أبحاث ودراسات » لبنان...وتقاطع الداخل والإقليم

لبنان...وتقاطع الداخل والإقليم
بقلم: جوزيف باحوط (*)

ترجمة خاصة لميديا أوبزرفر

مرّةً جديدة، ذكّرتنا حرب صيف العام 2006 بين إسرائيل ولبنان- أو حزب الله كما يقول البعض- بتأثّر بلاد الأرز المحزن في الصّراعات الإقليميّة. إذ فضلاً عن القتالات الدّاخليّة، يشهد لبنان نزاعات أخرى: قتال للحصول على السّلطة بين سوريا وإسرائيل والولايات المتّحدة، وحرب إستباقيّة بين إيران والولايات المتّحدة وإسرائيل، وحالة النّزاع العالميّة والسريّة الّتي تحكم القضيّة الإسرائيليّة الفلسطينيّة، وبالطبع المستنقع العراقي.
ولهذه الأسباب، لا يمكن إبعاد هذه الأحداث العنيفة عمّا يجري على السّاحة السّياسيّة اللّبنانيّة منذ منعطف صيف العام 2004 وتبنيّ مجلس الأمن للقرار 1559 أو منذ 14 شباط/فبراير 2005 تاريخ مقتل رئيس الحكومة السّابق رفيق الحريري في قلب بيروت.


إستنتاج مرفوض سياسيّاً

إنّ مسألة معرفة من ربح الحرب ومن خسرها هي بالطّبع مهمّة على المستوى الاستراتيجي، ولكنّها أيضاً أساسيّة على مستوى تداعيات هذه الحرب على الحياة السّياسيّة اللبنانيّة منذ نهاية أعمال العنف. والجواب على هذه المسألة والمثير للجدال، يُظهر هذا الإنقسام المتنامي في قلب البلاد ويغذّيه وقد يؤدّي إلى الطّلاق بين ما يُعرف بفريقي 14 و8 آذار.

وإذا اعتبر حزب الله بأنّ هذه الحرب إنتهت ﺒ'نصر إلهي'، حتّى ولو اعترف (السيّد) حسن نصر الله بأنّه أخطأ في حساباته، فإنّ المعارضين لحزب الله قد حملوا اعترافه هذا ضدّه وسخروا من الطّابع الدّيني 'للنجاح' الّذي يناقض فكرة الإنتصار، وذلك للتأكيد على أنّ الحرب شكّلت كارثةً على لبنان.
وفي الواقع سيكون من السّخيف إخفاء هذا الأمر، فخسائر حزب الله مهمّة. لقد خسر رجالاً واستهلك جزءاً من ترسانته وعرّض شعباً يعتبره سنده والحامي له للعنف الكبير لمدّة ثلاثة وثلاثين يوماً. والخسارة المهمّة الأخرى هي أنّ الحزب لم يعد يملك الجنوب اللبناني الّذي كان ملجأه حيث يستفيد من ترابط إجتماعي واقتصادي وعسكري متين جدّاً. وهذا ما حرمه من نمط الحياة الّذي كانت العصابة تتّبعه من خلال التحرّك بتناغم إجتماعي مع شعبها. وفضلاً عن ذلك، خسر حزب الله خريطة الرّدع لديه لأنّ الجيش الإسرائيلي صار يعرفها جيّداً.
وعلى المستوى السّياسي فالخسائر مهمّة أيضاً، إذ عزّز النّزاع الإهتمام الدوليّ بالقضيّة اللبنانيّة وذلك من خلال القرار 1701 الّذي رفع عدد القوّات الدوليّة إلى 13000 جنديّاً. والأمر المهمّ أيضاً، هو أنّ التّوافق الّذي أعلنته مجموعة القوى السّياسيّة في البلاد حول مسألة المقاومة قد تبخّر مع الهواء في خلال الحرب. ومع 'احتكار قرار شنّ الحرب'، فقد حزب الله المظلّة الّتي كانت تؤمّن له الغالبيّة النّيابيةّ والحكوميّة، وصار خارجاً عن القانون بنظر قسم كبير من الرأي العام.

وفي مقابل هذه الخسائر الماديّة والسّياسيّة، نتلمّس انتصار حزب الله في ميادين أخرى. فمن المؤكّد أنّه، أمام عدم خسارة (عصابة) حزب الله في وجه جيش نظامي، ومع الحديث المستمرّ عن الحروب غير المتساوية، لقد ربح الحزب. فللمرّة الأولى منذ العام 1948، شهد الجيش الإسرائيلي هزيمةً واضحة وكاملة، هزيمةً هي دون شكّ عميقة لاستراتيجيّة الرّدع لدى إسرائيل وقدراتها. فضلاً عن ذلك، أظهر حزب الله قدرة منظّمة على مختلف الأصعدة، فصار بديلاً (عن الحكومة اللبنانيّة) وذلك من خلال إدارة شؤون المواطنين وإعادة الإعمار، وقدّم مثالاً معاكساً عن الدّولة الفاشلة والعاجزة. وفي هذا الإطار، جاء حجم الشّعبيّة العربيّة والإسلاميّة الهائل الّذي ربحه الحزب تعويضاً كبيراً عن التّوافق اللّبناني الّذي خسره.
وإذا كان حزب الله قد فقد رأسمال التّعاطف السّياسي اللّبناني مع المقاومة، إلا أنّه في المقابل، ربح قدرةً على التّعبير بطريقة رسميّة أنّ قضيّة نزع سلاحه لن تُفرض بالقوّة ووحده الحوار الدّاخلي والإقليمي قد ينجح يوماً. ومع إعادة طرح إشكاليّة المقاومة بين المواضيع الّتي تأخذ أولويّةً على الأجندة السّياسيّة للبلاد، وضع حزب الله نهاية لحوالي سنتين من الخجل السّياسي بعد اغتيال الحريري، وذكّر الأطراف اللبنانيّة الأخرى بأنّ أساسات الصّراع العربي-الإسرائيلي، كما يقرأها الحزب والمقاومة على الأقلّ، تستمرّ بالتأثير على الجّانب السّياسي.

