدود مفتوحة، وبفصل الدين عن الدولة، وبحقوق مدنية واجتماعية عالمية، وبفهم ثقافي مستنير ومتبادل.

إن بومة منيرفا تبسط جناحيها فقط في الغسق للاعبين السياسيين كما وللفلاسفة. وعلى قادة إسرائيل، بينما يتأملون بعقلية أكثر نقدية في اعتقاد هرتزل بالحاجة إلى راع إمبريالي، ينبغي أن يدركوا التداعيات التي تنطوي عليها بداية أفول الإمبراطورية الأميركية على مستقبل إسرائيل. فيما ينطوي على المفارقة، فإن من المرجح كثيراً أن يفضي خفوت هيمنة واشنطن على 'الشرق الأوسط الكبير' إلى إسباغ التواضع على كبرياء إسرائيل، وأن يمنح للصهيونية المتنورة والإنسانية المتحضرة درساً جديداً، ولو كان صعباً، عن الحياة. ولكن، وطالما ظلت الولايات المتحدة تناضل أفولها بالأسنان والأظافر، فإن من المرجح أن تظل نخبة السلطة في إسرائيل باقية على عنادها، رغم كل المخاطر والمتاعب التي تتسبب بها لبلدها نفسه ولشعبها المنتشر في الشتات.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد