وُضعت سوريا في الاستراتيجيّة الأميركيّة منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، عندما رأت إدارة جورج دبليو بوش الابن أنّ على دمشق أن تختار بين المحورين، محور أميركا أو المحور الآخر. وقد رأى البنتاغون أنّ الرئيس بشار الأسد جزءٌ من المشكلة، ما أدّى إلى وضعية أكثر عدوانية تجاه سوريا (انظر، دايفيد دبليو ليش، «سوريا سقوط مملكة الأسد»، ترجمة أنطوان باسيل، الطبعة الأولى، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014، ص 25 - 26).
يشكّل دعم الرئيس بشار الأسد لحزب الله في لبنان، وحركات المقاومة الفلسطينيّة، وفي مقدمتها حركة «حماس»، فضلاً عن علاقاته الاستراتيجية مع إيران، مشكلة كبرى في العلاقة السّورية مع واشنطن، وقد شكّلت الحرب ضدّ تنظيم «داعش» ذريعةً مناسبةً للولايات المتحدة الأميركيّة، لتعود قوّاتها العسكرية إلى المنطقة العربية من بابها الواسع، عبر إعادة تموضع هذه القوّات وزيادتها في العراق، بعد الانسحاب منه عام 2011. ومن ثم الدخول إلى سوريا، التي لم تنصع للسياسات الأميركية، وبالتالي إعادة تثبيت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط.
ومنذ أن أعلنت الولايات المتحدة مدّ نطاق ضرباتها الجويّة ضدّ «داعش» في الأراضي السوريّة، بدأت تعتمد على شريكين للعمل في الميدان العسكريّ: الأول هو المقاتلون الأكراد من أعضاء وحدات «حماية الشعب» الذين أدى تعامل الأميركيّين معهم إلى استفزاز الجانب التركي، والنوع الثاني هو المقاتلون من المعارضة السورية. بحلول أكتوبر/ تشرين الأول 2015 نشرت الولايات المتحدة أول دفعة من قواتها الخاصة إلى سوريا، كأول وجود عسكري أميركي على الأرض منذ بدء الحرب السورية وتشكيل التحالف الدولي في أغسطس/ آب 2014 بعد أحداث الموصل.
ومع تسلّم دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض، أوعز إلى البنتاغون في 27 ديسمبر/ كانون الأول 2016 بإعداد خطة هجومية بقدر أكبر لمحاربة تنظيم داعش في سوريا وتقديمها خلال شهر، وخطة أخرى حول مناطق آمنة، ودخلت القوات الأميركية مباشرةً في ساحة الصراع عندما نشرت جنوداً في منطقة منبج إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على المدينة لردع أي تحركات للقوات الروسية أو قوات النظام أو القوات التركية والفصائل المتحالفة معها، (البنتاغون يسلم ترامب خطته الجديدة لتدمير "داعش"، روسيا اليوم، 27 فبراير/ شباط 2017).
كانت المهمة الأميركية تقوم في سوريا على ثلاث نقاط رئيسيّة، هي:
1- تثبيت السيطرة الأميركية وعدم السماح لروسيا وإيران بملء الفراغ من خلال محاربة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
2- الاعتماد على التدخل العسكري المحدود الذي يقوم على الضربات الجوية، والنشاط الاستخباري والعمليات الخاصة المحدودة، وتجنّب التدخّل البرّي الواسع لمنع استنزاف هذه القوّات.
3- تسليح القوات البرية الحليفة، وتدريبها، وإسنادها، مثل قوات سوريا الديمقراطية، وبعض قوى المعارضة السورية، لتشكّل أداةً عسّكريّةً لمحاربة الدولة السورية، وتكون حليفاً رئيسيّاً لواشنطن في سوريا.
4- تعزيز الوجود العسكري الأميركي في سوريا لمحاصرتها، ومن ثم السيطرة على آبار النفط في شرقها.