حزب الله وإيران وسوريا

هناك استعارة يتمّ استخدامها دائماً لوصف العلاقة بين حزب الله وسوريا وإيران وهي يد (الحزب) الذّراع (سوريا) والرأس (إيران). ومهما كانت هذه الصّورة جاذبة ودون التقليل من أهميّة الجزء الحقيقي منها، ولكن تستحقّ هذه الإستعارة أن تكون غير بنّاءة مع إدخال رؤية ديناميكيّة تاريخيّة. ومنذ تأسيس حزب الله لم يتوقّف عن لعب دور جانوس1 سياسي، من خلال ازدواجيّة توجّهه كحركة سياسيّة إيديولوجيّة وكبنية شبه عسكريّة. فضلاً عن ذلك، يمكن تقديم حزب الله على أنّه مخلوق من ثلاثة وجوه، وجه لبناني من خلال الإستقطاب والتّعبئة، ووجه سوري من خلال عمقه الجغرافي-الاستراتيجي والأمني، ووجه إيراني عبر الإلهام الفلسفي وموارده التمويليّة والرّمزيّة.
والحزب لا يخفي انحيازه للاستراتيجيّة السّوريّة في الصّراع العربي- الإسرائيلي، ممّا يوفّر لدمشق قوّةً تسمح لها بتحسين شروط التّفاوض مع إسرائيل. فضلاً عن ذلك، لا يخفي الحزب انحيازه (تحالفه) مع إيران المقاومة للسّياسة الأميركيّة في المنطقة، لا سيّما منذ اندلاع الحرب في العراق. ولكن يجب الملاحظة أنّ هذا التّوازن بين هذه الأبعاد الثّلاثة وتفوّقها النّسبي يتقلّبان مع الوقت. وهكذا، ومن المفارقات، نستطيع أن نشير إلى أنّ حزب الله كان أهمّ المستفيدين من الإنسحاب العسكريّ السّوري من لبنان، إذ ملأت إيران فراغاُ جغرافيّاً استراتيجيّاً لمصلحة حزب الله. وبطريقة أو بأخرى، سيصير الحزب إيرانيّاً أكثر من أن يكون سوريّاً، ونستطيع القول أيضاً إنّه لبنانيّاً أكثر من كونه سوريّاً-إيرانيّاً من وذلك من أوجه كثيرة.
وبالرغم من أنّه لا يمكن إنكار أنّ جزءاً من حركة حزب الله على السّاحة اللبنانيّة السّياسيّة يعكس الاستراتيجيّة السّوريّة الإيرانيّة، إلا أنّ إخفاء البعد الشّيعي لاستراتيجيّة الحزب في قلب المجتمع الطّائفي في لبنان، سيقود إلى تجاهل جزءاً كبيراً من الديناميكيّة السّياسيّة اللبنانيّة النّامية اليوم.    
وكان الوجود السّوري في لبنان جوهريّاً بالنسبة إلى البنية السّياسيّة اللبنانيّة الّتي وضعها اتّفاق الطّائف. وبالمعنى العريض فإنّ هذا الاتّفاق يرتكز على نقل الامتيازات، الفاحشة أحياناً، من رئيس الجمهوريّة (الماروني) إلى الجهاز الجمعي الّذي أصبح مجلس الوزراء (ويديره السنّة)، وأعطى هذا التوزيع قوّة سيطرة للسنّة على المؤسّسات اللبنانيّة. 'فالوصاية' السّوريّة كانت طريقةً لإعادة التّوازن إلى اللّعبة، من خلال إعطاء ضمانات للشّيعة الّذين لم يكن لديهم سوى رئاسة أضعف، السّلطة التّشريعيّة. ويمكننا التفكير بأنّ الإنسحاب السّوري من لبنان في نيسان/أبريل 2005، وضع الشّيعة اللبنانيّين في موقفٍ سياسيٍّ دفاعيٍّ. حتّى أنّ جزءاً من حركتهم يُترجم إلى طلب إعادة توازن مؤسّساتي، وربّما يوماً ما دستوري، من أجل تعويض الخسارة الّتي سبّبها الإنسحاب السّوري.


العلاقات اللبنانيّة-السّوريّة

إذا رجعنا في التّاريخ القديم، قبل اتّفاق الطّائف، أي منذ تأسيس الكيانين في العام 1920، نستطيع أن نفهم العلاقات الصّعبة الّتي جمعت لبنان وسوريا وهي مبنيّة على المفاهيم المقطوعة والحقد والغيرة المتبادلة. وأحد هذه المفاهيم الّتي يمكن أن نجد لها أساسات تاريخيّة، طوّرت فكرة أنّ النّخب السّياسيّة والفكريّة والتجّار السّوريّين لم يعترفوا يوماً بوجود لبناناً مستقلّاً، وهذا ما يشكّل عنصر تفكير أساسي للّذين يسعون إلى تغيير النّظام في دمشق، لا سيّما في الغرب. وفي الواقع، لم يعد الأمر متعلّقاً بمعرفة إذا كانت هناك بدائل صالحة للنّخب الموجودة حاليّاً في السّلطة، ويجب أنّ تكون هذه الفّرق البديلة مع الاعتراف باستقلال لبنان. وفي هذه القراءة المثيرة للإرتياب حول المحيط الجّغرافي-السّياسي، لطالما رأت سوريا في لبنان أنّه مساحة سياسيّة مولّدة للمشاكل وممرّاً غربيّاً تُحضّر فيه مؤامرات ضدّ دمشق.