«درع الفرات» في الاستراتيجية الأميركية
لقد سعت واشنطن من خلال انتشار قوّاتها في سوريا، إلى السيطرة على المنطقة المعروفة بـ«درع الفرات»، الواقعة ما بين نهر الفرات إلى الشرق وتلك الواقعة إلى الغرب منه، التي كانت تسيطر عليها «داعش»، لما تحتويه من ثرواتٍ نفطيةٍ يمكن واشنطن الحصول عليها، والاستفادة من موقعها خلال أيّة مفاوضات تحفظ لها مكاسب اقتصادية في سوريا. كذلك فإنّ هذه المنطقة هي منطقةٌ واصلةٌ بين سوريا والعراق، تسعى واشنطن من خلالها لمنع التقاء الجيشين السوريّ والعراقي وعدم فتح الحدود السورية العراقية من خلال السيطرة عليها، وبالتالي منع إقامة طريق يمتد من إيران مروراً بالعراق، وصولاً إلى سوريا.
لم توفر واشنطن سبيلاً إلا واستخدمتها، ومنها «الحرب بالوكالة» في سوريا، من أجل تنفيذ مشروعها لشرق أوسط جديد، وسعت إلى تغيير النظام في سوريا، وتقطيع أوصال الدولة السورية وتدمير بنيتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وحاولت شرذمتها على أسسٍ طائفية. وتحت ذريعة محاربة «داعش»، دخلت القوات الأميركية وقواتٌ تابعةٌ للتحالف الدولي إلى عدّة مناطق، لكي تتمكّن من إقامة عدّة قواعد عسكرية، تحافظ من خلالها على وجودها في سوريا، لقطع الطريق على الوجود الروسي والإيراني في المنطقة، حيث تنتشر في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سوريا العديد من القواعد العسكريّة الأميركية.
آبار النفط والقواعد العسكرية الأميركية
وتتوزع القواعد العسكريّة الأميركيّة شرق سوريا، في المنطقة الممتدّة شرقي نهر الفرات من جنوب شرق سوريا بالقرب من معبر التنف الحدودي، إلى الشمال الشرقي بالقرب من حقول رميلان النفطيّة، وتتوزّع في الحسكة ودير الزّور وحلب والرّقة.
أضف إلى ما تقدم، أن توزّع القواعد الأميركيّة جعلها أشبه بالطوق الذي يُحيط بمنابع النفط والغاز السوري الموجود شرقيّ نهر الفرات، وهو ما يُمثل غالبية الثروة الباطنيّة لسوريا. وقد أقامت واشنطن قاعدةً استراتيجيّةً لها في منطقة التنف، حيث تأتي «أهمية البادية السوريّة في أجندات واشنطن من خلال السيطرة على معبر التنف الحدودي، الذي حوّلته إلى قاعدة عسكرية عام 2017، وتقع في منطقة المثلّث السوري العراقي الأردني، حيث تتمثّل أهداف هذه القاعدة أساساً بتعطيل الممرات التي يستخدمها حلفاء سوريا. (انظر، أحمد العبدالله، «البادية السورية وأهميتها في أجندات أطراف الصراع»، مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي «مينا»، 26 نيسان/أبريل 2019، ص 9.)
ومنذ بداية الحرب في سوريا حتى الآن، يبدو واضحاً أنّ واشنطن تريد معاقبة سوريا بسبب وقوفها إلى جانب قوى المقاومة، ودعمها للقضية الفلسطينيّة، وعدم تبعيتها للإدارة الأميركيّة، وتحويلها إلى دولة غير قادرة على تهديد أمن «إسرائيل»، وإبعادها عن المنظومة الممانعة لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط. ونتيجة إنهاك الدولة السورية بالحرب مع الجماعات الإرهابية، استغلّت تركيا ذلك، لتقويض سيادة هذه الدولة، واحتلال أراضٍ لها، بعد أن دعمت المعارضة السورية بشتّى السبل، وفي هذا السياق يأتي الهدف من إقامة المنطقة الآمنة الأميركية التركية، التي تعد أحد تجليات المشروع الأميركي في منطقة شرقيّ الفرات.
علي مطر - الاخبار