ومن خلال هذا المفهوم يمكننا أن نفهم اغتيال رفيق الحريري. وإذا استثنينا فرضيّة أنّ ما حدث هو فعل انتقام غير عقلي، لقد سهّل عمليّة تمديد ولاية الرّئيس لحّود، لذا لم يكن هناك سبباً منطقيّاً لإلغائه. ومن هنا لا يمكن تفسير اغتيال الحريري سوى بأنّه تمثيل (لإرادة) مجموعة إتنيّة-جغرافيّة-سياسيّة بين سوريا ولبنان نفّذته النّخبة في سلطة دمشق. إذ شعرت السّلطة العلويّة بأنّها 'مطوّقة' بالإحتلال في العراق وبالقرار 1559 في لبنان، ومن هنا قد تكون فضّلت إلغاء من اعتبرته 'رأس الجسر' لمؤامرة سنيّة سوريّة-لبنانيّة.


مشاكل التّوازن اللبناني الدّاخلي منذ نهاية الحرب

منذ يوم 14 شباط/فبراير 2005 الشّهير، تاريخ اغتيال الحريري، يعيش لبنان مرحلة إنتقاليّة غير منتهية ولا أفق واضح لها. وتضع هذه المرحلة فريقين في إطار المواجهة الّتي لم تعد عبارة عن مجرّد تعارض سياسي، لكنّها تحوّلت إلى طلاق غير قابل للمصالحة. والأسوأ من النّزاع السّياسي بين الفريقين هو المواجهة بين الرّوايتين الّلتين تتضمّنان خطّتين متباعدتين عن نشأة الكون، يريد من خلالها كلّ فريق أن يؤسّس للبنان جديد. ويملك كلاهما أيضاً محطّة تلفزيونيّة واحدة أو أكثر ذات تمويل ماديّ ضخم.

ويؤكّد فريق 14 آذار- الّذي يعيد كتابة التّاريخ- أنّه مؤلّف من قوى إستقلاليّة تعلن أنّ سوريا هي العدوّ من الآن فصاعداً وأنّ الخطر على لبنان يأتي من الشّرق. فمنذ الإنسحاب الإسرائيلي في العام 2000، لم يعد حزب الله سوى امتداداً للمحور السّوري-الإيراني وجيش أجنبي يعمل لصالح دمشق وطهران. كما أنّ المجتمع الدوليّ الّذي يعتبر حزب الله بأنّه كيان غير منظّم، يتدخّل لحماية لبنان وإنقاذه.
وأمام ذلك، هناك رواية المعارضة ولا سيّما حزب الله، تذكّر بأنّه، في ما خصّ الوصاية السّوريّة، كانت المسؤوليّات موزّعة والتعاون جاري، وبأنّ التدويل الّذي يحلّ مكان الوصاية السّوريّة اليوم، ما هو إلا ذرّ رماد في العيون لتحقيق مشروع المحافظين الجدد الأميركيّ الّذي  يدمّر الشّرق الأوسط. ويقوم حزب الله بالتعاون مع حلفائه الإقليميّين بمواجهة هذا المشروع، وفي صيف 2006 وجد في المغامرة الإسرائيليّة وفي تصرّف الفريق الحاكم اللبناني الجديد مرحلةً إنتقاليّةً شبه مقنّعة.
 
ومرّةً جديدة، إستخدمت السّاحة السّياسيّة اللبنانيّة الّتي وجدت نفسها على خطّ الفشل بين التوتّر الداخلي والنّزاعات الإقليميّة، قصّتين متنازعتين من الماضي وقراءتين متعاديتين عن الحرب وما بعدها، وهي تغذّي رؤيتين متناقضتين حول مستقبل للبنان ما زال وسيبقى مثيراً للجدال.

(صدرت هذه الدّراسة في 'رامسيس 2008' –التقرير السّنويّ العالميّ حول النّظام الإقتصاديّ والاستراتيجيّات- ونشره المعهد الفرنسي للعلاقات الدوليّة تحت إدارة تييري دو مونتبريال وفيليب مورو-ديفارج).
هوامش:
1- جانوس هو إله في عهد الرومان ذات رأس واحد ولكن وجهين متعارضين.
(*) مدرّس وباحث في معهد سيانس بو (العلوم السّياسيّة) في باريس، ومدير الأبحاث في منتدى MEP في بيروت.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد